استعادة انتصار للحرية: الصحافة في الهجوم والمحامي مدافعاً
بغير قصد مقصود وبغير تدبير مسبق، اعطتنا الندوة التي ينظمها اتحاد المحامين العرب، في بيت المحامي ببيروت، الفرصة لاستعادة واقعة محددة أفترض ان اللبنانيين جميعاً، ومعهم معظم العرب كانوا معنيين بمجرياتها ثم بنتائجها الحاسمة، والمؤكدة لمضمون العنوان الذي اختير لهذه الندوة: دور المحامي في الدفاع ودور الصحافي في التعبير.
يوم الأربعاء الواقع فيه 12 أيار 1993 خرجت »السفير« على الناس وقد نشرت وثيقةـ لاوثيقة حول المفاوضات التي كانت تجري آنذاك، ولو بصورة غير مباشرة، بين لبنان والعدو الإسرائيلي في واشنطن.
وفوجئنا في »السفير«، وفوجئ الرأي العام أيضاً، بقرار همايوني استصدرته الحكومة من النيابة العامة الاستئنافية، بتعطيل »السفير« لمدة أسبوع بتهمة الترويج للعدو!
لم تكن تلك الوثيقة التي لا قيمة لها، عملياً، خصوصاً ان الوفد اللبناني لم يقبلها ولم يرد عليها، هي السبب في تعطيل »السفير« بل كان الأمر يتصل بموقفها السياسي المعارض.
كان الغرض السياسي مكشوفاً، لذا جاء رد الفعل موجة غضب شاملة، تستنكر هذا الاعتداء على الحريات، وتسخير النيابة العامة لتنفيذ هذا الغرض.
تجاوز اللبنانيون، بداية، خصوماتهم واختلافاتهم السياسية، وهبوا هبة رجل واحد للدفاع عن الحريات، بالموالين منهم والمعارضين حتى بلغ الانشقاق قلب الحكومة، وسارت الوفود الى مبنى »السفير« متضامنة، فكدنا نعجز عن متابعة العمل… وتلاقى الحشد في نقابة الصحافة في مشهد ديموقراطي باهر، في حين انهالت علينا الرسائل وبرقيات التأييد والمساندة من مختلف أرجاء الوطن العربي والمؤسسات المدافعة عن حرية الكلمة في العالم اجمع.
أما في المحاكمة فقد احتشد حوالى خمسمئة محام للدفاع عن قضية الحرية ممثلة يومها بـ»السفير«، وبحق الناس في ان يعرفوا، وبرفض التعسف وحجب المعلومات عن الرأي العام. وما يشرفني، شخصياً، أنني أتحدث أمام العديد منهم وقد تلاقينا، مرة أخرى، من أجل قضية الحرية.
وبينما كان اللبنانيون يتوحدون في مواجهة قرار خاطئ، كانت الهيئات والنقابات وبالذات منها اتحاد المحامين العرب وأهل الرأي والمثقفون، شعراء وكتابا ومبدعين، يهبون جميعاً للتضامن مع »السفير« باعتبارها »قضية« وليس مجرد جريدة، وباعتبار ان حجب الحقائق اعتداء على الحريات العامة وجريمة بحق الديموقراطية.
كان قرار التعطيل حكماً قبل المحاكمة. وبالتالي كان ظالماً بالضرورة ومكشوف الغرض السياسي بما يبعده تماماً عن مبدأ العدالة.
بالمصادفة ان هذا المثل يخص جريدة »السفير«، لكن دلالاته ومن ثم تداعياته تتجاوز هذه الصحيفة اللبنانية لتصب في مجرى الدفاع عن الحريات في الوطن العربي، كله.
ولقد انتهت القضية بتراجع الحكومة عن قرارها الخاطئ، بل هي اندفعت بقرار واعٍ من رئيسها الشهيد رفيق الحريري، وقد ادرك فداحة التورط الى ما هو ابعد من التراجع، اذ وافقت على تعديلات جوهرية في قانون المطبوعات ألغي بموجبها بعض المواد الموروثة من عهود الانتداب والحماية الأجنبية، وكان التعديل الأهم منع التوقيف الاحتياطي للصحافيين ومنع التعطيل الا بموجب حكم قضائي يصدر عن المحكمة وبعد المحاكمة لا قبلها.
