نجيب الريّس يحرّك المواجع بافتتاحياته قبل ثمانية عقود!
سمعت اسم نجيب الريس، لأول مرة، من أستاذ جيل من الصحافيين في لبنان هو الراحل سعيد فريحة. دخلت مكتبه ذات صباح فسمعته يدندن كلمات النشيد الذي كان يحفظه جيل آبائنا جميعا: »يا ظلام السجن خيم… اننا نهوى الظلاما«. قال: أتعرف من نظم هذا النشيد؟ انه نجيب الريس، أحد الصحافيين الكبار الذين تعلمت منهم وأخذت عنهم الكثير، وطنية وأسلوب كتابة وفنون صحافة.
وكانت فرصة لأن أعرف عن صحيفة »القبس« الدمشقية ودورها وعن »الكتلة الوطنية« التي كانت تضم معظم قيادات العمل السياسي في سوريا في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، والتي كان الكثير من قادة العمل السياسي ذوي التوجه (الوحدوي) ومن ثم الاستقلال في لبنان على صلة وثيقة تكاد تكون تنظيمية معها.
مرت سنوات قبل أن أعرف الزميل رياض نجيب الريس بشخصه وبقلمه الذي كان غزيراً قبل أن يتحوّل الى ناشر: غزير هو الآخر…
ولقد أتاح لنا الزميل المكعب، »مكتشف« الخليج العربي بأطواره المختلفة، وأساسا بمرحلته الانتقالية بين المحميات وقيام »دولة الامارات العربية المتحدة« التي كان مشروعها الاصلي يقضي بأن تضم ايضا قطر والبحرين، لكن النفوذ الاجنبي، البريطاني أساساً ثم الاميركي، فضلا عن تحفظات سلطنة عمان الجوهرية ذات الأساس التاريخي ـ الجغرافي ـ البشري، وتحفظات السعودية لأسباب يسهل تقديرها، قد ذهب بالأصل واستبقى المستولد!
أخيراً أتاح لنا رياض ان نتعرف الى ابيه والى نتاج ابيه في »القبس« عبر جمع كتاباته، الصحافية أساساً، والشعرية وإصدارها في كتابين يثيران المواجع ويكشفان مدى التراجع الذي أصاب الحركة السياسية العربية عموماً بعد »استقلالات« الدول عنها أيام النضال ضد الاستعمار الاجنبي لإجلائه طلبا للحرية وبناء الغد المرتجى.
يشدك كتاب »نضال«، وتقرأ فيه عبر الافتتاحيات التي كتبها نجيب الريس، المتحدر من حماه، في الفترة بين 30 ـ ،1934 وأصدرها في كتاب أعاد رياض طباعته »من دون أي تعديل أو زيادة أو تغيير«، نماذج للكتابة بالتمني أو بالوجع، بالحماسة المشعة أو بالحزن المعتق.
فأما التقديم فقد كتبه »معالي فارس بك الخوري« (»اللبناني« من الكفير، كما يتباهى غلاة اللبنانيين، الذي شغل في ما بعد منصب وزير الخارجية ثم رئاسة الحكومة). وقد وصف فيه نجيب الريس بـ»الكاتب المجلي في ساحات السياسة والاجتماع، والخطيب الركين في مواقف الحزم والمآسي، وهو على حداثة سنه قد زين المطبوعات العربية في سوريا ومصر بشذرات قلمه السيال حتى باتت مقالاته الشيقة الأسلوب والغزيرة المادة في كل موضوع طرقه، لذة المطالعين وأحدوثة الأسمار«.
÷ اللبنانيون وحماة لغة القرآن.
من تلك الافتتاحيات التي موضوعها الدائم وحدة سوريا واستقلالها، سأختار هنا مقاطع من بعضها، مفترضاً أنها قد تعطي فكرة عن هذا »المناضل« الذي سجنه الاستعمار الفرنسي، لأول مرة، وهو دون العشرين من عمره، ثم نفاه الى جزيرة أرواد، وهناك نظم قصيدته الشهيرة »يا ظلام السجن…«.
