رحلة في جغرافيا الشهادة وتاريخ المقاومين
ليست طريقاً عادية هذه التي تقودك من بيروت التي »تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء« الى صور التي كانت أقوى من الحريق، وهي قد تجددت وجددت جوارها من قلاع الصمود.
أنت تعبر التاريخ قبل الجغرافيا وأنت تنتقل من بيروت ـ الأميرة الى عروس الصمود صور التي لا تتعب من الإضافة الى أمجادها في المقاومة، مروراً بصيدا التي أشعلت النار في ذاتها، مرة، حتى لا تسلم مصيرها لعدوها، وبعشرات البلدات والقرى والدساكر التي حُفرت أسماؤها في الوجدان قبل الكتب.
من بيروت خليل محيي الدين الجمل الذي قصد الى الثورة الفلسطينية قبل ان تصلنا، وخالد علوان الذي تصدى منفرداً لقوات الاحتلال في قلب المدينة التي »احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء«، نتخذ الطريق الذي يحاذي الضاحية النوارة ولا يعبرها احتراماً لدماء شهدائها الذي انبت من قلب الركام بيوتاً للجيل الجديد من المقاومين.
آثار القدم الهمجية ترسم لنا الطريق مروراً بالمطار التي فتحت القذائف صدره فعطلته، ثم عبر الجسور التي أعيد بناؤها في الناعمة والدامور والجية حيث تتفرع الطريق الى إقليم الخروب بشواهد الشهداء المنتصبة فيه منارات بدءاً بسبلين وصولاً الى كترمايا التي جددت قلبها بمن افتداها من أبنائها، وما بينهما وحولهما من قرى ودساكر ومدن ريفية نال كل منها نصيبا من دمار الاحتلال.
في صيدا فاتحة كتاب المقاومة بالعظيم معروف سعد، الذي سرعان ما اقتدى به وانضم اليه بعض ذريته: نجله مصطفى سعد وحفيدته ناتاشا، في حين قدمت الزوجة الوفية لوبا عينيها. وعلى امتداد السنوات تعاظم الحشد الذي أوله جمال حبال وآخره، حتى إشعار آخر، الشهيدان مجذوب.
عند الشفق الفلسطيني لصيدا كان لا بد من إلقاء التحية على ناجي العلي المبدع الذي زرع فلسطين في عقولنا، إذ أكد لنا المؤكد: لن يتحرر أي شعب عربي ما ظلت إسرائيل هي الأقوى من مجموع هذه الدول العربية التي تمنع عليها الفرقة وحدة القرار وصدق المواجهة والقدرة على الإنجاز. لذا يعطيها »حنظلة« ظهره، ملتفتا الى حيث سوف تظهر الشمس.
ولأن الشهيد بالشهيد يذكر ونحن في تموز فلا بد من زيارة غسان كنفاني، ذلك الفارس الذي تعجل العودة الى عكا ، فطارت مزق جسده المتفجر بعبوة إسرائيلية زرعت في سيارته قرب بيت لجوئه في محلة مار تقلا، في الحازمية حيث كتب فلسطين على جدرانها بدمائه ودماء الطفلة لميس التي جاءت الى خالها لتعود معه الى الجنة المفقودة.
… وفي عين الحلوة تواصل المناضلة التي لا تتعب آني كنفاني بعض ما بدأه غسان عبر المؤسسة التربوية التي أعطتها اسمه لتستبقيه في وجدان الجيل الجديد بالعلم وبالإرادة وبصورة الطريق الى فلسطين.
وكما زرع ناجي العلي فلسطين في وجداننا برسومه التي اخترقت أسوار الدهشة لتعزز الوعي، فإن غسان كنفاني قد كتب فلسطين كمدخل الى الوعي بأحوالنا في المشرق والمغرب معاً.
