الخليج ما بين زايد الخير وراشد الماء والرمل …
صار الخليج بعيدا جدا عن لبنان، وربما عن العرب عموماً، سواء في مشرقهم القريب أو في مغربهم الأقصى.
المسافة، جغرافيا، لا تزال هي هي، وإن كان وقت الرحلة بالطائرة قد زاد عن حده الطبيعي منذ المغامرة الحمقاء لصدام حسين بغزو الكويت… بل لعل اتساع مدى البعد قد تم، بالفعل، بعد الجنون المطلق الذي أخذ صدام حسين الى الحرب على الثورة الإسلامية في ايران، بعيد انتصارها، وهو هو الذي كان وقع مع الشاه الطاووس اتفاق ذل واستسلام قبل ذلك بخمس سنوات، في جزائر هواري بومدين.
ما علينا والتاريخ، إنه سجل الآلام والأحزان والانتكاسات وافتقاد اليقين والتيه بعد الاغتراب الطوعي بعيدا عن الهوية وموجبات الأخوة في القومية أو في الدين ، أو في كليهما، فضلا عن اغتيال الوطنية بالدكتاتورية.
لنرجع الى الجغرافيا فهي أثبت، وإن كان الاحتلال الأجنبي قد تمكن من تمزيقها هي ايضا… فإذا العراق الذي كان واحدا قد صار نتفاً تتناتشها في ظل الاحتلال الأميركي وبتحريض يومي مباشر العناصر والأعراق والطوائف والمذاهب! واذا دماء العراقيين تضيف الى أرض الرافدين أنهاراً وروافد بلون النجيع، واذا المرتزقة والقتلة المأجورون الذين استوردهم الاحتلال الاميركي وأطلقهم في البلاد يطاردون نور الشمس والعصافير والفراشات وأذان الفجر وصلاة العشاء، فيقتلون ويزيدون في التنكيل بأهل البلاد، نساء ورجالاً وأطفالاً وشيوخاً، فتزيد أجورهم وتزدهر شركاتهم الأمنية جنباً الى جنب مع شبكات القتل باسم الدين، فضلاً عن أولئك الذين يقتلون بعمى الفتنة طلباً… للجنة!!
لنرجع الى الجغرافيا التي تبقى برغم الاختلال الفاضح في توزيع مصادر الثروة، رابطاً قوياً يحفظ ما تبقى من صلات القربى بين الإخوة المتباعدين في مستويات الدخول، وبالتالي في المصالح، وفي النظر الى الأجنبي، أميركياً بالأساس، والى السياسات التي تنبع من المصالح أو انها تستولدها والعكس بالعكس.
في الجغرافيا، فإن أقطار الخليج، وبالدرجة الأولى دولة الإمارات العربية المتحدة بمركزيها أبو ظبي ودبي، قد اتسعت مجالات الرزق فيها لعشرات الألوف من الكفاءات اللبنانية، شباباً وصبايا وأسراً بالنساء والرجال والتلامذة في المدارس الممتازة والجامعات ذات المستوى العالي.
إلا أن اتساع مجالات الرزق لم يقرّب المسافة ولم يوثّق الصلات الإنسانية، بل هو حدد العلاقة تماما بين أرباب عمل، شركات في الأساس معظمها أجنبي أو مختلط، أو أفراد صيرتهم الرساميل مؤسسات وشركات منتجة و عاملين بكفاءات عالية أو متوسطة يعطون من جهدهم كثيرا ويأخذون مقابلاً كان ممتازا ذات يوم، ثم أخذ يتدرج هبوطاً مع ارتفاع كلفة الحياة في هذه الإمارات المذهبة بالدخول العالية لأهلها الذين أتقنوا لعبة المال والاستثمار بأسرع مما كان يقدر الخبراء الذين يقرأون عن الرأسمالية والربح وربح الربح في الكتب.
مع رأس المال على الأخوة أن تتواضع، وألا تحاول فرض موجباتها على الطرف الأغنى (وهو بالضرورة الأقوى)، ويكفي منها رمزيتها.
[ [ [
صار الخليج بعيداً جداً عن لبنان الذي كان الى ما قبل عقدين أو ثلاثة عقود النموذج الذي يطمح أهل الخليج لان يقاربوه.
ومع ان لبنان ما زال غاليا على قلوب الخليجيين، يحبونه ويرون في أهله كفاءات متعددة، تشمل الى العلم المهارة، والى الجمال الأناقة، والى الثقافة الذوق، وهم يرغبون في أن يتخذوا منهم قدوتهم في فن الحياة وفي حب الحياة والاستمتاع بها استمتاعاً مطلقاً. إلا أن أهم سبب لحبه هو أنه صغير ، وبالتالي لا مطامح له ولا مطامع. ثم إن الفرد فيه ينظر الى نفسه أنه دولة بذاته، أو أنه أهم من دولته، وهذا هو عز الطلب !
صار الخليج بعيداً، لان المال جذب اليه كل الأقوياء في العالم: دولا وشركات ومؤسسات وأفراداً، فيهم الخبراء وأصحاب الأفكار وحملة المشاريع الملبية للطموح وأصحاب القدرة على التنفيذ… وفيهم من يعرف كيف يغري صاحب المال بأن يستولد له من ماله مالاً أكثر، ومن يقنع صاحب الأرض التي لا نفط فيها بأنها مؤهلة لان تعطيه من الثروة أضعافاً مضاعفة من الأرباح.