في افتتاحية بعنوان »حماة لغة القرآن« كتب نجيب الريس بتاريخ 17/12/1930: »أقيمت في بيروت، مساء السبت الماضي حفلة تأبين الشاعر الكبير المرحوم الياس فياض… كان مساء السبت في التياترو الكبير أشبه شيء بسوق عكاظ. تكلم رئيس مجلس نيابي ورئيس وزارة ونائبان ونقابة الصحافة في بيروت ودمشق ونقابة المحامين، وكذلك بشارة الخوري ونقولا فياض وخليل مطران والغلاييني وأمين تقي الدين والياس ابو شبكة.
»قال لي الاستاذ عبد الله اليافي: أرأيت هذه الحفلة؟ قلت: نعم! قال: وهل ترى مثلها في دمشق؟ قلت: لا، ولا في مصر. قال: أقول لك القول الصحيح؟ إن اللبنانيين لا يزالون هم حفظة لغة القرآن. قل هذا ولا تبال«.
÷÷ توحدوا أو فادفنوا أنفسكم.
بين محطات الكتاب، أو الافتتاحيات، ما يؤرخ للتشققات داخل الحركة الوطنية في سوريا وللتيار »الانفصالي« داخل الحركة الوطنية في لبنان… وهذه مقاطع من افتتاحية تحمل عنوان »الكتلة الوطنية بين الانقسام والوحدة«، وهو كتبها مستبشراً بأن الانقسام لم يقع، وان ظلت لهجتها تحذيرية، وتاريخها 15/10/1933:
»وصل الى دمشق مساء أمس حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل هاشم الأتاسي ومعالي الزعيم الكبير ابراهيم هنانو والدكتور عبد الرحمن الكيالي، كما وصل اليها من حماه النائبان المحترمان الدكتور توفيق الجيجكلي ـ الشيشكلي ـ ونجيب البرازي، وسيسافر الجميع مع إخوانهم رجال الكتلة الوطنية في دمشق الى بعلبك حيث يوافيهم اليها كل من سعد الله الجابري ورياض الصلح. وهناك وفي مدينة الشمس تجتمع أعظم هيئة وطنية تألفت في هذه البلاد منذ وضعت الثورة (1925) أوزارها، وتلتقي شخصيات كبيرة يحمل كل واحد منها في نفسه آمال أمة ورجاء وطن… فترقب سوريا من ضفاف بردى الى شاطئ الفرات، هذا الاجتماع الخطير، ويرمق السوريون من خليج اسكندرون الى اللاذقية فطرابلس وجبل عامل وأقاصي الجزيرة، بصبر فارغ وقلب هلوع قرار بعلبك…«.
لكم اختلف الزمان. لكم انفصل الزمان عن المكان. لكم انفصلت الآمال عن الوقائع المفجعة! إن هذه المناطق التي وحّدها التمني، يومذاك، موزعة الآن على أربع دول: سوريا ولبنان والأردن… وتركيا!
يختم نجيب الريس افتتاحية بتحذير شديد اللهجة:
»أيها الرجال… إن في مقدوركم أن تدفنوا أنفسكم في مدافن بعلبك فتدفنوا هناك آمال أمة ورجاء وطن (…) اذهبوا الى بعلبك بحراسة الله وحفظه واذكروا قبل افتتاح جلستكم إخوانكم الشهداء الذين ماتوا وألقوا عليكم أعباء الحياة«.
÷÷÷ الفرنسيون ولبنان الأقليات
بالمقابل فإن نجيب الريس يتصدى لمحاولات الانتداب الفرنسي ضرب الوحدة الوطنية بالطائفيات والمذهبيات… وفي واحدة من افتتاحياته الملتهبة تحت عنوان »النصارى والشيعة في نظر فرنسي« يكتب رداً عنيفاً على ما استوقفه من كلام لصاحب »جورنال دي جنيف« وليم مارتان وقد جاء فيه: »في الواقع فإن فرنسا ليس لها في سورية إلا مصلحة واحدة، وهي حماية الأسس التي يستند عليها الأسطول البحري وحماية خطوط المواصلات الجوية، وأخيرا حماية أنابيب البترول. وفرنسا راضية عن كل نظام يضمن لها هذه المصلحة. إن لفرنسا على الشاطئ مصالح كبيرة لا تقدر على تركها دون ضمانات، وعليها إزاء نصارى لبنان والأقلية الشيعية فيه واجبات خاصة«!!