بعد صيدا سيكون دليلك البلدات المكتوبة أسماؤها بالأحمر القاني.. لكن الطريق سيغدو في اتجاهين: من فلسطين واليها، من الجنوب الى الجنوب حتى لا تكون فلسطين أخرى.
على ان قانا المشرّفة بالشهادة مرتين ستكون الباب والمحراب، وكما انها كانت وستبقى الدليل الى الهدف الصح والدليل على وحشية العدو الاسرائيلي ووحشية الادارة الاميركية التي مثل اسرائيل تتغذى بالدماء العربية، فليس ما جرى للعراق وفيه بأقل وحشية مما جرى لفلسطين وفيها، وللبنان وفيه.
الذاكرة متعبة بصور الماضي الذي افترضت إسرائيل انه قابل، عربياً، للتكرار دائماً.
تستذكر: هذه الطريق مشاها فوزي القاوقجي ليقود جيش الإنقاذ الذي تعذر عليه، لأسباب معروفة، أن ينقذ نفسه، من بعد.
وعلى هذه الطريق مشى عشرات الألوف من أهلك في فلسطين هائمين على وجوههم، عجائزهم يتوكأون على مفاتيح بيوتهم التي اقتلعوا منها، والنساء يمسكن بأيادي أطفالهن حتى لا يضيع القلب عن العين، بعدما شردهم الاحتلال الإسرائيلي بالاشتراك مع التخاذل العربي، وبين أسبابه ما هو اخطر من التواطؤ: الجهل بطبيعة العدو ، بقوته الميدانية الفعلية، بقوى الدعم الدولي غير المحدود، مادياً وعسكريا، سياسياً وإعلاميا ، أعدادا واستعداداً،
وها قد عبرت ببعض مخيمات لجوئهم في سبلين وعين الحلوة في صيدا لتصل الى بعضها الآخر الذي يلتف كالاسوارة من حول صور..
ان كان الآخرون قد نسوا هذه المشاهد، فان أهل الجنوب عموماً وجبل عامل خصوصاً، لم ينسوها، وما كان ممكناً ان ينسوها خصوصاً وقد اجبروا على أن يسلكوا هذه الطريق ذاتها مرارا هاربين بأطفالهم وعجزهم من قراهم المتروكة للريح الى من يستضيفهم على كره كلاجئين، في انتظار ان تتوقف المذبحة بالمقاومة التي قد توقظ الضمير العالمي، فان لم يستيقظ مجلس الأمن استيقظت الدول الكبرى لمصالحها المهددة فتدخلت لإرجاء التصفية كما حصل في تفاهم نيسان ،1996 بعد فشل الحروب الاولى واخطرها في أيلول 1993.
أترى من هنا تبدأ الحكاية؟
أليست الحرب الإسرائيلية في تموز 2006 فصلاً إضافيا في تاريخ الصراع المفتوح على هذه الأمة، والذي تعود بداياته الى المؤتمر الصهيوني الأول في أواخر القرن التاسع عشر، ثم وعد بلفور قبل ثلاثين سنة من إقامة إسرائيل، وبعده معاهدة سايكس بيكو لتقسيم هذا المشرق العربي بين استعمارين، تمهيداً لزرع إسرائيل في قلبه بما يمنع وحدته ومنعته لاجيال، ثم معارك القضم بالشراء او بالتواطؤ مع الاحتلال البريطاني، تمهيداً لكارثة 1948 التي خاضها العرب كأنها مواجهة مع عصابات فانتهت بهزيمتهم التي أضاعت مع فلسطين معاني استقلالات دولهم المتهافتة ضعفاً وعجزاً، والتي وفرت لإسرائيل الفرصة لان تكون منذ لحظة إعلانها أقوى من هذه الدول المستولدة على عجل، بعمليات قيصرية، مجتمعة؟
وحتى لا تتكرر هذه المشاهد معهم فقد فتح أهل جبل عامل وسائر الجنوب ، من شبعا وتلال كفرشوبا حتى البحر الذي تقوم على حراسته صور وصيدا، فتحوا بيوتهم لفدائيي المقاومة الفلسطينية: غزلت لهم النساء الكنزات لتقيهم البرد، وقدم لهم الرجال قمصانهم والكوفيات، ثم سار معهم من يعرفون الأرض كما يعرفون كفوفهم أدلاء.
