طلال سلمان

هوامش

عز الدين المناصرة: »يتوهج كنعان« بين الخليل وبيروتاختلفت الأزمنة علينا فافترقنا وتباعدت بيننا المسافات وغامت الأسماء وسط افتقاد العناوين، لا سيما بالنسبة إلى المخلوق الفلسطيني الذي يراد له أن يكون خارج الزمان، وخارج المكان إلا اذا صارت الأرض دار حرب.عز الدين المناصرة..ما زال للاسم رنينه، وما زالت في الذاكرة بعض الملامح، والكثير من الأبيات والمقاطع المتحدرة من قصائده التي حفظت بعضها بيروت أو تلك التي جاءت أصداؤها من دمشق، وكلها تأتينا بفلسطين وتأخذنا اليها.عز الدين المناصرة: شع الاسم على الغلاف الذي تحتل صدره لوحة الصنوبر ـ حارس البحر لمصطفى فروخ. وأما عنوان الديوان الذي افترضته جديدا: »يتوهج كنعان«. ومع ان قصائده جميعاً تنتمي الى أزمنة غبرت، فقد وجدت فيه الكثير من ملامح الغد.»بشيء من التسامح، يمكن أن يعد عز الدين المناصرة واحداً من رواد الحركة الشعرية العربية الحديثة«.. هكذا وصفه حارس الذائقة الشعرية العربية إحسان عباس.وبشيء من التسامح وجه عز الدين المناصرة إهداء ديوانه القديم المجدد الى »الصديق العتيق«، فاتحاً أمامه ـ مرة أخرى ـ أبواب سنوات النهوض الذي كاد يكون ثورة، بشعر يصبح أقرب الى الحداء، متدرجاً عبر النزول المتسارع سقوطاً مع الزمن الفلسطيني الى بكائيات هدفها التحريض لا الرثاء.ينهض محمود درويش واقفاً أمام أسوار عكا، وينشد بعض الديوان أمام عز الدين المناصرة وسائر أهل الخليل… فكلاهما أعطانا، عبر فلسطين، ملحمة النضال العربي في هذا العصر، والأخطر: انه رسم لنا طريقنا الى الغد.»حين تكون الجملة مخفية/ بدهاليز الفتنة/ وفي قلب الريح/ وتكون الجملة ضوءاً يجهل زيت القنديل/ لا تشرح أسرار المنديل/ بكل يكفي أن تترك شيئاً للقال والقيل/ يكفي أن تترك للقارئ فسحة صمت بيضاء من أجل التأويل«.وما أكثر التأويلات، وما أحوج القارئ العربي الى فسحة صمت بعدما ازدحمت فوق صدره الخيبات التي التهمت آماله العراض التي كانت لا تلبث أن تجدد نفسها بدم الشهداء فتزهر ربيعاً جديداً.خليلي حتى العظم عز الدين المناصرة. وهو لتعصبه يسحب الخليل على كل شيء في فلسطين.. من الشهيد باجس أبو عطوان الى عنب الخليل:»آخر الليل حين تجيء إلي الخليل على شكل طفل، يفجّر فيّ شقاوته وأنا ساهم والمقاهي هنا علمتني السهر.صحت: إن الخليل رماد، ترون.. ولكنها عندما يبلغ النهر أعلى الجبال تكون الخليل رعوداً مجلجلة ثم برقاً، تكون الخليل شررقدم في الريح وفي التابوت/ قدم أخرى في بيروت/ قلبي في المنفى يا باجس يخضر قليلاً ويموت..«.بيروت، بيروت، بيروت… المدينة التي توهمها الفلسطيني وطناً لم تكن الوطن. قدمت نفسها معبراً، ولم تكن تريد أو تهيئ نفسها لتكون مقبرة. لكن البريق مخادع، ووهم السلطة قاتل للأوطان:»يا هلي إن بيروت في دمنا. إن سكنتم بها قبلوا نحو باب الخليل»يا هلي شملوا باتجاه بحار الجليل… يا هلي، يا هلي، يا هلي..«.حتى »جفرا« تستحضر بيروت، التي غدت تميمة فلسطينية يعلقها في رقبتها لعلها تدرأ عنه خطرها، ثم يقلبها باشتهاء لأنه يتمناها أن تصير في وطنه حتى لا يتخذ منها وطنا بديلاً:»منديلك في جيبي تذكار ـ لم أرفع صارية إلا وقلت: فدى جفرا»جفرا ظلت تبكي في الكرمل/ ظلت تركض في بيروت»وأبو الليل الأخضر، من أجلك يا جفرا، يقذف من قمر طلقته.. ويموت«.