يبدأ نجيب الريس بأن يفضح جهل الفرنسيين بالبلاد، فيستشهد بما يلقنه بعض التراجمة للسياح من أن الجامع الأموي كان قصراً لهارون الرشيد فجاء الصليبيون وجعلوه كنيسة ثم جاء صلاح الدين الأيوبي فجعله مسجدا.. وان هذه المنارة المعروفة باسم مئذنة عيسى قد بناها المسيح عليه السلام فسميت باسمه، وان تلك القبة المسماة بمشهد الحسين قد قتل تحتها الحسين بن علي فدفن فيها، وان الذي قتل الحسين هو تيمورلنك ملك بغداد.. وان العلويين الذي يقال لهم »نصيرية« أصلهم نصارى، وان نصيري معناه باللغة العربية تصغير نصراني..
ثم يضيف فيقول:
»نحن نفهم أن يتاجر رجال السياسة بالنصارى وان يظهروهم أمام العالم بأنهم محتاجون الى الحماية من هؤلاء المسلمين المتوحشين المتعصبين…
»… وبعد أن كانت الأقليات معروفة بأنها عبارة عن النصارى فقد جاؤوا اليوم بضيف جديد من أبناء البلاد فحشروهم بين الأقليات وجعلوا عليهم واجبا إزاءهم لتبرير بقاء انتدابهم وسيطرتهم على لبنان وهم الشيعة العرب المسلمون.
أجهل هذا أم تضليل وتدجيل؟! فمتى كان الشيعة غير عرب وغير مسلمين؟ ومتى كانوا أقلية مستضعفة بحاجة الى حماية الأجانب من إخوانهم المسلمين السنيين، هذا اذا بقي فرق حتى الآن بين شيعي وسني وحنفي وشافعي؟ لماذا لم يكن الشيعة في العراق أو الاشوريون أو الاكراد سببا لتبرير بقاء الانتداب الانكليزي على العراق«!
لكان هذا الكلام كتب بالأمس، وعسانا لا نقرأه مرة أخرى غدا! يكفي أن نستبدل الاحتلال الفرنسي ـ أو البريطاني بالاحتلال الاميركي فإذا محاولة استمالة الاقليات بذريعة حمايتهم للأكثرية، أو تحريض الاقليات على الاكثرية، أو تمكين الاقليات الكبيرة من الاقليات الصغيرة أعدادها، كما يحدث الآن في الموصل وكركوك وبعض مناطق العراق ذات »الاكثرية« الكردية ضد الاقليات الاقل (التركمان بداية، والعرب في الشمال ثم الكلدان ـ الآشوريون) حتى نقرأ في كتاب اليوم!
÷÷÷÷ رداً على »الوطن القومي المسيحي«.
في السياق ذاته، نرى نجيب الريس مستفزاً بعد قراءته حديثا للبطريرك الماروني (في العام 1933) نشرته جريدة »المقطم« المصرية، فانبرى يرد عليه بعنف شديد. كان السؤال: أفضى السيد بونسو أمام لجنة الانتدابات في جامعة الأمم بتصريح ذكر فيه أن لبنان بين البلدان التي قبلت الانتداب بطيبة خاطر، وذلك لاختلاف مذاهب سكانه، وانهم جميعا من الاقليات التي لا يمكن لواحدة منها ان تسود لأخرى… وقد أجاب غبطة البطريرك بقوله: نعم، نحن قبلنا الانتداب بطيبة خاطر، وأما الأقليات والأكثريات وقولهم فينا فلا يعنينا، فلبنان وطن قومي مسيحي…«.
أما رد نجيب الريس فقد جاء فيه »بعد التقدم بكل خشوع واحترام الى حضرة صاحب الغبطة الحبر الجليل بطريرك الموارنة معتذرين عن اضطرارنا، كصحفيين ومن طلاب الوحدة السورية، للبحث فيه… وكنا نتمنى أن لا يكون صاحب الغبطة صاحب هذا الحديث الذي يتناول قضيتنا الوطنية والقومية في الصميم.
