عن مهرجان بعلبك المرتجل وفارسه المستوحد
القلعة هي الديوان، والمهرجان قصائد، وبعلبك هي المكان والزمان معاً، وهي الشاعر والجمهور، والباقون ضيوف يأتون في طلب النشوة متعجلين ويعودون متذمرين من طول المسافة ومشاق الطريق.
قالوا: فليكن مهرجان هذه السنة للبعلبكيين.
ولأنها منحة ملكية لا ترد فقد احتشد في كواليس القلعة كثير من البعلبكيين: آل كركلا، الفنان القائد المؤسس، عبد الحليم، وولي العهد المجدد ايفان، والعم صاحب القدم التي تختزن البهجة، عمر… ولأن الفرقة ذات السمعة الدولية ليست بحاجة إلى نصوص معقدة، فقد كلف طلال حيدر نفسه ان ينظم الفواصل التي يمكنها ان تربط بين «الشخوص» ثم بين الحركة والغناء الذي اختير له «الفارس» عاصي الحلاني.
في العادة يقصد أصحاب الألقاب من سكان المدينة «القلعة» ليظهروا اهتمامهم بالثقافة العليا، كمثل الأوبرا، أو مشاهير المغنين والعازفين العالميين.. أما الليالي اللبنانية فيذهبون إليها في مواكب لنفي غربتهم عن الوطن المنسي.
ما لنا والسياسة، إنها مفسدة..
لم يكن المسرح في مكانه التقليدي. اختيرت له هذه السنة «خشبة» طويلة يظللها واحد من جدران القلعة سمح للعبة الإضاءة العبقرية بأن تجد للوحات الملونة مساحة لتشكيلات مبهجة، بلورت المشاهد وأكملت ما عجزت عنه المقاطع المقطعة من الأغاني الفولكلورية المنسية، ثم انها تكاملت مع مهرجان ألوان الفرح في ملابس أعضاء الفرقة وحركاتهم الرشيقة وكأنها خفق أجنحة.
توالت المشاهد أسراباً من الفراشات التي سرعان ما تصير طيوراً بأجنحة من حرير قبل ان تنقلب إلى قطا وغزلان وريم ورفيف حمام.
رفت الفراشات ناثرة ألوانها المكهربة على الجمهور الذي أخذته النشوة بعيداً، فقرأ في اللوحات المرسومة بعيون الدهشة فصولاً من حكايات منسية طالما ترددت مقاطع من نصها التلفيقي الواحد في جنبات القلعة منذ الستينيات وبلا انقطاع، ومع تفاوت في اجادة التعبير بالحركة أو بالكلمة أو بهما معاً.
الحكاية أضيق من ان تتسع لصوت عاصي الحلاني وشبابه وحيويته، خصوصاً انه في الأصل مطرب تعوّد ان يحتل المسرح وحده، بصوته وحركته الحرة ودبكته التي تنتقل بالعدوى إلى جمهوره فإذا به يهجر المقاعد إلى مباراة وهمية تنتهي بلا فائزين!
على ان الجمهور ظل ينتظر «عمر» والقدم الرشيقة لراقص الدبكة هذا الذي لا يشيخ… وعندما أطل أدرك الحشد ان النهاية قد اقتربت، فهذه لحظة الذروة، والخاتمة المتعجلة للحكاية المحبوكة على عجل والمقتبسة من إعادات لتراث الانقسام اللبناني الأبدي، الذي تقفله الحكايات بمصالحة لا تعيش حتى المهرجان التالي.
تعولمت بعلبك، لكن البعلبكيين ما زالوا ينتظرون ان يعود إليهم بعض الفرح الذي «صدّروه» إلى مختلف أنحاء لبنان، ثم عولمه عبد الحليم كركلا، وأطلقه مزخرفاً بالأساطير التي تسكن «خيمته» التي تشهد فصولاً من مسرحيات أكثر طرافة من مسرح الفراشات الطائرة على أجنحة الموسيقى والصوت الشجي لعاصي الحلاني الذي أضاف عموداً إلى القلعة التي يستذكرونها مرة في السنة وينسون أهلها دائماً.
كفرشوبا فرحان صالح: مثلث الفداء والصمود.. والنسيان!
هو رجل لا يتعب ولا يعرف اليأس. يكتب، ينظم الندوات، يحاول جمع من تفرق من أهل المشرق وأهل المغرب، معتبراً ان مصر هي «السرة»، وان عليه ان يكون حبلها الممتد منها إلى الجزائر فما بعدها غرباً، ومنها إلى لبنان وسوريا عبر فلسطين، وما جاورها جنوباً وشرقاً.
في كل زيارة يطرح فرحان صالح أفكاراً جديدة، ويترك كتاباً جديداً أو يحمل دعوة إلى مؤتمر فكري، أو يشركك في أمر يشغل باله، وما أكثر انشغالاته.