هو ليس شاعر سلطة.ولكن قيادة الثورة الفلسطينية لم تكن تقدر، ولم تكن تريد ولعلها لم تكن تستطيع أن ترفض السلطة، حتى لو وعت أن السلطة مقتلها وتابوت الأحلام:»اذبحوا الخوف فينا/ يشرّش/ حتى يثور الذليل/ واركلوا جثة الخوف في حفرة، وبلا أثر أو دليل/ خرس وارف كالنخيل من خليج المحيط الى محيط الخليجبكاء يزلزل أركان هذي البيوت/ إنني فوق صدرك يا قرطاج، وردتك المهملة فانثري في عظامي نداك الحنون«.أما حين وقعت جريمة اغتيال المبدع ناجي العلي فقد تفجر غضب عز الدين المناصرة واندفع يطارد »الريح السوداء« التي قتلت فلسطين مرة أخرى:»رجل من عنب، قهوالي السحنة. لا فرق اذا كان المطر الصيفي يحاصرنا بخليط الألوان.»رجل يحمل أسئلة ويطوف بها فوق الأمواج: خذ حذرك يا حلاج!»يا كنعاني الطوب الأحمر، يا ناجي/ وحدك عوسجة ومديح»يا سيف الدولة في تطوان/يا شجر الدولة في وهران،»من يوقف هذي الريح السوداء/ من يسحب من قلبي الشيح»في التاسع من شهر ديسمبر/ أفتح للزوار سجلا لمتابعة الأخبار«.تتهاوى الحماسة تحت ضغوط اجتياحات اليأس، ثم لا تلبث أن تجدد نفسها بقرار واع:على الفلسطيني أن يستمر يقاتل وإلا انتهى. يقاتل العدو، يقاتل اليأس، يقاتل العالم، يقاتل ضد نفسه أحيانا.. لكنه إن توقف عن القتال خرج من فلسطين ولم يعد:»سنخترع البحر ثم نرش البهار عليه، ونجلب من الشام أقمار غوطتهاومن القدس صخرتها.. من ضلوعك يا بيروت روشتك القرمزيةنشوي على الفحم فوق التلال المحيطة، قلبك يا بحر، أحجارك المرمرية ننشرها فوق حبال النهار ـ وداعا نقول لعكا ويضطرب القلب في قلعة الهجر»دون نقوش ولا دولة، والنوارس فوق الفناء»بطيء بريدك يا وطني. والرسائل لا تصل العاشقين«.عز الدين المناصرة، شكراً أنك ما زلت حياً.. تقول فلسطين، تقولنا شعراً، وتغني الخليل وجفرا وعكا، أريحا والناصرة والبحر الميت، وتواصل المقاومة حتى الشهادة، كما العظيم محمود درويش الذي غادرنا متعجلاً لينتصر على الموت بالموت. وإننا مثلك:»ناشف غضبي/ جارح عتبي/ ناحل قصبي/ فارد حجبي/ غامض طربي، واضح عجبي، مسدل كتبي، مشرع تعبي، مازح خببي فاعلن فعلن.. وفعولن سأحشرها في المحيط الذي طوق الدائرة«.عز الدين المناصرة: ننتظر جديدك.. بحب.»قانوني القطرين« يقاضي »ديوك العولمة«قبل عمر، وكنت قد قطعت خطوات أولى في طريق اتخاذ الصحافة مهنة ومعبراً الى تحقيق الافكار والشعارات العظيمة التي آمن بها جيلنا، جاء إلي في مجلة »الاحد«، وكنت مديرا لتحريرها (بالاضطرار) لان منشئها ورئيس تحريرها الراحل الكبير رياض طه كان قد انشغل عنها وعن جريدته الجديدة الناجحة »الكفاح العربي« وعن الصحافة عموماً، بهموم الانتخابات النيابية وصفقاتها السياسية.. المدولة!كان فتى في مثل عمري يدل اسمه ليس فقط على مسقط رأسه بنت جبيل، بل على انه آت من بعض مساقط الشعر (السياسي) في جبل عامل خصوصاً، ولبنان عامة: ناجي بيضون… وكان يحمل بين يديه مسودات لمجلة طالبية تحمل اسم »العاملية«، وهي الكلية المميزة التي يحمل وجداني، كما تحمل لغتي، أثراً طيباً لبعض من درسنا عليهم فيها وبينهم الراحلان حسين مكي ومحمد علي مكي والشاعر المعروف بالفرنسية السفير صلاح ستيتية.