على الطريق.. إلى جائزة الصحافة العربية
في بدايات العام 1999، تلاقينا في دبي بدعوة من «نادي دبي للصحافة». كنا مجموعة من النقابيين ورؤساء التحرير، يتقدمنا رئيس اتحاد الصحافيين العرب والأمين العام الفارس الذي سقط في ميدان الكلمة القاطعة كالسيف الراحل صلاح الدين حافظ. من الكويت الزميل محمد جاسم الصقر، الذي لم تأخذه النيابة من الصحافة تماماً، ومن سوريا صابر فلحوط، ومن الأردن سيف الشريف، ومن البحرين الدكتور علي فخرو، ومن الامارات خلفان الرومي، وغسان طهبوب اضافة إلى الهيئة الادارية للنادي يتقدمهم «العملاق» محمد القرقاوي ومعه تلك «النحلة» التي لا تغفل عن شيء، بعينيها الواسعتين الكاشفتين الخلف والفوق والشمال واليمين منى المري وبعض المعاونات الدؤوبات بأثوابهن الطويلة وحضورهن المشع عبر العيون التي في طرفها حور.
كانت الفكرة بسيطة: اعادة وصل ما انقطع بين الصحافيين العرب، بإقامة مؤسسة تجمعهم، متخطية بعد المسافات، عبر انشاء جائزة بل جوائز لمختلف فروع المهنة من المقال السياسي الى الريبورتاج الى السبق الصحافي الى الصورة والكاريكاتور، مع اهتمام بصحافة الطفل والبيئة والتحقيقات الميدانية الخ… على ان يشكل الاحتفال بتوزيع الجوائز على المستحقين فرصة لاجتماع حشد المعنيين من الصحافيين من مختلف الأقطار العربية في تظاهرة تعارف بين حملة الهم المهني والطموح الى التقدم في خدمة المقهورين في أوطانهم وهم الاكثرية الساحقة من العرب العاربة والمستعربة.
الفكرة أجمل من ان تصدق.. ولقد سعينا لأن نثبت قواعد مهنية من شأنها ان تحفز المنتسبين الى هذه المهنة المشرّفة على المشاركة، محتفظين لراعي الفكرة الشيخ محمد بن راشد المكتوم، نائب رئيس دولة الامارات، حاكم دبي، (ولم يكن قد تولى منصبه كرئيس لحكومة الامارات العربية المتحدة بعد) بحقه في رعايته الاحتفال السنوي وتقديم الجائزة الكبرى، على ان يختار النادي شخصيات معروفة لتقديم الجوائز الأخرى للفائزين بها من الاجيال الشابة من الصحافيين.
وهكذا ولد أول عيد للصحافة العربية، في تلك المدينة التي تشب نحو السماء في وتيرة قياسية شهراً بعد شهر، بل يوما بعد يوم، دبي.
وبتنا نذهب كل عام لإحياء العيد، والمشاركة مع هؤلاء الآتين إلى مهنة المتاعب بلحظة فرح ترتبط بمدى اخلاصهم لقضايا اهلهم في بلادهم المنكوبة بالقمع والتخلف، معاً.
في السنة الأولى كان العيد باهراً.. عشرات من الصحافيين والصحافيات في عمر الورود، يشاركون في تظاهرة للفرح بانتعاش المهنة.
ولقد حكم علينا القدر بأن نخصص الجائزة الأولى لكبير من أهل الصحافة والسياسة كنا قد فقدناه عشية الاحتفال هو سامي المنيس، رئيس تحرير مجلة الطليعة الكويتية… ثم حكمنا الموت، فكان علينا في كل عام ان نخصص الجائزة لمن تصادف رحيله (من كبارنا) مع احتفالنا بالعيد الذي كنا نريد تكريمه فيه.
آخر من تمكن من استلام جائزته بيده كان ذلك المقاتل الشريف بالكلمة ـ السيف صلاح الدين حافظ الذي اختطفه السرطان منا، بينما لا معوض له ولا بديل، في السنة الماضية.
… ولقد ذهبنا الى الاحتفال قبل أيام، يتقدمنا خوفنا على التجربة الفذة في دبي، من ان تكون آثار الزلزال المالي الدولي قد ذهبت بالاعياد واحتفالاتها.