بديهياً كان أن يستقبلوهم، وان يحضنوهم، وان يشاركوا معهم في عملياتهم الاستشهادية الأولى، بل ان يتقدموا صفوفهم، ويكفي بـ»الأخضر العربي« عنواناً لرفاق كثيرين دخلوا فقاتلوا واستشهدوا وما بدل أهلهم تبديلاً.
لا بأس بمزيد من اللمحات التاريخية كي ينتظم السياق، وكي يصح التحليل:
توالت الاجتياحات الإسرائيلية، جواً على المطار أواخر ،1968 وبراً حتى قانا في أيلول ،1972 حتى تحول الاجتياح الى احتلال للجنوب حتى الليطاني في آذار 1978.
… ونعود الى صور التي منها كانت بداية أخرى: السيد موسى الصدر الذي اطل بقامته العالية وثقافته الواسعة التي تختلط فيها نجفية البيت الهاشمي مع انفتاح على العصر، مفيدا من الخبرات اللبنانية المعتقة في الجنوب الى حد التماهي مع المأساة الفلسطينية. كان الجنوب يتأجج بروح التمرد والثورة، معطيا مساحة مفتوحة لارادة التغيير وقد اختلطت فيها الدعوة العربية بالمقاومة الفلسطينية بأفكار اليسار الجديد.. فأعاد الناس الى »الأرض«، وفيها وعليها بدأ التمايز، بعد عصر من التداخل بين المحلي والعربي المواجَه بالخطر الاسرائيلي. فكان »الامام« بشخصه كما بأفكاره، وأساسا بفهمه للتكوين اللبناني، محطة فاصلة وجامعة بين أزمات متباعدة، وان استطاع بظله العالي ان يجمع بينها.. معه وبه بدأت »الانتفاضة« التي ستولد حركات الغد السياسية بعنوان المقاومة.
وقبل السيد موسى الصدر ومعه وبعده، كانت صور تشهد حركة ثقافية بين أعمدتها »الجعفرية« التي تعاظم دورها بما يرضي طموح منشئها العلامة الراحل السيد عبد الحسين شرف الدين ورعاتها المميزين من بعده.
مع الاجتياح الإسرائيلي الشامل في حزيران ،1982 الذي تمدد حتى بيروت، واستقوى حتى نصب رئيساً للجمهورية سرعان ما أورث الاحتلال الرئاسة بعد اغتياله لشقيقه، أُخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان.
وافترض الاحتلال أن الأمر قد استتب له تماماً: فهو قد احتل عاصمة عربية من دون ان يتزلزل العالم، ومن دون أن تتحرك الأنظمة العربية. وهو قد اخرج المقاومة الفلسطينية الى المنفى بغير اعتراض إلا بدموع الوداع ونثر الزهور وإطلاق الرصاص في الهواء… وهو قد سلم العاصمة الى قوات دولية جاءت لنجدته على عجل، فتمدد خلف الليطاني مرتاحاً.. بل انه سرعان ما تراجع مكتفياً بالشريط الحدودي وقد سلمه لبعض من خرج على أهله وتواطأ عليهم معه.
لكن الصفحة الأولى قد طُويت، ومنذ تلك اللحظة فتحت المقاومة صفحات جديدة تزاحم على كتابتها مناضلون قوميون وتقدميون ووطنيون ومجاهدون سرعان ما انتظموا في التيار العريض الذي سيصنع الغد.
