تعلمت منه هاوياً ومحترفاً ومنافساً
قبل حين، طلبت الزميلة الجزيرة السعودية كلمة عن عميد النهار ، بل الصحافة اللبنانية، في طبعتها المعاصرة، الاستاذ غسان تويني، لتنشرها في ملحق خاص عن هذا الزميل الكبير.
قبل أيام وصلني من غسان تويني الملحق الذي اصدرته الجزيرة على دفعتين، وفيه كلمات لسياسيين كبار ودبلوماسيين كبار وكتاب كبار ولزملاء في المهنة بينهم المستجد والمجدد كما بينهم المخضرم والذي على باب التقاعد.
هنا نص الكلمة التي كتبتها عن الزميل الكبير الذي تعلمت منه كيف أكون خصمه السياسي من دون ان أتنكر له كأستاذ عريق:
1
يافعاً كنت، ممتلئاً حماسة للاعتراض، حين رأيت غسان تويني لأول مرة خطيباً على منبر مهرجان دير القمر الذي نظمته (المعارضة) آنذاك ضد الرئيس الأول لجمهورية الاستقلال الشيخ بشارة الخوري (صيف 1952)…
وفتى كنت حين جئت مدفوعاً بالرغبة والاضطرار معاً إلى العمل في الصحافة، وتعرفت الى غسان تويني عبر (النهار) التي كانت تسعى لتمييز نفسها عن (عهد) كميل شمعون الذي جاءت به المعارضة إلى سدة الرئاسة، فإذا به يحاول تكرار تجربة تجديد الولاية لنفسه، ما أنتج معارضة جديدة، معززة هذه المرة بموقف عربي معارض بقوة الارتباط بالأحلاف الأجنبية، ومن بينها مشروع ايزنهاور.
ومن موقع المحرر تحت التمرين في مجلة (الحوادث) شهدت مسلسل الانقلابات في المواقف والسياسة: قيام دولة الوحدة بين مصر وسوريا تحت قيادة جمال عبد الناصر، وتفجير انتفاضة شعبية عارمة في لبنان اعتراضاً على سياسة كميل شمعون الذي حاول الاستقواء بالغرب وأحلافه، وكانت الشرارة آنذاك اغتيال صحافي من جيل المناضلين: نسيب المتني. ثم كانت ثورة العراق في 14 تموز 1958 التي (بررت) لجنود المارينز الأميركيين أن ينزلوا إلى شواطئ بيروت، بعدما طلبت واشنطن من شمعون أن يطلبهم بعد… نزولهم! وكان على غسان تويني الذي ولد معارضاً أن ينتظر بعض الوقت قبل أن يباشر حملته الاعتراضية على (حكم العسكر) المحتمين بفؤاد شهاب ومشروعه التحديثي للدولة، وتفاهمه مع رئيس دولة الوحدة عبد الناصر على الحد الفاصل بين بلدين وسياستين ومحورين دوليين.
أما بعد ذلك، ومن موقع المحقق الصحافي فقد جئت إلى (الأستاذ) غسان تويني لإجراء حديث صحافي معه.
وكانت أول مرة أجلس إليه محاولاً أن اقرأ في عينيه اللتين تقولان ما لا يقوله، حول الأوضاع والسياسيين.
وخرجت بانطباع أولي: كل جملة تحتمل التفسير على أنها تنويه يرفعها غسان تويني، أو جملة معترضة تؤكد التحفظ.
ابتداء من 26 آذار 1974 كنت قد شرفت نفسي بموقع (المنافس) في (السفير) للصحافي الكبير غسان تويني ولمؤسسته العريقة (النهار).
2
وهكذا فإنني قد تعلمت الكثير من غسان تويني بثقافته الواسعة معززة بخبرته المباشرة في دنيا السياسة والدبلوماسية ثم بمهنيته العالية، وأنا في موقع المتدرج، ثم وأنا أتقدم في الطريق الطويل والشاق للاحتراف.
إلى أن تخرجت بدرجة الشرف وأنا أتقدم نحو موقع (المنافس)، خصوصاً أنه قد احترم هذه (المنافسة)، ما جعل كلينا يفيد منها في صحيفته، بقدر ما أفادت منها الصحافة في لبنان عموماً، على ما أقدر وأتمنى.
تعلمت من غسان تويني أن أقدم الصحافة على السياسة، وأن أفيد من أهل السياسة لحساب الصحافة بدلاً من جعلهم يفيدون مني ومن الصحافة لحساب (سياساتهم)… خصوصاً أن سياساتهم ضيقة، عموماً، وفئوية غالباً، وشخصية بالأساس.
