رشميا… تحت ظلال فلسطين!عند المغيب، وسط ضباب خفيف، وفي جو ينذر بمطر غزير، توقفت تلك الحافلة المزدحمة بركابها الغرباء، في حين أخذ أهالي بلدة رشميا في قضاء عاليه، يتنادون لمساعدة <هؤلاء المساكين> الذين اخرجتهم <العصابات الصهيونية> من بيوتهم في أرضهم الفلسطينية عنوة وبقهر السلاح.كانت الأمهات وبعض الجدات اول من وصل، واخذن يزاحمن الرجال على تقديم يد العون، وقد حملت كل منهن ما استطاعت حمله: بعض اللحف والمخدات، او بعض الطعام، او بعض الثياب الفائضة على الحاجة.تزايد عدد الرجال وانهمكوا في ترتيب البيت الكبير المهجور، في جوار الفرن، الذي اختير كمأوى موقت لهؤلاء الآتين من خارج التوقع، بينما ذهب آخرون لتفقد <الأونطش> الملحق بالكنيسة كسكن احتياطي لمن قد يؤتى به بعد.كانت امي تذهب باكية وتعود منتحبة يثقل عليها الاحساس بالعجز، بينما ظل الوالد صامتاً يظلله الوجوم، يدير بصره من حوله ويهز رأسه بين فينة واخرى، ثم فجأة قام فارتدى ملابسه <الرسمية> من جديد وحمل بندقية الدولة بين يديه، واغلق الباب خلفه بشيء من العنف، ربما حتى لا ألمح دمعة نفرت من عينيه… مع ذلك فقد سمعت بعض همهمته الغاضبة، وفهمت من كلماتها: البندقية… يحتاجون إليها هناك!سهرت البلدة تلك الليلة، وقد صار لأهلها موضوع يثير هممهم واهتمامهم وان كانوا لم يتجاوزوا العاطفة او التعاطف الى السؤال الجدي طلباً لفهم الاسباب الحقيقية التي جاءت بهؤلاء الفلسطينيين من بلادهم البعيدة الى هذه القرية الوادعة في جبل لبنان. كانوا يرددون قول خوري الرعية عن ان هؤلاء اخوتنا في الدين وهم يحتاجون الى المساعدة.كانوا قد سمعوا نتفاً عن الحرب في فلسطين، وتداولوا اخباراً عن دولة اليهود التي أُعطيت اسم <اسرائيل>، وعرفوا بالتواتر ان آلاف الرجال قد قُتلوا، وأن ألوفاً مؤلفة من الناس قد طُردوا من بيوتهم ثم طوردوا حتى اخرجوا من بلادهم فلسطين، وأن بين المهجرين كثرة من المسلمين وقلة من المسيحيين، لكن الجميع عوملوا بالشراسة نفسها! ولولا تدخل الكنيسة واهتمامها بتجميع المسيحيين ورعايتهم بقدر المستطاع، لانتهوا مع شركائهم في الوطن ثم في الطرد منه في مخيمات اللجوء..استذكر بعض المطلعين منهم خطاباً مؤثراً سمعوه من الراديو، أو هم سمعوا عنه، وهو ذلك الخطاب الذي ألقاه <ابن بلدتهم> رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري في وداع تلك الكتيبة من الجنود الذين اوفدوا للدفاع عن حدود لبنان الجنوبية في مواجهة الاطماع الصهيونية التي غدت الآن <دولة> قوية تحمل اسم <اسرائيل>، وكنوع من النجدة او المشاركة في النجدة العربية لدفع الخطر الصهيوني عن الأرض المقدسة.بعد يومين او ثلاثة <هدأت> عاطفة المضيفين واستفاقوا الى ان هؤلاء الذين جاءوهم لاجئين، عبء ثقيل لا طاقة لهم بحمله… وكان لا بد من ان تتدخل الكنيسة كي تجد الحل، ولقد وجدته بأن اختارت مواقع لاقامة مخيمات تستوعب المئات من <رعاياها> الفلسطينيين، فجمعتهم فيها، في انتظار حل ما، لم يكن يتصل من قريب او من بعيد بحق العودة الذي كان يدغدغ احلام اولئك المساكين الذين وصلوا مع الغروب وفي ايدي او اعناق عجائزهم تلك <المفاتيح> التي اكتسبت شيئاً من القداسة، لبيوتهم التي غادروها ولم تغادرهم في الأرض التي انبتتهم ورعتهم ثم عجزوا عن حمايتها إلا بأجداثهم.