هل وصلنا صور؟
لقد تعودنا ان يلقانا محمد الزيات، وأن يطوف بنا يعرفّنا على المدينة التي بها نؤرخ الصمود، يحف بنا رفاقه الذين استيقظوا مع أذان الفجر الذي أطلقته ثورة جمال عبد الناصر من القاهرة، فترددت أصداؤه في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا الشعوب تنتبه من غفلتها وتهب في محاولة لأن تتولى مصائرها بأيدي أبنائها..
لا أحزان، اليوم. ها هم مجاهدو المقاومة، الذين أنجبتهم هذه الأرض، يعوضون غياب الثائر جمال عبد الناصر الذي قتله نظامه، وان بقيت روحه التي لم تقتلها الهزيمة تسري في نفوس أجيالنا الجديدة، تنعش الآمال الذابلة، وتؤكد فينا قدرتنا على الإنجاز.
ولقد صدق هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم هدى، وها هم يصمدون فيدحرون العدو الذي ولا أقوى، ويكتبون بدمائهم سيرة النصر الذي سيكون أول صفحة في كتاب الغد.
وليست مصادفة، أن ترتفع صور السيد حسن نصر الله في المواقع ذاتها التي لم ترفع فيها بعد عبد الناصر أي صورة، على امتداد رقعة الحلم بين طنجة في المغرب الأقصى على باب الأطلسي، وعدن عند بحر العرب على باب المحيط الهندي… فهو عند هؤلاء المجاهدين المقموعين والممنوعين من مواصلة جهد التحرير، صورة جديدة للبطل الذي أنجبته مصر كي يكمل ما باشره قادة مجاهدون لم يمهلهم زمانهم ليتموا ما بدأوه في مختلف أرجاء بلاد الشام، شام الله في ملكه، فضلاً عن بلاد المغرب من ليبيا الى تونس الى جزائر ثورة المليون شهيد.
[ [ [
لم تكن الحرب الإسرائيلية في تموز 2006 عملية عسكرية رداً على خطف الجنديين. كانت حرباً اميركية ـ إسرائيلية مقررة منذ أمد بعيد لضرب احتمالات التغيير، وفرض الاستكانة بالتنازلات تجر بعضها بعضاً، فإذا كل هذه الشعوب وكل هذه الأرض بلا هوية: مجرد جهة جغرافية تدعى الشرق الأوسط فيها دولة واحدة اسمها إسرائيل، وكل من تبقى أقوام تصادف وجودها هنا أو هناك، لكنها قابلة للاقتلاع كما حدث للفلسطينيين، وكما حدث ويحدث للعراقيين تحت الاحتلال الاميركي، وكما حدث ويحدث للبنانيين في ظل حروب الطوائف والفتن المتنقلة، وكما حدث ويحدث للمصريين والتونسيين والجزائريين والمغاربة من تهجير وطني يقتلهم في عرض البحر وقبل الوصول الى مهاجر الاستعباد الغربي الجديد.
ولأنها حرب مفتوحة على الأمة، فالأمة جميعاً معنية بخوضها بما ملكت أيمانها.
وإنه لشرف عظيم للبنان لأن يكون بعضَ أرضها وطليعةَ التصدي لها بالمجاهدين من فتيته البررة، وأهاليهم الذين قرروا أن يتصدوا لهذه الحرب الدولية مهما كبدتهم من آلام وجراح وضحايا وتهجير موقت وتهديم لبيوتهم التي تعلموا كيف يعيدون بناءها، بينما العدو يجرجر أقدامه الهمجية خارجاً من أرضهم التي أكسبوها القداسة بدمائهم الطاهرة.
شرف عظيم للبنان ان يقدم القدوة بصموده، فيهزم العدو، ويقلب صفحة الهزيمة، مقدماً النموذج الحي والمكتوب بالدم، لإخوانه في فلسطين ومن حولها لكيفية تحقيق النصر والثبات في الأرض، وبفهم الظروف المحيطة والتعامل معها بكفاءة القيادة المؤهلة والقادرة على قراءة التحولات داخل المجتمع المعسكر للعدو الإسرائيلي.