كان قلمه واعداً بإضافة الى الصحافة، لكن تقادير الحياة أخذته الى المحاماة فنجح فيها حتى صار »قانوني القطرين«، بالاذن من الشاعر الكبير خليل مطران، اذ عمل في دولة الامارات العربية المتحدة محتفظاً بمكتبه في بيروت… ولان الرغبة في الكتابة توجع اصابعه فقد وجد لقلمه منفذاً في جريدة »الخليج« خصوصاً وقد ابتدع لنفسه اسلوبه الذي تخالط فيه الفكاهة النقد الاجتماعي ـ السياسي.»ديوك العولمة ـ كاريكاتور بالكلمات« يضم بين دفتيه مختارات مما كتب ناجي بيضون، الذي وضع أفكاره على ألسنة شخصيات ابتدعها لتبسيط المعقد من مبتكرات عصر التقدم والتكنولوجيا الحديثة، وأخطرها الانترنت وما اتصل به او تفرع عنه.ولأنه ابن بنت جبيل التي انتقل اهلها بنسبة عظمى منهم الى ديربن ـ ديترويت ميتشيغان من دون ان يغادروها، فقد »سافر« ناجي بيضون داخل اهله المشطرين بين مقيم مغترب ومغترب مقيم، فاتخذ من بعضهم شخصيات محاوراته الطريفة حول السياسات الدولية عموماً وما يخصنا منها او ينعكس علينا خصوصاً. ادار المعارك بين »ابي محمد« و»أبي خليل« وجعل نفسه حكَماً، فهو »يشعل النار وينادي: حريقة«… ثم يتبرع بشرح التحولات السياسية الكونية والمبتكرات والاختراعات ولغة الاسواق المالية المستحدثة، وتأثيرات ذلك كله »علينا، يا العرب«، وكيف نحار بين ان نلغي انفسنا ونحن نحاول ان نتعلمها، او نتسابق الى هضمها واستيعابها تمهيداً لأن نستخدمها في معاركنا المفتوحة مع »الغرب« المتقدم، وعنوانه الاسرائيلي في ارضنا، فلا نظل نموت بجهلنا او بعجزنا عن التطور.ولانه محام، فهو قد اكسب »موكله« »أبا محمد« »الدعاوى« جميعاً، تاركاً لـ»أبي خليل« مجال الاعتراض والاستئناف بشرط ان يعرف، أخيراً، شروط »التمييز«.وعملاً ببعض نصائح »ابي محمد« الشعرية، لن نتعمق، وان كان مفيداً نشر بعض أبياتها:»يا أيها الكتّاب لا تتعمقواصفوا كلاما للأنام ونمقوا»كونوا كما كان الأوائل رددواأقوال أقوام جفاها المنطق..»يا ايها الشعراء لا تتسابقواالا لتقديم المدائح واتقواغدر الزمان فإن شطراً واحداًمن بيت شعر ألفَ بيت يُغلق«تهويمــاتيرف عليّ ظلك الوارف فيغسل تعبي وينضج في روحي الروح، فإذا كلماتي تتوهج باللثغة في عينيك اللتين منهما ينبع الشعر.وحين يعصف بي شجنك أرتمي في لجة الخوف مشلولاً بالعجز، أتعثر بارتــباكي ويضيع مني قراري.أتمنى أن أكونك فأتيه في التوهم، ويأخذني التمثل الى التصادم مع الذاتين فينا: يستحيل التماهي حدَّ التوحد ويستحيل التباعد حد الافتراق، فنغرق في برزخ الاستحالة. كلما حاول واحدنا إثبات ذاته، يخاف على ذاته فنغرق في فراغ القرار.أين الفاصل بين الزمنين ما دام التلاقي يأخذنا خارج الزمن، فيعيدنا إليه الافتراق وقد خسرنا الكثير من بهجة التكامل إلى حد اجتراح المعجزات.لو اننا صرنا نحن، لو قبلت الانا الأنت، إذن لغدونا الأمة جميعاً، قلبها وضميرها وزندها والسيف.أحب فيك غدي، وتحبين فيّ أمسي… واليوم مساحة عريضة لحب يعيد صوغ الحياة.مـن أقـوال نسـمةقال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:ـ عمر واحد لا يكفي الحب. أعرف محبين في سن الشيخوخة لكنهما يعيشان حالة حب يتمنى مثلها الفتيان. دع العقل يتعامل مع عمرك، واحفظ لقلبك شبابه فإذا أنت مبدع عظيم ينير قلبك عالم عشقك فتعيش عمرك حباً موصولاً.

Exit mobile version