فرحان ابن كفرشوبا التي في العرقوب، من حولها تتناثر على سفوح حرمون، الهبارية وكفرحمام، وإلى الشرق منها شبعا، وفي الوادي الذي يخضره الحاصباني ميمس والماري. أما فلسطين فتنداح إلى الجنوب، أقربها الخالصة (التي صيّرها الاحتلال الإسرائيلي كريات شمونة) وسائر الجليل، في حين تتناثر قرى الجولان السوري على الصفحة الأخرى للجبل، في الأعالي القنيطرة وعند نهاية السفح بانياس.
حرمون، أو جبل الشيخ في بعض نقاطه، وسلسلة جبال لبنان الشرقية في التوصيف «السياسي».. و«المكان كان ساحة من ساحات السومريين والبابليين والكنعانيين والفينيقيين والأشوريين والفرس والرومان واليونانيين الذين تركوا بصماتهم فوقه، ومن ثم العرب والصليبيين والأتراك والفرنسيين والانكليز. تغنت التوراة بالمكان وأرّخت له وكأنها بذلك كانت تتغنى بكفرشوبا».
ولأنها تطل على فلسطين، ولأن غاباتها توفر بعض الحماية، ولأنها منطقة جبلية غنية بالمغاور، والطرقات إليها في الوعر مكشوفة، فقد فتح الأهالي قلوبهم وبيوتهم للفدائيين الذين قرروا ان يستعيدوا أرض آبائهم وأجدادهم في فلسطين في مواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي. ثم تم تشريع وجود المقاومة الفلسطينية في تلك الأنحاء باتفاق القاهرة 1969… فغدت جبهة حرب. ولأن دولة لبنان عوراء ولا تعترف بالملحقات فقد تركت تلك البقعة، كما الجنوب ومعظم البقاع ومعظم الشمال، للريح الإسرائيلية.
«ولقد اقتلعنا من المكان بطريقتين، بدءاً بالاهمال الرسمي للريف، ما ساعد تالياً المحتلين الصهاينة على ان يقوموا باقتلاعنا… وهكذا هجرنا بلد الخمر والزيت والقمح والابقار والاغنام والحمير والكلاب والطيور».
«.. بعد احتلال فلسطين انقلبت الحال. انقطعت صلاتنا مع محيطنا العربي. منذ ما قبل 1948 كان لنا جيران في فلسطين بينهم يهود قاموا بطرد جيرانهم وأهلهم من بلاد أجدادهم وأرضهم ليأخذوها بالقوة غصباً… وكانت المدن مشدودة إلى بعضها بعضاً: بنت جبيل إلى صفد وعكا، ومرجعيون إلى الخالصة والقنيطرة وحاصبيا ومرجعيون إلى طبريا».
في بعض أعداد «السفير» ما يشهد بالتهجير أو التفريغ الجماعي لتلك المنطقة من أهلها، نتيجة الغارات والحملات العسكرية الإسرائيلية، وسط العجز الرسمي المعزز بالاهمال والنسيان.عن هذه المنطقة المنسية التي عاد إليها معظم أهلها بعد التحرير، كتب فرحان صالح ما يشبه البحث التاريخي ـ الجغرافي ـ السياسي ـ الاجتماعي، معززاً بتجربته الشخصية وباستخلاصاته.
ولقد حظي الكتاب الذي يحمل عنوان «كفرشوبا ـ قصة حب.. سيرة مكان»، بشهادات مهمة بينها:
«من حق فرحان صالح. بعد سنواته العنيدة والطويلة، ان يروي لنا قصته التي تشمل الوجه الآخر من كفاحه وتجربته الفريدة والخاصة ـ د. خالد زيادة».
أما الدكتور منذر جابر فقد أشار إلى ان «فرحان صالح أضاف حاسة سادسة إلى القارئ، القلب وهو الأول من حواس فرحان. يكتب بالقلب ومنه. ويكتب عن الألم العبقري لكي يبقى النبض حياً في الأرض والإنسان والوطن. فرحان حر في عنوان سيرته. هي عندي (مشهد الطير)».
يستذكر فرحان صالح في كتابه، ضمن ما يستذكره، تجربته مع المقاومة الفلسطينية، خصوصاً «قائده» ناجي علوش.
على ان بين ما يلخص الوجع تلك العجوز التي قالت للجندي اللبناني الواقف على مفرق الهرماس ـ سوق الخان، من منطقة مرجعيون: الأرض للفدائيين والسماء لإسرائيل، والتذكرة لكم.
كفرشوبا التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي بين 1970 و1975 عادت إلى الحياة بعد التحرير، وجدد أهلها بناءها… لكن بعض اللبنانيين لا يمانعون في التخلي عن مزارعها.. طلباً لسلامة موهومة، في صفقة إذعان للاحتلال الإسرائيلي بتواطؤ مع بعض الأمم المتحدة.