وكان السؤال الذي ظل يردده اولئك المهجرون حتى غُرس في ذاكرة كل من سمعهم يطلقونه: لماذا يقاتلنا العالم كله؟ ماذا ارتكبنا من خطايا حتى يؤتى بكل هؤلاء اليهود من اربع رياح الأرض ليأخذوا منا بلادنا بالقوة؟لكن اهالي رشميا الفقراء لم يكونوا يملكون جوابا، وان كان الخوف قد بدأ يمد ظلاله السوداء فوق يومياتهم ويفرض عليهم ان ينصرفوا الى تأمين أنفسهم ضد هذا المجهول الخارق القوة الذي اقتلع شعباً من أرضه ورماه في… المجهول!سعد كامل يهجر <المحروسة>…يتوالى انطفاء المصابيح في <المحروسة> التي <نامت عيونها عن ثعالبها> فأفسدوا في الأرض وحاصروا النور حتى يتأخر الصبح الجديد عن ميعاده الثابت.يرحل جيل الرواد ـ بطبعتهم الثانية، وهي الاكثر اشراقاً بالمعاني الفكرية والثقافية والتعرف الى الذات واستعادة الهوية، دونما انغلاق او خوف من العالم المتقدم.وتتمدد مساحات الفراغ فيغزو جراد الضحالة والركاكة والعصبيات والاصوليات المبتدعة او المستعادة من ماض سحيق وسائر مفاهيم الجاهلية لإقفال باب المستقبل. يتبدى الحكام اكثر جهلاً، وبالتالي اشد قمعاً!. هل تراها مصادفة انه يندر ان تجد بين حكام أرض لغة الضاد، ومهبط التنزيل وحفظة القرآن الكريم، من يعرف الحد الادنى من مبادئ لغته، قراءة وكتابة ونطقاً؟! كيف لا يُرعب الشعر بأخيلته وصوره المجردة ومضامينه التي تستبطن الكلمات المجنحة، من يستخدم في حياته اليومية كما في مراسلاته السلطانية او في مباحثاته الرسمية مع <الاجانب> لغة مستعارة لا يمكن ان تعبر عن <أفكاره> فضلاً عن ان تعبر عن مصالح دولته او مطامح شعبه، وهو بالقطع لا يعرفه بما يكفي ليكون قائده وهاديه ومنقذه في بحر تتلاطم فيه المصالح والقوى وهو في غربته عن أهله الاضعف؟!.آخر المصابيح التي انطفأت في القاهرة، بينما نحن غارقون في ظلمة الفتنة في بيروت، هو الكاتب الذي كتب بجهد عينيه وبعرق اخلاصه وايمانه بأرضه وأهله، سعد كامل.كان مثقفا كبيراً، ولذلك فإن كتاباته قليلة، بل نادرة.وكان وطنياً صلب العقيدة واشتراكياً متحرراً من التبعية للحزب الملتحق بالمركز. ولقد سُجن سنوات كشيوعي، لكنه ظل على ايمانه بحق شعبه في التقدم، وحين خرج من السجن بفضل المصالحة بين نظام جمال عبد الناصر والاتحاد السوفياتي كان أكثر ايمانا بوطنية ذلك القائد الفذ واخلاصه لبلاده وأمته، وتفانيه من أجل تقدم شعبه.ومثل العديد غيره من الشيوعيين المصريين الذين بحثوا عن الفرصة لانجاز ما ينفع الناس، فقد وجد ضالته في <قصور الثقافة> التي حاولت <الثورة> ان تزرعها في المحافظات جميعاً، وكان للشيوعيين <المتنصرين> الآن دور تاريخي في اشادتها وفي رعايتها وفي اتاحة الفرصة للملايين من ابناء الارياف، في مدنهم وقراهم ونجوعهم، لأن يعرفوا الفنون جميعاً: السينما والمسرح، والاخطر: الكتاب، وأن يسمعوا الشعر من مبدعيه، وان يقرأوا فيعرفوا من هم، ومن هم اهلهم واصدقاؤهم، ومن هم خصومهم واعداء مستقبلهم.ولقد عرفني الى سعد كامل ذلك الذي فتح لي كتاب مصر فباشرت القراءة فيه منبهراً، وما زلت اتابع التعلم، بهجت عثمان الذي طالما اضحكنا من جهلنا وتخلفنا، وحرضنا على طلب الحرية والعدالة والتقدم.