أي ان القضية انتهت بانتصار عظيم لقضية الحرية، لكل طرف فيه نصيب: للصحافي الذي نشر ما هو صحيح، وللمحامي الذي دافع عن قضية مقدسة هي الحرية، وللقاضي الذي ظل ضميره يقظاً فجعله أقوى من السلطان، خصوصاً انه يحكم بالعدل مستنداً الى حماية معنوية هائلة تعزز قناعته بصحة موقفه.
وللأمانة نقول، وقد مضى على القضية أكثر من خمس عشرة سنة، إن الحكومة قد تنبهت الى تورطها في خطأ شنيع فتغلبت على غرضها وتراجعت مستنقذة نفسها، ومشاركة في الانتصار لقضية الحرية في دولة تدعي أن نظامها ديموقراطي برلماني… بل إنها عادت بشخص الراحل الكبير رئيسها فساعدتنا في تعديل قانون المطبوعات وإلغاء كل ما ينص على اتخاذ أي إجراء تعسفي قبل المحاكمة.
لم تكن هذه الواقعة المرة الوحيدة التي يتم فيها تقسيم العمل الى حد التكامل بين الصحافة كمنبر لحرية التعبير وبين حق المحامي في الدفاع عمن يعهد اليه بحقوقه، وأولها حقه في محاكمة عادلة كائناً ما كان ذنبه، وأخطر الذنوب حقه في التعبير عن رأيه… ولا سيما أمام السلطان الجائر.
ولأنني معكم وبينكم، انتم رعاة القانون، اسمحوا لي أن استذكر حكاية قديمة يعود تاريخها الى »مؤتمر الحوار الوطني« في الطائف، الذي أنجب الاتفاق الذي حمل اسم ذلك المصيف الجميل الشهير بفاكهته الممتازة وبالذات العنب والرمان… وافترض ان شريكي في هذه الندوة الصديق العزيز ادمون رزق يذكر تفاصيلها باعتباره كان من فريق العتالة الذي تعب على إنجاز الاتفاق الذي كان منجزاً ( الى حد كبير) قبل انعقاد المؤتمر.
في إحدى جلسات ذلك المؤتمر الذي استطال لشهر من المجادلات والمبارزات الفقهية والسياسية والدبلوماسية في محاولة لإعادة صياغة حلول لأزمة النظام السياسي في لبنان الذي لا يكف عن توليد الأزمات، وقع إشكال بين شاعر العدالة والعازف المتميز على قانونها الراحل نصري المعلوف، وبين احد المتميزين من رجال الدبلوماسية العرب الدبلوماسي فوق العادة الأخضر الإبراهيمي.
ولقد طلب اليّ الرئيس الراحل رينيه معوض ان ارتب لقاء بين الصديقين، فكانت دعوة الى الغداء في فندق شيراتون في »الهدا« الضاحيةـ المدخل الى الطائف.
افتتحت الجلسة بحضور المدعي والمتهم والشهود رينيه معوض وبيار حلو وسفير الجزائر آنذاك في السعودية عبد الكريم الغريب، وكاتب هذه السطور.
طرح الإشكال، ثم بدأت المحاكمة، لتنتهي بمطالعة مميزة قدمها الأخضر الإبراهيمي. قال موجها الحديث الى نصري المعلوف.
– يا صديقي العزيز. انت رجل قانون ذائع الذات ومحام قدير وصاحب حجة وبرهانك الشعر الذي نحفظ ديوانه المطرب، فضلاً عن ظُرفك الذي يأتيك بالجميلات أسرابا أسرابا… وكمحام فإن هدفك الطبيعي ان تكسب الدعوى. لذا تهمك التفاصيل كثيراً، ويهمك أكثر التحديد القاطع: في الساعة كذا والدقيقة كذا، في محلة كذا، أقدم فلان الذي كان يرتدي كذا وكذا من الملابس على ضرب او سلب فلان كذا وكذا، ثم ركب سيارة لونها كذا وابتعد بسرعة.