لا ماء في الماء: محمد العلي والخليج الذي ينأى
مصادفة وقع في يدي ديوان لشاعر سعودي لم أقرأ له من قبل، فما تركته إلا وقد فرغت من آخر سطر فيه. أما الشاعر فهو محمد العلي، وأما الديوان فعنوانه «لا ماء في الماء». أما الناشر فهو نادي المنطقة الشرقية الأدبي.. وأما القصائد فقد جمعها وأعدها للنشر محمد بن عبد الوهاب الشقاق وحمزه بن حسين الحمود الشقاق، وهي تمتد منذ أواسط الخمسينيات وحتى اليوم، لذا تتعدد مناخاتها ومواقع نظمها وموضوعاتها التي اختلطت فيها الغزليات بالوطنيات بالمشاهدات اللبنانية، خصوصا التي تجمع ما بين برمانا وصخرة الروشة في بيروت.
«جميل سهاد المحبين/ حين يكون الظلام خليجا/ وتأدى إلى الأرض أنهارها
ثم ينأى الخليج الذي يحمل القلب/ ينأى إلى حيث يبقى الضباب: الحداء ـ الدليل هناك أقتل هذا الكمين المخاتل/ وما يسمونه: شعرا»
تقرأ في القصائد الكثير من الحذر، متى لامست أحداثاً سياسية كانت كالزلازل، وتدرك ان قلم الشاعر لم يكن حراً دائماً، أو ان الديوان لا يحتوي كل شعره، فبعضه أبقي طي النسيان حتى يظل «صاحبه» في التداول.
الديوان ضفاف للبحر الذي أعطى محمد العلي شعره، فهو ينثر رذاذه على القصائد جميعاً، ولا يضنّ باللؤلؤ أحياناً على ذلك الشاعر المتحدر من صلب صيادي المحار، في زمن مضى:
«بحرنا ثاكلة/ انه يتداخل في نفسه الذاهلة/ ثم يحثو الضباب على وجهه ويعود منكسراً.
«بحرنا يتأجج مثل الجواد، غاب فارسه فاستبد به الغيظ/ حمحم حتى تهدل لون الشجر/ وحتى استحال الصهيل الأغر/ دمية من حجر/ بحرنا شاعر لم يزل في المخاض/ (الهوى لحظ شآمية/ رق حتى خلته نفدا)
يخيم الشجن على بعض قصائد الديوان وان موّهه الشاعر بالغزليات التي قد تجمح فتصير بكائيات..
«خذنا تحت جناحيك/ أرنا عيداً واحداً ليس في كفن
أسطورة واحدة عذراء/ أرنا نهراً واحداً لا يرجع القهقرى
أرنا كيف نعثر على أنفسنا في هذه المقبرة المترفة».
ومع ان الشاعر (أو الناشر) تحاشى نشر القصائد السياسية (الراهنة) فقد تضمن الديوان قصيدة حزن قديمة، (عند الغارات على بغداد 1991):
وإني من ليل الغداة كقابض/ على الماء خانته فروج الأصابع
في الهزيع الأخير من القلب/ ها نحن تحت الرياح الغربية
«أيوجعك الحلم؟! أطلقه! دعه يفِضْ كما الموت
وأرشق به ما تراود أوراقك الذابلات، فتفتر، ترجع مسرعة للشجر.
«سجا الليل/ ليس حولك غير السراب/ أعد ما كنت تحمله من لآلئ تنثرها فوق لؤم الزمان»
«.. وتجادل في الماء/ هذي الرياح الغريبة تسفي عليك التتار
سوف يعود الفرات الفرات الذي مات، سوف يغيم الغبار
ألا تبصر (الزهر) تحت الرماد»!
يسكن محمد العلي الشعر الجاهلي حتى وهو يجوب العواصم التي كانت مشعة فانطفأت، فإذا ما غاب امرؤ القيس حضر طرفة بن العبد، لكن دليله يبقى هو هو: بدر شاكر السياب، وان انقلب النهر معه إلى بحر مع العلي:
«عمنا يا امرأ القيس/ قف باكياً بالطلول/ نحن نبكي هنا في الحقول/ عمنا يا امرأ القيس يا هذا، أرح جمالك السائبة/ ليس هناك غير الأودية المقفرة/ في داخلنا وفي التاريخ».
وفي قصيدة بعنوان الكرامة وتاريخها 1970 يطلق محمد العلي حزنه غضباً:
«أوسع الطريق لهذا النعش/ ولا تدع/ الجماهير المسرعة/ إلى لا شيء فرصة النظر إليه/ انه نعش الكرامة العربية/ التي لا تعرفها الجماهير لأنها منذ خلقت/ لم تعرف إلا الأغلال
الذين يعرفونها/ هم المثقفون/ الذين يشبهون الرايات البيضاء لا ترى إلا عند الاستسلام».
مع ذلك فإن الديوان ينبض قصائد حب وغزل، وتلمس آثار الهواء الرقيق في برمانا واضحاً في مسرى النغم.
مــن أقــوال نســمة
قال لــي «نســمة» الذي لم تعــرف له مهنة إلا الحب:
ـ لك ان تعشق من النساء من أردت لكن حبيبك سيظل واحداً. أما ان عرفت ان امرأتك كان لها عشيق فإن حبك يصير سيفاً على عنقها.
الحب يجبّ ما قبله من عشق. فاغفر لحبيبك انه كان إنســاناً حتــى قبل أن يعرفك. عش معه حبك يكن لك حبه كله.