لا يختار الناس أقدارهم، عادة.
لكن هذا الشعب وقد علمته أرضه التي منها انطلق التاريخ، يهم بأن يمسك قدره بيديه، آملاً أن تكون تجربته مكملة لما قبلها من معارك الجهاد التي تغير المصائر التي يقررها لنا الأجنبي، وأن تكون فاتحة للتغيير في اتجاه الغد الأفضل لأمته جميعاً.
لقد انتهى بحرب تموز 2006 عصر كامل، وانبلج فجر عصر جديد، ولسوف يكون شاقاً وحافلاً بالصعاب والمواجهات القاسية… من بينها ما شهدناه من محاولات متكررة لإثارة الفتنة وإغراق النصر بدماء أهله… وغير بعيد عن لبنان، نشهد محاولات مشابهة في العراق يقوم بها الاحتلال الاميركي لإغراق العراقيين بدمائهم عبر صدامات ومواجهات عبثية بعد إثارة النعرات والحساسيات القومية والعنصرية والطائفية والمذهبية.
من دون أن ننسى عملية التذويب اليومية لقضية فلسطين، بإغراق قياداتها في أوهام سلطة لا سلطة لها، سواء في الضفة الغربية، أو في غزة، بينما تلتهم إسرائيل المزيد من أرضها يومياً بالمستعمرات التي تنشئها بوتيرة سريعة، حتى لا يبقى ما يمكن أن تقوم عليه دولة فلسطين على الأرض التي أقطعها جورج بوش لدولة اليهود.
وانه لشرف أن يكون قد اتيح لأجيالنا ان تشهد انبثاق فجر جديد لتاريخ جديد لهذه الأرض التي كانت على الدوام مقدسة، وها هي تغتسل مرة جديدة بدمائها لتطهر ذاتها من بقايا عصور الإذلال والاستعباد والتهجير والفتن.
ولسوف تكون المرحلة المقبلة شاقة وقاسية ومثقلة بآلام الولادة الجديدة.
(مقتطفات من محاضرة أُلقيت في »منتدى الفكر والأدب« في صور)
تفاصيل عن حياة أولى لمّا تنتهِ
لا تكشف البناية الأنيقة اسرارها للعابرين.
في المدن تظل الاحزان شخصية، يداريها المهموم عن الآخرين كأنها »فضيحة« او إثقال على »الجيران« بالمصادفة بما لا يعنيهم، بل ربما اصابهم بالضيق من هذا الجار المزعج. اما في القرية فالناس شركاء، يبكون معاً متى جاءهم زمن الحزن، ويضحكون معاً في أيام الفرح القليلة… فالقرية وحدة بشرية، تكاد بيوتها تكون بلا ابواب، و»السر« يتجول بحرية بين حفظته. المدن تتوزع جهات، والجهات أحياء والأحياء عمارات، والعمارات شققا بأبواب مصفحة واقفال مضخمة وكاميرات كاشفة للذين قد يخطئون بيت الصديق فيتعرضون لنظرات الخائفين… المخيفة. فكل من »السكان« عنده ما يكفيه من الهموم والمتاعب، والمشاركة خليط من الفضول والدهشة والخوف من غياب مصدر الاطمئنان الآخر… والى الغد.
بالكاد يمكنك التعرف على »الموقع الحميم« في تلك الفسحة التي بات لها الآن سور وبوابة كهربائية بمفاتيح في داخل يراك من فيه ولا تراه.
ذلك الزمان لك وحدك، وذلك »المكان« كان للذين جاءوا اليك بغير دعوة وعلى غير توقع ليغتالوا الفجر.