أما انا كدبلوماسي فبين مقتضيات مهنتي ان يظلل الغموض الوقائع، وان يغيب التحديد القاطع لتتبقى لي مساحة للحركة، لأفيد منها في صياغة الحل… الذي غالباً ما يعتمد على الغموض لتمريره بإيهام كل الأطراف أنهم حققوا ما يطلبون او منعوا الآخرين من نيل ما يطمحون اليه.
لذا فان التناقض او التعارض بيننا يفرضه الاختلاف في طبيعة المهنة، الذي لا يجوز ان يتحول الى خلاف شخصي.
تلك هي الواقعة… أما الاستنتاج فهو: أن ليس بين حرية المحامي وحرية الصحافي تناقض مهني الا بالدرجة… ذلك ان المحامي طرف.. في حين ان الصحافي هو الشاهد العدل، من حيث المبدأ، او هكذا يجب ان يكون، وان ظل هدفهما المشترك الوصول الى العدالة التي هي جوهر الحقيقة.
أما في النضال الوطني العام من اجل نظام سياسي يقوم على الحق والعدالة والمساواة، أي على الديموقراطية، فالكل شركاء، وكثيرة هي المعارك من اجل القضايا المحقة لهذا الشعب ولهذه الأمة على اتساعها، وان ظلت فلسطين في موقع القلب، والتي خاضتها نقابات المحامين واتحاداتهم في أقطارهم وعبر مؤسستهم الجامعة، اتحاد المحامين العرب، والصحافة، كطلائع مقاتلة من اجل التقدم والديموقراطية والحق بحياة كريمة، في وجه الطغيان الداخلي والاستعمار الأجنبي ومشاريع الهيمنة على منطقتنا بأسرها.
ولقد لعب اتحاد المحامين العرب دوراً طليعياً في معارك النضال جميعا، ولا سيما ضد العدو الإسرائيلي، ومن اجل حماية حقوق الإنسان العربي في وطنه.
إنما نحن نتكامل، يا رفاق السلاح من المحامين، اذ يفترض بالصحافة ان تكشف الأخطاء والعيوب وان تقدم المنبر وساحة الدفاع عن القضايا العادلة، معتمدة على كفاءتكم في المساعدة على إحقاق الحق ونصرة المظلوم، والأخطر: على تصحيح عيوب النظام وفضح عيوب الحكم الذي طالما تبدى في أكثر من قطر عربي كأنه الخصم الأول لحقوق شعبه في الحرية والعدالة والديموقراطية.
وسيبقى أهل الصحافة وأهل القانون جبهة موحدة في خدمة قضايا الإنسان…
(مقتطفات من مداخلة أُلقيت، أمس، الخميس، في ندوة نظمها اتحاد المحامين العرب في بيت المحامي في بيروت)
استديو هالة كوثراني: غلاف السر!
عندها ما يكفي من الوقت، هالة كوثراني، كي تختار من تكتب عنهم وما تريد ان تقوله بألسنتهم او بتعابير وجوههم او بالمناخ المحيط بابطال رواياتها الذين يجمع بينهم ما تقرره لهم وتقدمه على انه خيارهم او قدرهم او ما استنسبته من مزيج القدر والخيار… أليس الكاتب هو من يستدرج ابطاله الى ما اختاره لهم من اقدار حتى لو ادعى انه إنما كان يواكبهم ويرصد ما يصدر عنهم، من اقوال او ما يقدّر انهم كانوا سيقولون لو انهم ينطقون؟
عندها كفايتها من الوقت، وعندها أكثر من الموهبة ومن الخيال ومن القدرة على المزج بين التمثل والتمثيل، بين اعادة صياغة الواقع وبين تطويع الوقائع لما يخدم سردها السلس، الذي يوهمك انه بسيط جدا لتكتشف تدريجا انه يأخذك الى حيث لم تتوقع او لم تتصور فتفاجئك الخاتمة قبل ان تفيق من مفاجأة المدخل.
وتحار وانت تقرأ هالة كوثراني: هل تكتب هذه الزميلة، التي تدير التحرير في مجلة نسائية، بالقلم أم بريشة رسام متمكن، ثم تأخذك قدرتها على رصد شخصياتها بعواطفهم وردود أفعالهم الى التخمين انها اقرب الى العالم النفسي، لكن برقة شاعر..