ثم انني عرفت، مع بهاجيجو، سعد كامل <الحرفوش> في سهرات الخميس مع معلمنا بصمته كما بكتاباته الغزيرة والممتعة التي تفتح لنا قلب مصر، نجيب محفوظ. وكان بين اسباب سعادتي انهم قبلوني بينهم، هؤلاء الحرافيش الذين زرعوا قمحهم في أرض مصر ثم ارتحلوا وظلت قلوبهم معنا، ومنهم الكبير محمد عفيفي والباشا أحمد مظهر والفنانة المقاتلة ناديا لطفي و<مسيو باردون> المخرج توفيق صالح وسائر الكبار.مع سعد كامل، لا بد من استذكار تلك القادرة على طحن المستحيل، رعاية النمر، والتي كان بعض وهجها يتبدى مشرقاً وجميلاً في رسوم <أبو العينين>، وفي اضافته المتميزة الى الصحافة العربية التي اقحمها عالم الشباب، وكانت خطوته الرائدة مجلة <صباح الخير> التي صدرت عن دار <روز اليوسف> برعاية احسان عبد القدوس وتحت رئاسة تحرير أحمد بهاء الدين الذي ندر ان يكون كمثله أحد في الدقة والموضوعية والنزاهة.في مصر التي غفل نواطيرها عن حراستها، <قصور> الآن ولا ثقافة فيها… وهذه صحافتها التي علمتنا الكتابة تسلم قيادها عبر المؤسسات الرسمية الى كتبة لا يعرفون اللغة ولا هم يعرفون شعبهم بالقدر الكافي، إلا قلة قليلة، بعدما استُبعد العارفون او رحل المثقفون الى ربهم او الى المنافي يحملون في صدورهم لوعتهم، وينتظرون ولادة <أم الدنيا> مجدداً كي تعود <عزيزة>، وكي يغنوا لـ<بهية، ام طرحة وجلابية> التي شاب الدهر ولم يطاولها الشيب او عجز الشيخوخة، وان كان اوجعها قصور <الملاحين> وقد تركوها في مهب الريح، يتطاول عليها الصغار ويهملها الكبار وتتصاغر قاهرتها لتترك موقع <المعز> الى <منتجع شرم الشيخ> حيث تتصدر مدخله صور الشركاء في إذلال هذا الشعب العريق.سعد كامل: ستبقى في ضميرنا بصمتك المدوي ونتاجك الذي انتفع به الناس، اهلك، وأما الزبد فيذهب جفاء.الحب هو الشعرعندما قررت ان تحبه لم تتوقف لتسأله رأيه. الحب يتنزل كما الوحي بلا استئذان، فإن عز التلاقي صار شعراً يتقطر عذوبة، ينسج الاحلام أغاني للفرح الآتي ويبني فراديس البهجة في شرنقة الوهم، فإذا هو غارق في بحر المباهج…. الحزينة!الحب هو الشعر… ديوانه التشوق والاحتراق في لوعة الانتظار.الحب أعظم من الحبيب، فإذا ما تصاغر فصار بحجم المحبين انتهى شقــة وأثــاثاً وبــرامج سهر وتلبية دعــوات ومجــاملات، تستـهلك اللهفة ومتعة الانتظار في قلب الترقب المبهج وسحر المفاجأة، التي يتفجر سرها قبلات واحتضانا وشهقات لوعة ينهمر مطرها بشارة فرح.وحين سألته: ومتى نلتقي؟ رد مستغرباً: ولماذا تتعجلين النهاية؟! اننا في السطر الأول، بل في الكلمة الاولى، فأكملي القصيدة. موعدنا مع اكتمال الديوان… والديوان يحتاج الى الف بدر، والبدر لا يجيء بالطلب، والحب خلف الانتظار لا أمامه. ازرعي احلامك وانتظري ربيعها، فمتى اتى أتيت.مـن أقـوال نسـمةقال لي <نسمة> الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:ـ الحب يُدخلك جنة الحياة.انظر حولك تكتشف المحبين من خلال التماع عيونهم بالبهجة. أما المنطفئة عيونهم وعقولهم بتفاصيل عيشهم، فإنهم لم يعرفوا الحب، أو انه زارهم في غيابهم فلا هو وجدهم ولا هم تعرفوا الى انفسهم فيه.