باختصار: إذا احترفت مهنتك فإنها ستعطيك أكثر بما لا يقاس من احتراف العمل السياسي، أقله كما هو معروف ومألوف في دنيانا العربية: أي صراع بلا معايير غالباً من أجل السلطة بذاتها، وليس بطلب السلطة من أجل أهداف نبيلة يشترك في السعي إلى تحقيقها الناس بوصفها الطريق إلى الغد الأفضل.
قد يكون أسلوب غسان تويني صعباً، لأنه غالباً ما يريد أن يقول الكثير، دفعة واحدة، فيمتزج في كتاباته (المراقب) الذي يعرف (النهايات)، و(الخبير) الذي يعرف (البدايات)، والدبلوماسي الذي انكشف له سر السياسات العربية والدولية، و(السياسي) القادر على استكشاف الآفاق البعيدة، و(دارس الفلسفة) الذي يمكنه استخلاص الدروس باعتماد التحليل العقلاني والربط بين الأسباب والنتائج.
إنه يعرف بحكم تجربته العريضة، أكثر مما يجب، وهو يعرف كيف ومتى يستخدم ما يعرف، كله أو بعضه، من أجل ما يريد الإقناع به…
ثم يحتفظ بالباقي لتبرير سقوط من لم يقتنع، أو أنه اقتنع أكثر مما ينبغي.
إنه يعرف أهمية الجغرافيا في صنع تاريخ الشعوب، ويعرف باليقين كما بالواقع المحسوس، أن لبنان إن تاه عن واقعه ضاع في غياهب الصراعات الدولية والإقليمية.
3
هو، مثلاً ضد إسرائيل بالعقيدة كما بالسياسة، لكنه يعرف خطورة مشروعها الاستيطاني، كما يعرف طبيعتها العنصرية، لذا فهو ضد الارتجال في مواجهتها، وضد الاستخفاف بقوتها الذاتية كما بقوى الدعم الدولي التي تحظى بها والتي تختلط في تبريرها النزعة الاستعمارية مع الرغبة (الأوروبية) في التكفير عن ذنب لم تفتأ الصهيونية تعظّمه وتجسمه حتى غدا حقيقة مقدسة…
وشاء سوء حظ العرب في فلسطين ومن حولها أن يدفعوا (الكفارة) من أوطانهم عن (المحرقة) ضد اليهود التي نظمتها النازية في قلب أوروبا.
كذلك هو يعرف بالدراسة المتأنية مدى التماهي بين طبيعة إسرائيل، بل الحركة الصهيونية عموماً، وبين القيم والأعراف والترسبات التاريخية الدينية في المجتمعات الغربية، حيث تم المزج أو الربط المقصود بين العهد القديم والعهد الجديد في بعض مدارس التفكير، بحيث انعدمت الفوارق أو كادت بين اليهودية والمسيحية (الغربية)، وتبدى كأن العهد الجديد مجرد امتداد للعهد القديم، وبالتالي فإن المسيحية (الغربية) طبعة منقحة من اليهودية (الغربية)، وبالتالي صار بديهياً في السياسة أن تلقى الصهيونية هوى لدى كل قوى الاستعمار القديم بقدر ما خدمت أهداف الاستعمار القديم، وبقدر ما تخدم أهداف الاستعمار الجديد (الأميركي) في أرضنا العربية.
إنه (غساني) في عروبته، وهذا لم يمنعه أن يكون سورياً قومياً في شبابه (الذي ما زال يعيشه بفكره)، وأن يتبدى أحياناً مجلبباً بلبنانية كيانية، مع أن ثقافته إنسانية شاملة.
ولقد عشنا لحظات حزن حقيقية مع غسان تويني في فواجعه العديدة التي ذهبت بأسرته جميعاً، وآخرها تلك التي أدمت قلوبنا مع استشهاد الزميل والصديق الرفيق (برغم عنفه الكتابي) جبران تويني.
لكن الحزن سرعان ما اقترن بمزيد من الإعجاب بصمود هذا الرجل الثمانيني للشدائد، وبروح التسامح التي تصرف بها في أعقاب مأساته التي هي بعض فصول مأساة لبنان المعاصر.
وكان بين ما زاد في إعجابنا قدرته على أن يواجه قدره بمزيد من الإنتاج المميز، وبمزيد من وضوح الرؤية، وبمزيد من الإيمان بوحدة لبنان بهويته الأصلية.
ثم إن تسامحه كان على قدر من النبل بحيث غدا مثلاً يحتذى به في تقديم الهم العام على الهم الخاص.