»نقول لإخواننا اللبنانيين، ولا سيما بعض الزملاء منهم، إننا نكره هذه الصراحة التي تحدث بها غبطة البطريرك… فما دام لبنان على وضعه الحاضر، وما دامت الطائفية تسوده والبطاركة والمطارنة يتكلمون باسمه، فنحن نريد أن تسأل: كيف تريدون أن يكون لبنان وطنا مسيحيا والأكثرية العددية والعقارية فيه هي للمسلمين؟!
»هذه دفاتر الإحصاء فاسألوها، وهذه سجلات الأملاك والعقارات والأراضي فافتحوها، هل تجدون أن المسيحيين على اختلاف طوائفهم يعدون رقما أكثر من المسلمين على اختلاف طوائفهم ايضا؟
»…بالأمس يقف رجل عظيم كالأستاذ فارس الخوري في قلب مدينة حلب خطيبا في النصارى، فيقول لهم: لا أقلية ولا أكثرية بل نحن جميعا سوريون عرب ندين بدين الوطنية والقومية. بل يقف هذا المسيحي الكبير معلم الشباب ومعلم والوطنية في وسط الجامع الأموي في حلب، في سبعين الف نسمة، مسلمين ومسيحيين فيدعو الى القومية والى تناسي هذه الفوارق المذهبية، يرتفع صوت رجل دين في الموارنة فيقول ان لبنان وطن قومي مسيحي!«.
÷÷÷÷÷ شكيب ارسلان يُحرم من فلسطين.
بين الافتتاحيات واحدة تتميز بعاطفة متدفقة يلوّنها الأسى هي تلك التي كتبها نجيب الريس عن الأمير شكيب ارسلان »لمناسبة عودته من الحجاز مع وفد السلام وإقامته في فلسطين بضعة أيام، ثم كان أن أجبره البريطانيون على الخروج منها، وهي بعنوان »40 سنة في خدمة العرب المسلمين« وقد جاء فيها:
»يمر على مقربة من هذه الديار، في طريقه الى أوروبا، رجل لا يحتاج تعريفه في جميع أنحاء العالم العربي والاسلامي الى أكثر من ذكر اسمه مجرداً عن كل شيء. اسم مجرد لا يكاد يذكر حتى تلمح بين حروفه وجه جمال الدين الافغاني حكيم الشرق، وقامة الشيخ محمد عبده، مصلح المسلمين ومجد فكرتهم… ذلك الاسم انما هو لرجل من أعرق بطون العرب في الجاهلية والاسلام: الامير شكيب ارسلان الذي أقصي عن وطنه منذ ثمانية عشر عاماً، يمر اليوم، في بيت المقدس وبجانب الحرم الأقصى حرم المؤمنين الأول وكعبتهم القديمة، فيحاط مقامه بقيود وشروط ليقضي بضعة أيام يرى في خلالها أمه العجوز التي هدها بعدها عن أبنائها، فلا تكاد تنقضي مدة الإقامة الممنوحة له من الانكليز حتى يعدّ عدته للفراق فتنادي صحف فلسطين بطلب تمديد الإقامة أو منحه الجنسية الفلسطينية ليقيم في هذه القطعة المفصولة عن الوطن السوري الصغير…«.
[[[
ما أبعد اليوم عن الأمس، ما أبعد العرب عن العرب، ما أبعد الناس عن الأرض، ما أبعد الوطن! ما أبعد الحرية والاستقلال والوحدة! ما أبعد الغد. ما أبعد الجيل عن الجيل!
كالعادة، لقد حرك رياض نجيب الريس فينا المواجع… وهذه المرة بكلمات أبيه! رحم الله نجيب الريس و»عصره« وأحلامه العراض!
مـن أقـوال نسـمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ كلما التقيت امرأة جميلة وجدتني أنساق الى المقارنة بينها ومن أحبّ فأجد حبيبي أجمل! وأعجب، فما تراه عيني ملامح جمال يقارنه قلبي بصورة حبيبي فيفوز حبيبي.
ليس الحب أعمى. القلب يرى ما لا تراه العين!