بالكاد يمكنك الآن التعرف على التفاصيل الحميمة التي إن نسيتها خسرت نصف عمرك، وإن استذكرتها أكثر مما يجب خسرت كل عمرك: تم غسل البلاط بالماء الغزير آلاف المرات… ثم استبدال رخام البوابة التي فقأتها الطلقات التي لم تخطئ هدفها تماماً وان تخطئه الى ما حوله. ثمة قطع من البلاط تبدو »جديدة« الى جانب القديمة: هي ايضا خضراء موشحة بالأسود تتقاطع على صفحتها عروق زيتية، لكنها لامعة بعد، وقد جرفت مياه تنظيف السيارات والباحة ما كان علق على اسفلتها من دماء.
أما تلك الشجيرات البرية التي كانت تتشابك اغصانها الكثيفة خلف السور، فقد أزالتها جرافات الثورة العمرانية مع غابة اشجار الكينا الباسقة بأذرعتها المرتفعة نحو السماء، بعدما هُدمت المدرسة المهجورة ليبنى على انقاضها مجمع من الاسواق والعمارات الشاهقة التي تكاد تكون حياً جديداً لسكان لا يملكون ترفاً في الوقت للتعارف.
قلص الزمن حجم الهموم وتراكمها بعد تفجر الحروب التي أخذت تتوالد من ذاتها لتزيد من اثمان الأرض ولو رخصت اثمان الرجال الذين كثيرا ما دُفنوا بلا مشيعين… واسرائيل جاهزة لتتحمل الوزر دائماً، لا سيما عند من يعمل لها ولو بغير تكليف، أو ينسب إليها فضلاً لا تدعيه كي ينسب إلى نفسه »وطنية« لا تقبله.
أين تقع الآن تلك الحادثة التي استقدمت الفجر دامياً قبل صياح الديك، والتي هرع الى نجدة »ضحاياها« متطوع لا يعرف الطريق الى المشفى، والتي جيء اليها بالأطباء بسلاح قادر على اختراق قلب الخوف، لعلهم يوقفون النزف ويبعدون الشلل ويستنقدون القلب باستئصال الرئتين؟
كل ذلك يندرج الآن في خانة الذكريات الشخصية التي يتناساها بعض أهلها، ويعجز عن نسيانها من ترك الرصاص ثقوباً في مسارات حيواتهم دخل منها الموت ثم خرج بغير وداع.
تأخر الشهود في الوصول، ولم يكف الدم المراق دليلاً الى تحديد هوية الجناة، فلم تنعقد محكمة ولم يحرج أي قاضٍ ضميره مداراة لغضب السلطان. قُيدت القضية ضد مجهول لا يعرفه من الناس إلا جميعهم.
الجراح ملك عام، لكل من احب فيها نصيب، وليس من حقك ان تدعي ملكيتها ولو كانت في الصدر والعنق والوجنتين والبطن ومن حول الفؤاد… ولا أنت ترغب في ان تمنع عنها من يتقدم لبلسمتها بقلبه أو بشفتيه أو بلمسة متسرعة من كف مشغولة بكفكفة الدمع. لقد صرت كثيراً، وكل يأخذ منك ما يحتاج اليه: الضحية، المثال، حامل الراية، البطل بالمصادفة، الحبيب بالقرار، الصديق بالرغبة كما بالحاجة، الدليل الى ان الصح هو الصح.
ما زال في القلم حبر يكفي للحقيقة.
ما زال للحقيقة طعم الدم.
ما زال الناس بحراً من الحب بلا حدود.. وبهم تبقى الحياة جنة سورها من القلوب المرتعشة بالخوف، والعيون الناطقة باللهفة، والحناجر التي تختزن الزغاريد حتى يوم العيد.
مـن أقـوال نسـمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أعجب لمن تحب كيف تكره، من أول نظرة، امرأة تفترض انها تحب حبيبها؟!
الحب لا يقبل القسمة على اثنتين.
أعرف من يملك قلباً يتسع لكل المحبين، وإن ظل ملكاً… لها.