الشعر يكشح ظل الموت عن طريق »الضيعة«الشعراء لا يموتون. إنهم يرحلون صعوداً ليستقروا في فضاء الوجدان نجوماً لا تنطفئ. قد يغلفها الضباب فيغيّبها لبعض الوقت ثم تشرق، مجدداً، مشعة كمن أودعها روحه.الشعر يفتح باب الخلود وينقش أسماء مبدعيه على ألواح ذاكرة الأجيال، فيعبرون فوق بحورهم، ولو مشطرة ومرمزة، أمواجها من نقاط لاهثة في دوامة المعنى، الى الشباب الآتي لاستلام الراية الذي سيقرأ في الشعر »تاريخه« ليكون امتداده الى المستقبل.آخر من غادر دنيانا ولن يغادرنا هو الشاعر حسين حيدر الذي ظل يبشر بالغد حتى وهو على فراش مرضه. توالت عليه النكبات القومية فما بدّل لغته ولا غيّر جلده. صمد للإغراء فما استسلم. ومن قلب الهزيمة استولد بإيمانه فجراً جديداً، وقرر أن يستمر حادياً لمسيرة العروبة، القادرة ـ كما كل هوية ـ على تجديد ذاتها، لأنها تسكن النفوس والأرواح والهواء والأرض، هي مصدر الانتماء وجذور الناس وملامحهم الأصلية.غادر حسين حيدر المنبر، لكن الهواء سيظل معطراً بنفسه العربي وبإيمانه الراسخ بهوية هذه الأمة وبحقها في الحياة، بل بجدارتها في أن يكون لها مستقبل يليق بقدراتها الحقيقية، المطموسة أو المغلولة أو المقهورة أو المضيعة اليوم.وكما تماسك حسين بوفريد حيدر في مواجهة الانتكاسات التي أصابت الحركة السياسية حاملة راية العروبة، والإخفاقات التي تسببت بها الأنظمة التي تلطّت خلف شعاراتها، مخادعة الجمهور في إيمانه، كذلك فقد تماسك هذا الشاعر الذي يكتب بشغاف قلبه حين فجع باستشهاد وحيده »رواد« في الانفجار المهول الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري ومن كان في موكبه وفي الجوار من حوله.[[[»من فوق بدنايل … الدرب ع شمسطار«كان الراحل نجيب حنكش يستذكر مطلع الأهزوجة كلما التقى بعض أبناء البلدتين المتجاورتين والمتناسبتين… والمتنافستين، الآن، بالكفاءات.والدرب إلى شمسطار تمر الآن من تحت بدنايل التي زحفت من قوقعتها أيام الاضطهاد إلى جوار الطريق العام، فقامت القصور والفيلات الأنيقة ذات القرميد الأحمر والأسوار التي تشير إلى تزايد أعداد عشاق الحياة..وقبيل غياب حسين حيدر كان الموت قد أخذ يزحف فوق »الدرب إلى شمسطار« بظله الأسود. طبعاً الموت ضيف دائم على الخلق، لكن له »موجات« تتصاعد فتحصد المزيد من الضحايا، متخطية العجائز وكبار السن إلى الشبان والكهول الذين حفروا في الصخر مكانتهم، وبذلوا عرق الجبين حتى بلغوا المستوى اللائق بكرامة جهدهم وتشوّقهم إلى تحقيق طموحهم.وفي الأيام الأخيرة شعرت بالموت يطوّقني، إذ تهاوى عدد من رفاق العمر.. ثم تسارع رحيل بعضهم وبعض جيران مأوى الأمان، ودهمني خوف أحس به يتكاثف في صدري يوماً بعد يوم..و»الحاجة« التي منها ينبع الإيمان والأمان، قد غادرت، فاختفت »الخيمة« التي كانت تظللنا ونحس بارتباطنا العميق بالأرض التي هي من أنفاس الأهل، والأمهات على وجه التحديد.أعظم الخوف الآن أن تموت »الضيعة«..فمع كل فقيد جديد تخسر بعضاً من ملامحك، وتتراجع »الضيعة« تدريجياً لتغدو مهجع الذكريات، وليست ملاعب الصبا، أو مرتع الطمأنينة، فالضيعة هي مجمع الأحبة. الهواء فيها أنفاس أهلك يخالطها الدعاء، والحب المشاع الذي لا يطلب مقابلاً، والذي لا يستأذنك وهو يعزز ثقتك بنفسك ويزيد من منعتك في مواجهة أعباء حياتك أو همومها.إن واحدنا مشطّرة عاطفته وموزعة على المدينة حيث حياته، عمله، أصدقاؤه، زملاؤه، و»الضيعة« حيث ولد وتعلم الكلمات الأولى ورعته عناية أهله، ففاض عليه حنان أمه ورعاية أبيه، وصحبة أقرانه، ثم أمدّته »الضيعة« بشعور غامر بالاستقرار النفسي، قبل أن تحضنه وهو يتقدم على طريق بناء ذاته بذلك الشعور بالفخر بانتمائه الى »الناس«… كل الناس. يحس إزاءهم بواجب الحرص على كرامتهم فيه، وعلى أن يحقق بعض آمالهم المحمولة عبر التاريخ بأن يصير لهم »ذكر« وبأن يعرفوا بأنفسهم لا بالآخرين، وأن يغمرهم ذلك الشعور بأنهم ضرورة لمجتمعهم وليسوا عالة عليه.