4
وإنني إذ أشكر الزميلة (الجزيرة) على اهتمامها بتكريم هذا القلم اللبناني العربي الغزير في عطائه والذي طبع جيلين أو أكثر من الصحافيين، وأثرى الفكر السياسي بقدر ما أثر في الحياة السياسية اللبنانية، وإلى حد ما العربية، عبر جريدته المدرسة (النهار)، أحس بكثير من العرفان لأنها وفرت لي الفرصة لأقول بعض التقدير الذي أحمله لهذا الزميل الكبير الذي رسخ إيماني بالصحافة كرسالة وكسلاح حضاري عظيم الفعل في صنع الغد الأفضل، في لبنان كما في الوطن العربي.
غسان تويني هو واحد من كبار المحرضين على التقدم نحو المهمة الجليلة في صعوبتها، وهو أن نصنع غدنا بأيدينا وبمفاهيم العصر، بغير أن ننسى ماضينا أو ننكره، لكن بغير أن نجعله حاجزاً بيننا وبين الشمس.
يكون ماضينا عظيماً ونكون جديرين به بقدر ما نكون في مستوى المهمة الجليلة لإعادة بناء لبنان ليكون إعلاناً بالقدرة على بناء غدنا الأفضل.
مجرد حركة مسرحية
لوهلة ظن الناس ان خللاً فنياً قد ضرب الارسال فلم يصلهم الصوت، خصوصاً انهم كانوا يتبينون بوضوح حركة شفتي الممثلة المعتلية خشبة المسرح، كما انهم لاحظوا ان الممثل قد بوغت هو الآخر فحاول انقاذ الموقف بالدوران راقصاً لإشغال الجمهور.
بعد لحظات، انفتلت الممثلة عائدة الى الكواليس في عاصفة من الغضب.
وهبّ المخرج يستطلع اسباب الموقف المحرج، ثم صعقه الحوار المتوتر الذي سمع اصداءه قبل ان يدخل الغرفة الصغيرة حين كانت الممثلة تمشي جيئة وذهابا امام المرآة كعاصفة من نار:
قالت الكلمة: ما هكذا كتبني. ما هكذا اراد مني مبدعي ان اقول.
ردت الممثلة بحنق: من أنتِ حتى يكون لك رأي؟! انت أحرف صماء. انت أشكال مقطعة طولاً وعرضا، بعضك مقعر وبعضك مسطح، والنقط هي التي تميز بينك، لكن النطق هو الذي يملأ فراغك بالمعنى.
انفعلت الكلمة فهمهمت: حسنا، سأنسحب اذاً، وتفضلي فانطقي!
قالت الممثلة: انسحبي… يمكنني بالحركة ان اعوضك… لقد صرفت سنوات من عمري اتعلم واتدرب، واستطيع بالايماء والاشارات والرقص التعبيري، ان اقول ما لا تستطيعين حمله من المعنى… ولسوف ترين!
ضحكت الكلمة وهي تقول: حسنا، سأنصرف وأترك لعبقريتك ان تعوضني، انا التي قد اترقرق همسا حتى الذوبان، والتي قد أحتد غضباً فأصير عاصفة… أريني كيف بخرسك ستقولين الحب، او ستتقلبين في قلب الغيرة، او ستتآكلك حسرة الهجر! ان آهة حب واحدة تستدر التنهدات حتى البكاء. ان احتراق الحروف في نداء يا حبيبي تجعل الجمهور يبكي بصمت… انت من دوني شبح أخرس، يتحرك فيحبس الناس انفاسهم في انتظار ان ينطق، ان يقول ليقرروا هل يتعاطفون معه ام ينصرفون عنه محنقين! انا من ادخلك قلوب الناس او اخرجك منها. انا آخذهم الى وجدانك فتتحدثين بلوعتهم، فإذا ما غبت انقطع التواصل.. لذلك عليك ان تحترمي دوري في انجاح دورك.
عندها دخل المخرج ليصرخ بهما: كفى فلسفة، فالجمهور ينتظر، ولغضبه حدود، وأنا من سيدفع الثمن، فهيا وإلا تم تكسير المسرح على رؤوسنا جميعا. ننجح معاً، فنتكامل في قول المعنى، او نفشل فيهرب منا المعنى ونسقط في لجة الفراغ. الامر لي! انا من يرسم المشهد، ومن يحدد الادوار.
وحين عادوا الى خشبة المسرح، كان المؤلف يقف في البعيد يحاول ان يستجمع مداركه ليكتب المسرحية الجديدة!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
كلما ودعت حبيبي دهمني خوف من ان يطول بعاده عني، ان يطرأ ما يحرمني منه. ولكني ما ان أسمع رنين هاتفه حتى أهدأ وأعرف أنني سأعيش بحبي اكثر مما عاش النبي نوح.