لكن ارادة الشيخ محمد بن راشد الذي أنضجته التجربة من دون ان يسكره النجاح، كانت قوية بما يكفي ليطمئننا الى ان دبي قادرة على تخطي الأزمة، برغم كل ما يدبر ضدها من حملات تتقصد الايحاء بأنها كانت مغامرة في عصر الوفرة، وهي في طريقها الآن إلى الانطفاء!! وفند الشيخ محمد بن راشد الادعاءات مؤكدا ان ابراج الحقيقة تكذب ادعاءات كارهي التقدم في أي أرض عربية.
[[[
لكل منهم نصيب فيها
كان يفترض ان تتاح الفرصة لكلمة فيها من الحديث عن هموم المستقبل اكثر مما فيها من استذكار الماضي والشكر على الجائزة.
لكن الوقت يضيق على الكلام الذي يحرك المواجع. لذا فقد تعذر عليّ أن ألقي كلمتي أمام المحتفلين معي بجائزة الصحافة العربية، برغم انهم كانوا ينتظرونها وكنت حريصا على ان أحيي عبرها الغائبين عن الاحتفال، والمغيب عنهم الفرح والأمان والحق في وطن، او المحرومين من اوطانهم.
ما أجمل ان تحس أنك، في لحظة ما، صرت الكل. أنك غدوت بشخصك حضورا لزملائك الكبار في المهنة، او الذين انتسبوا اليها قبل سنوات قليلة ويجتهدون ليؤكدوا ايمانهم بها كرسالة في خدمة الناس، وان هذه المهنة ترتقي بقدر ما تنجح في ان تكون صوتهم لا صوت السلطة سواء أتمثلت بالحاكم أم بالمتحكم!
يحيط بك زملاء شبان من الجزائر، قبيل افتتاح حفل الجائزة ليقولوا بصوت واحد: «السفير» مدرستنا. اننا نتعلم منها.. ولقد تبادلنا التهنئة قبل ان نلتقيك!
تهتف بك زميلة سعودية: لا تؤاخذني على اندفاعي، لكنني أريد أن أقبلك! إن «السفير» جريدة العرب جميعا.. وأنا أقرأها على الانترنيت، لكن حرارة دفاعها عن قضايا أمتنا تلامس وجداني قبل أصابعي!
يندفع اليك زملاء عاملون في بعض صحف الخليج، يعانقونك بفرح، ويقول واحدهم بلسان الكل: نحن نتعلم من «السفير». نحن في ذروة السعادة، نحس ان لنا في الجائزة نصيباً. مبروك لنا!
تلمع الفرحة من حولك وتدمع عيناك وأنت ترى زملاء وزميلات يتبادلون التهنئة: انه الاختيار الصح! لقد أعطيت الجائزة لنا جميعا، نحن الذين ما زلنا نؤمن بالصحافة ونتخذها مهنة مشرفة لأنها تتصل بضمير الناس.
يعلو صوت نجم عبد الكريم في ما يشبه الحداء: لم يتبق لنا، كمهنيين، غير بيروت. انها عاصمة الصحافة العربية و«السفير» قلبها النابض.
يهتف بك رفاق عمرك الذين استقرت بهم ظروفهم في ما وراء البحار: شكراً لكم انكم تحمون لنا بيروت بصحافتها. ان وجودكم والزملاء الآخرين في صحافة لبنان يمنحنا الشعور بالأمان!
… لكن الوقت ضيق على الفرح!
والزملاء من مصر يتبادلون التهاني: لقد أعطيت الجائزة لمن يحب مصر. لكأنها أعطيت لنا جميعاً.
يتقدم منك بعض الزملاء الآتين من السودان، ويحشر موريتاني نفسه بينهم، فلما حاول أحدهم ان يعترض دافع آخرون: اتركه معنا، كلنا في الهم شرق، كلنا في الهم مغرب، كلنا في الهم عرب!
فأما الكلمة التي أعدت ولم تلق في الاحتفال، لأعذار كثيرة، فهذه مقاطع منها، لعلها تبرر القبول بالجائزة:
من كلمة لم تقل
يداهمني مع الامتنان لهذا التقدير السامي الشعور باقترابي من نهاية المسيرة.