[[[للضيعة ملامح أهلها… أما المدينة فلها ملامح الأبنية والأسواق والأمكنة. في الضيعة أنت أنت، في المدينة أنت »واحد« من كثير، معظمهم غير معني بأن يعرفك كلك، بل ما يعنيه منك ومن العلاقة أو الزمالة معك.للضيعة ملامح الجد والجدة، الأب وخيمة الأمان: الأم… وللضيعة ملامح الأصدقاء من رفاق العمر الذين تعرف بيوتهم وأبناءهم وعاداتهم. تعرف ابتساماتهم وأمارات الحزن حتى وهم يجاهدون على إخفائها لاستقبالك ببشر من يسعده لقاؤك…. وها هم الرفاق يتناقصون مخلين أمكنتهم وأطياف ابتسامتهم وصدى ضحكاتهم والمجادلات، ليغرقوا في قلب الصمت، تاركين في صدرك مساحات من الفراغ الموجع…يختفي من تعرفهم ومن يعرفونك. يختلف عليك الناس. تقف أمام أبنائهم كبعض من الذكريات، وأحيانا كشبح من الماضي. لست في حاضرهم، ولست في مستقبلهم. أنت بعض من رحل. أنت في بعض الحالات تذكار لمن يحبون، وأحيانا تذكار لمن يريدون أن ينسوه.[[[… ولقد رحلت »صباح«: أسطورة الصمود في قلب الوجع. تلك التي ظلت قادرة على أن توزع الأمل والتفاؤل على قبيلة حتى وهي تحس بالموت يحتضنها ويسحبها تدريجاً من وسط عائلتها ومحبيها الكثر.وها هم بضعة من سطور القصيدة يتهالكون. تدهمهم أمراض لا شفاء منها. ينقص الفرح. تصير اللقاءات أشبه بمواكب النعي. نصير نخجل من ضحكاتنا. ثم نقرر أن نستذكرهم في أبهى صورهم، وأن نحوّل ما نحفظه عنهم الى مصدر للفرح يستحضرهم فنسعد بأنهم عادوا إلينا ومنحونا بعض الوقت الإضافي. و»أم عباس« لم نعرفها إلا مبتسمة حتى والألم يفري جسدها.الحب لا يموت. الضيعة تتبدل لكنها لا تموت. إنها في القلب والوجدان والخاطر. إنها في الميجانا والعتابا والدبكة ورقصة الصبايا المزدهيات بشبابهن وبعيون الأحبة التي تقرأ أنفاسهن وتحاول التوغل الى قلوبهن المشوقة الى فرح الحياة: الحب.أن نعوّض الذين غابوا بأن نحملهم في قلوبنا، ذلك ما نقدر عليه. ذلــك هــو الواجــب الذي علينا أن نؤديه.عن آل الصلح: الوزارة والإدارة والصالون السياسي!»السياسة« هي الكرويات الحمر في دماء آل الصلح… لا هم يستطيعون التحرر منها وممارسة حياتهم بمنأى عنها، ولا هي تستغني عن كفاءاتهم وخبراتهم المعتقة في شؤون »الكيان« وصيغته الفريدة، لا سيما أنهم قد شاركوا في استيلادهما، ولعبوا ـ الى حد كبير ـ دور »القابلة«… خصوصاً في عملية الفصل بين »التوأمين السياسيين« أو »السياميين«، لبنان وسوريا، وإن كان لصغيرهما حق الرعاية والمراعاة لأسباب طائفية تتصل بالهوية قدر اتصالها بالوضع الخاص في المحيط العربي ـ الإسلامي الفسيح.ولآل الصلح أكثر من مركز نفوذ ووجاهة، بعضها في سوريا، وأبرزها في لبنان، جنوبه أساساً ولا سيما صيدا، وبيروت بالضرورة… مع محاولات »تعويضية« بلغت البقاع، وسطه وشماله، في حالات الطوارئ!يقول سميح الصلح الذي شغل مواقع إدارية، لا سيما في وزارة الداخلية، وعومل وتعامل دائماً »كسياسي«: نحن، آل الصلح، لا نعرف من المهن إلا الوزارة والإدارة… ليس بيننا تاجر أو مقاول أو رجل أعمال…نسي سميح الصلح، أو تناسى، المهنة الممتازة التي مارسها كبار الصلحيين كهواية تجاوزت حدود الاحتراف بتميزها فصاحة وثقافة وإيماء وإيحاء وثورية وهي »الكتابة«، وبالتحديد الكتابة الصحافية…رياض الصلح، كاظم الصلح، تقي الدين الصلح، منح الصلح، رغيد الصلح: بينهم من استكتب فأبدع الميثاق الوطني (وان بمشاركة نصري المعلوف)، وبعضهم من كتب البيانات والمناشير الثورية قبل ان ينشئ الصحف فيكتب افتتاحياتها (كاظم الصلح)، وبينهم من صار من موقع الهواية نقيباً للصحافة (تقي الدين)، وبينهم من أنشأ فأبدع وكتب واستكتب فأجاد (منح الصلح)، وبينهم من اختار الجامعة فعلّم وخرّج وإن لم يمنعه موقعه الاكاديمي عن الكتابة في الصحف ولها (رغيد).