من روايتها الأولى »الأسبوع الأخير« اطلت شخصية القلم النضر والمعافى لغة، والعين القادرة على اختراق الحجب والقلب المؤهل لاكتشاف مكنونات الآخرين، والاخطر: القدرة على الامساك بقارئها وسحبه الى العوالم السحرية التي تتوغل فيها بثقة المتمكن من فن السرد، كي تصل به الى حيث تريد، حتى لو خالفت توقعاته التي نسجها عبر محاولة استنطاق السطور او الشخصيات من خلف ظهر محركة خيوطها واللعب بها كعرائس.
اما في روايتها الثانية »استديو بيروت« فتطل كاتبة السيناريو الذي لا يحتاج الى أكثر من لمسات فنية قليلة ليغدو شريطا سينمائيا تنبض شخصياته بحياة زاخرة بالعواطف والعواصف، وإن ظلت مغلفة بالاسرار التي تسري بين السطور من اول صفحة حتى الخاتمة »البوليسية« نوعا ما.
تستوقفك بداية صورة الغلاف التي تستعيد عصرا تفترض انه قد صار من الماضي لتكتشف ـ بعد القراءة ـ ان الماضي ليس أياما خلت، عبرت بهدوء واستقرت في الذاكرة، بل انه كثيرا ما يصير في المستقبل، بل قد يتحكم بالمستقبل هذا ان لم يحتله كله.. بهدوء.
والصورة ليست مجرد تجميد للزمان عند لحظة معينة.
لا النظرة المشبعة بالحزن والحيرة والرسائل التي لا يعرف قراءتها الا المعني بها، على فرض انه رآها، ولا الشعر المطلق السراح وقد احاط بالوجه كاطار مذهب للتوقع »الكامن« في العينين المفتوحتين على ما تريدان اخفاءه،
ولا الثوب الشاهد على زمن مضى من دون ان يعيشه بعض اهله كما احبوا ان يعيشوه، والذي جاءت هالة كوثراني تريد عبر روايتها ان تعيد وصل ما انقطع منه.
هل هي »الخالة هيام« تلك التي تجيء من زمانها لتستأنف عبر رواية هالة، حياتها التي أمضتها انتظاراً حتى حان الموعد الذي لم تفقد ايمانها بأنه سيأتي، حتى لو اندفع »عماد« الذي عشقته في مغامرات زواج عبثية، واحدة تلو الأخرى، لينتهي مستسلماً في احضانها؟
أم هي »ريما« التي ورثت الرغبة في الانتقام فاندفعت تتحدى ذاتها ومناخ المأساة التي عاشتها والدتها وتريد ان تتغلب عليها عبر خالتها؟
أم هو الزوج »ربيع«، البطل بصمته، والذي تستنطقه كلماتها ثم تهمشه بالكلمات أيضاً، لا سيما تلك التي لم يبح بها لها،
أم هي بيروت التي تعود، بعد الرواية الأولى، لتحتل موقع بطولة في الاستديو الجديد للمدينة التي تستولد ذاتها من ذاتها، من قلب الاهوال والعبثية والقتل العمد أو الاهمال المقصود؟
في كل الحالات تبقى أولغا الأوكرانية الشاهد ـ الملك في هذه الرواية التي تقول فيها هالة كوثراني انها قد استكملت اراحة ذاكرتها من كثير مما كان يستعصي على فهمها… فهي الآن تعرف، ومن هنا قلقها العظيم الذي تقوله صفحات الرواية الجديدة بكثير من متعة اكتشاف بيت السر.
مـن أقـوال نسـمة
قال لي »نسـمة« الذي لم تعــرف له مهــنة إلا الحب:
ـ الحب ان تعيشه بكيانك جميعاً، بروحك وأحاسيسك وجسدك وتمنياتك من مستقبلك، لا ان تجلس في انتظار اكتماله بشروط. فلا هو سيكتمل من دونك، ولا أنت ستعرف الاكتمال إلا به… والخطوة الأولى للأعظم قدرة على العطاء… فالعاشق من أعطى أكثر لا من تلبث ينتظر ان يهبط عليه الحب بالمظلة!