ويتملكني الخوف أكثر من الزهو، حين ألتفت الى قائمة المكرمين قبلي، فأجد ان غالبيتهم قد غادروا دنيانا، وان الجائزة قد منحت لذكراهم!
ما أمتع الرحلة في قلب الصعوبة: غادياً راجعاً بين نجمتي صبح، لا خلف خلفك، ولا محطة للاستراحة، والأمام تحدٍ مفتوح على الاستحالة، موعدك الشمس وقدرك ان تتقدم في الطريق الى تاريخك الذي يراد مسخه حتى ينكرك فتنكره، تلملم آهات التمني وتأوهات الوجع وزفرات الضيق بالعجز والرغبة في قهرها، فتعيد صياغتها حتى تكون صوت الذين لا صوت لهم.
هل أكملت ما كنت تفترض ان لا بد من قوله، لان الصمت مقبرة الجبناء؟!
وهل آن أن يغادرك قلمك او ان تغادره، وكلاكما شرط حياة للآخر الذي ليس إلاك… وفي مهنة لا يدق فيها جرس الانصراف إلا مرته الأخيرة؟!
أعترف بأنني من جيل لا يعرف التقاعد ولا يعترف، حتى بينه وبين نفسه، بأنه قد شاخ، وآن له ان يرتاح .. فالراحة انطفاء، وما زال في مصباحي بعض الزيت!
ولأنها لحظة وقوف مع الذات واستعادة التجربة، فلا بد ان أتوجه بالتحية الى جيل الأساتذة الكبار الذين أخذت عنهم وتعلمت منهم، سواء في لبنان او في مصر او في بلاد الشام، ثم في أقطار المغرب والجزيرة والخليج، بعد ذلك، من الأدباء والكتاب والشعراء والبحاثة والمبدعين في فنون الرسم والنحت والتصوير والكاريكاتور والموسيقى والغناء الذي يُسكنك في قلب النشوة.
ان لغتي جاءتني من هؤلاء الكبار الذين حفظوا اللغة لتكون وجداننا، وأعادوا اليها مع جمالياتها غير المحدودة، أهليتها لتكون لغة العصر … أما أصول مهنتي فقد أخذتها عن اساتدة مجلين، أعطوني من جهدهم وصبرهم وتجاربهم وفتحوا أمامي الباب الى التقدم.
ولقد سمح لي زمني ان ألتقي كباراً في الحكم والسياسة والأحزاب العقائدية، فأنا من جيل كان الصحافي الناجح فيه «كلياً» بمعنى أن عليه أن يهتم بمختلف جوانب الحياة، وان يكتب فيها. وهكذا تسنى لي ان ألتقي عظيماً هو جمال عبد الناصر، وان أحاور كباراً بينهم أول رئيس للجزائر التي عادت الى هويتها بالثورة ـ احمد بن بله، وزعماء للثورة الفلسطينية بينهم ياسر عرفات والدكتور جورج حبش، وشاعرها كمال ناصر وراويها غسان كنفاني ورسامها ناجي العلي، وبناة دول استولدتها احتياجات التوازن: منهم باني هذه الدولة، الإمارات العربية المتحدة، الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وبينهم أكثر من رئيس عراقي، وقادة الثورة الإسلامية في إيران وعلى رأسهم آية الله الخميني، والرئيس الذي أعاد سوريا الى خريطة التأثير بدور فاعل الراحل حافظ الأسد، إضافة الى من أعاد ليبيا الى الحياة ليحكمها العقيد معمر القذافي، والعديد من قادة الانقلابات في السودان والعراق واليمن شمالها والجنوب قبل استعادتها وحدتها تحت قيادة علي عبد الله صالح.
أما في المملكة العربية السعودية فلقد سمح لي زمني بأن أحاور في لحظة استثنائية بعد أحداث الحرم مباشرة الملك خالد بن عبد العزيز ومعه ولي عهده آنذاك الأمير فهد، ثم تيسرت لي الفرصة لمحاورة الملك عبد الله بن عبد العزيز، وفي الكويت أميرها الراحل الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، ثم الشيخ صباح الأحمد وغيرهم كثير كثير.