مع مطلع القرن الماضي أطل آل الصلح على مسرح العمل الاستقلالي مغادرين »الإدارة«… فواكب المستنيرون منهم ثورة الشريف حسين، وسار بعضهم مع الأمير فيصل وهو في طريقه الى سدة الملك في دمشق… قبل أن ينتهي ملكاً على العراق. ولقد حكم جمال باشا الشهير بالسفاح على بعضهم (رضا الصلح وابنه الفتى رياض) بالإعدام، في سياق معاقبته الوطنيين في بلاد الشام، قبيل هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى.هامش أول: ذات مرة آنسني منح الصلح بصحبته ونحن نقصد دمشق للقاء بعض الأصدقاء. عند ميسلون أشار إليّ أن نوقف السيارة وترجلنا. قال: لم يكن يجوز لأحدنا أن يعبر هذه الطريق دون أن يتوقف هنا فيترجل ومن معه، نساءً ورجالاً وأطفالاً، كي يقرأوا الفاتحة لروح يوسف بك العظمة شهيد الثورة العربية، الذي واجه جيش الاحتلال الفرنسي الذي زحف من لبنان في اتجاه دمشق، ليخلع الملك فيصل ويمد ظل الاحتلال الأسود على القطرين الشقيقين.ثم التفت إليّ »البيك« وسألني: ألا تحفظ قصيدة أحمد شوقي في رثاء بطل العروبة؟! ولما استوثق من أنني أحفظها عاد الى السيارة لنكمل الطريق الى دمشق التي لا تزال تحمل يوسف العظمة في قلبها.فأما سميح الصلح الذي لا يعرف أن يتقاعد، فقد اجتهد فابتدع »الصالون السياسي« كي يظل قريباً من السياسة… وهكذا، وعلى امتداد ست سنوات، كان يستضيف كل شهر تقريباً، أي حينما تسمح الظروف الأمنية، واحداً من القيادات السياسية في حضور كوكبة من الصحافيين، فيبدأ بكلمة ترحيب، ثم يفتح الباب لحوار يجري سلسا وسط تكريم صاحب الدار وأهلها، متناولاً شؤون الساعة.كان »الصالون« الاول من نوعه، وقد أراده صاحبه مماثلاً للصالونات الأدبية مفتوحاً بالاسئلة لقضايا الساعة: الوحدة الوطنية، المقاومة الوطنية، النظام الديموقراطي، الطائفية، الصراع العربي ـ الاسرائيلي الخ.استضاف الصالون السياسي عشرات من السياسيين وأصحاب الفكر من رجال الدين، كثير منهم رحل عن دنيانا وإن كان المجتمع قد استبقى بعض تجربتهم… ومن بين الضيوف، الراحلون: الرئيس صائب سلام، الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الرئيس رفيق الحريري، شاعر الجمال نصري المعلوف…كذلك فقد استضاف الصالون السياسي: السيد حسن نصر الله، الرئيس نبيه بري، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية الشاذلي القليبي، ووزراء سابقين ووجوهاً نيابية معروفة…ها هو سميح الصلح قد أخرج مداولات الصالون السياسي في كتاب فخم، ضخم، بصور ملونة وطباعة أنيقة بحيث يليق بأفخم صالون في أفخم بيت عز… وهكذا بات ممكناً الرجوع الى هذا »السفر« لمحاكمة الحاضر بالماضي في محاولة لتبين معالم المستقبل!أما الحكمة التي ضبطت إيقاع الحوار في صالون سميح الصلح فهي صلحية أيضاً وقد صاغها رياض الصلح، وهي تقول: إن لبنان قنطرة بقوسين، فلا يجوز أن يضعف قوس ويستقوي قوس آخر فينهار البناء!»عمار يا صالون سميح الصلح«!مـن أقـوال نسـمةقال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:ـ الحب ليس مادة للمباهاة أو الفخر. ومن تحاول أن تفاضل بين رجلين لتختار حبيبها لا تعرف الحب. الحب لا يحتاج الى الأدلاّء. الحب عاصفة تجتاحك فلا تنتبه إلا وقد غدوت عاشقاً ينظر إليك الناس وكأنك قدوتهم… وقد يتجرأون فيسألونك أن ترشدهم الى الطريق السرّي للبحر الذي يتمنون أن يغرقوا فيه.. حباً.