بالمقابل سمح لي زمني بأن ألتقي كباراً في الأدب رواية وقصة وشعراً، لا يتسع المجال لاستذكارهم جميعاً، كل منهم يستحق تحية خاصة تليق بموقعه في وجداننا.
فالصحافة مهنة سياسية بالضرورة. لكنها تتغذى بالفن شعراً وموسيقى، غناء حتى الطرب ورسماً ونحتاً وتصويراً وإبداعا في أي مجال… فالجمال يغذي الروح بقدر ما تغذي الثقافة الخيال والعبارة.
[[[
شرف أن تنتمي الى هذه المهنة التي تحمل الى الناس البشارة بنصر او التنبيه الى خطر داهم، او التحذير من تجاهل العدو وشركائه فينا، وبينهم التخلف والقهر والعسف.
وان تعمل في خدمة الحقيقة يعني ان تتوغل في قلب المخاطر.
فالسلطة العربية، عادة، لا تقبل حق الاختلاف، برغم ان الله في عليائه تقبل مثل هذا الحق ونشر محاوراته المقدسة.
ان وجهي يحمل أوسمة من جراح القيام بواجبي.
وعائلتي تحملت وجع الخوف من الصواريخ التي وجهت الى بيتي فأخطأته، او من السيارة المفخخة التي انفجر الصاعق فيها ونجانا الله من تفجر مخزونها المدمر…
كذلك فإن مبنى «السفير» يحمل شهادات الاستهداف المباشر، سواء في المطبعة التي نسفت قبل ان تطبع أول عدد، بعد تجديدها، او في الواجهة التي صارت ذات يوم معرضاً لأوسمة الجراح…
وبقدر اعتزازي بكل ما تحملته وعائلتي، ومعنا أسرة «السفير»، فإن الجراح التي أحمل، تثير أحزاني، لأني لم أكن خصماً لأي جهة بالذات ولأي «زعيم» بشخصه، بل كنت – وما زلت – خصماً للفساد والتقصير والارتهان لإرادة الغير، ولم يكن بين المتسلطين من هو جدير بخصومتي.
من هنا فإنني أرى في الجائزة نصيباً لزملائي في «السفير» جميعاً.
إنها شهادة تقدير لزملائي في «السفير» جميعاً، من غادرها الى منبر آخر، او من استمر يعمل بقلبه وعقله فيها.. مع استذكار كبيرين من أدبائنا المؤسسين: سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف إضافة الى حنظلة الذي استولده ناجي العلي فصار رمزاً لنا جميعاً.
إنهم جميعاً شركائي في النجاح، ولهم نصيبهم في ما حققته «السفير».
كنت أتمنى لو ارتبط هذا الحفل بإنجاز، أو انه جاء في الزمن الجميل. فكل ما يحيط بنا من أحوال لا يسعد النطق، بل انه يحجب الفرح فيجعله حييا. إننا في نزول. وشتان ما بين بداية الرحلة مع النهوض القومي العظيم بالثورة والوحدة وأحلام التحرر واللحاق بالعصر، وما بين تعاسة السقوط دون أهدافنا والارتهان للخارج في غدنا.
على أنني وفي مجال التعويض أستعير من شاعرنا العظيم الذي بقي فينا منه أكثر مما غاب عنا، محمود درويش، بعضاً من مرثاته التحريضية:
«ما زلت أحلم حلمي ذاته وأرى/حلمي يسيّرني والدرب في يده/ مضى القرين الى مجهوله وأنا/ هو المسافر من أمسي الى غده».
مــن أقــوال نســمة
قــال لــي «نســمة» الــذي لــم تعــرف لــه مهــنة إلا الحــب:
ـ الحب يضيف اليــك ملامح جمال لم تكن فيك. يجعل عينيك أكثر إشعــاعاً، يضــفي على وجهك وداعة، يخالط صوتــك برعــشة تجــعله مطرباً. لكأنك أنت وقد أضيف إليك بعض عذابات من أحبوا قبلك وبعض تمنيات من سيحــبون بعدك. الحب يعطيك سمات من نور وموسيقى ولثــغات الأطفال الذين يستولدون الشعر.