[ [ [
في البدء كانت ابو ظبي ، وكان الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه. ثم أمكن تهريب إنجاز في عصر الاستضعاف: دولة الإمارات العربية المتحدة فوق ما كان ساحل عُمان ، وهو اللسان الممتد ما بين الخليج العربي والربع الخالي.
وبالتأكيد، فقد كان لشخصية زايد الخير أثر كبير في تحقيق هذا الانجاز، فلقد تبدى بالنسبة الى شركائه في هذا الاتحاد في صورة الأخ الأكبر المستعد لان يشركهم في خيرات الأرض، كما تبدى بالنسبة الى الدول العربية من حوله، كما في البعيد، في صورة الشقيق الطيب المستعد لإغاثة الملهوف وإعانة المتعوس وإقالة عثرات الكرام.
غلبت الطيبة في شخصية هذا البدوي الذي جاءه من عند الله رزق وفير على صورة الحاكم، وكان المسافر الى تلك الديار وكأنه ذاهب في زيارة الى الشيخ زايد، سواء كان يقصدها لعمل أو حاملاً مشروعاً أو مسوقاً لأفكار، أو عارضاً جهده، أو كفاءاته، الظاهرة منها والخفية.
حتى الدول، لا سيما العربية، كانت تعتبر الشيخ زايد الاحتياطي الاستراتيجي ، ينجدها في مواجهة الضيق، ويبادر الى المساعدات إن حلت بها نكبة طبيعية، ويساهم في مشروعات التنمية فيها… ومن هنا ترى اسمه في العديد من الأقطار العربية ليس في لوحات الشوارع فحسب، بل على منشآت ومؤسسات إنتاجية ضخمة، من سد مأرب الى بعض المدن المستحدثة في مصر وفي كثير من المنجزات الاجتماعية، إضافة الى القصور في أنحاء مختلفة من المغرب العربي، فضلاً عن باكستان… إلخ.
[ [ [
ثم كان أن نبتت الى جانب أبو ظبي مدينة اخرى كانت مرفأ ومركزاً تجارياً لإيران والعراق وبعض أنحاء آسيا، وسرعان ما تسامقت وتوسعت وتعاظمت سمعتها حتى صارت اسماً علماً، وصارت محطة عالمية للمال والابتكارات ومشروعات الاستثمار وعاصمة للعديد من الأنشطة الظاهرة أو المستترة، ومركزاً لكبريات المصارف والمؤسسات المالية وشركات الإنتاج المتنوع التي تقصدها من أربع رياح الأرض لتتخذ منها مقراً أو ممراً ومنطلقاً الى أربع رياح الأرض.
من هنا، يمكن اعتبار الإيرانيين الشريك الأول، والروس البيض الشريك الثاني، والمافيات المموّهة بشركات، والرساميل الهاربة من بلدانها أو المهربة منها، بما في ذلك أموال الشبكات الاستخبارية وبعض التنظيمات المصنفة إرهابية بما في ذلك القاعدة ، التي تتقن التخفي وتمويه ذاتها عبر مؤسسات أو شركات تجارية… كل ذلك هم في موقع شركاء الماء والهواء والرمل في دبي بأبراجها المعلقة.
في حكاية دبي تمتزج الحقيقة والأسطورة لتقدم هذا النموذج الفريد لاستيلاد الثروة والسمعة الدولية والنفوذ غير المحدود.
إنه اسم غدا ماركة عالمية: هي مدينة أكبر من دول عدة، وهي فكرة لا تفتأ تتنامى وتتسامق ارتفاعاً مع الأبراج التي تنبت كالفطر خلال ساعات الليل فتشرق عليها الشمس وإذ هي بنوك وشركات ومخازن كبرى وإدارات عصرية للأفكار والإبداعات والأنشطة المختلفة.
هي ليست المرفأ الأكبر، في المنطقة، فحسب، وليست المطار الأعظم اتساعاً وحركة طيران، وليست المصرف العلني والمصرف السري للأنشطة جميعاً، المشروع منها وغير المشروع، المموه بالمبتدع والمختلق والمبتكر من فنون وعلوم وشبكات إنتاج واستيراد وتصدير وإعادة تصدير… ما في باطنها أغلى من النفط وأكثر، وما في ظاهرها يعادل ما في دولة كبرى من مصادر الدخل والإنتاج. يتجاور فيها الحلال والحرام الى حد التزاوج. وتتزاحم فيها الاستثمارات والأفكار المبتدعة لإنتاج المزيد من وسائل الإنتاج بحيث لا تعرف لها أهلاً أو صاحباً. فالمال الذي لا رائحة له لا هوية له، والمصدر المعلوم مجهول، لكن المكسب المجهول معلوم لمن أعطي سر المعرفة والتعديل في مفاهيم المشروع وغير المشروع… فالنصوص حمالة أوجه، ويمكن استعمال النص الذي يلائم القصد… والله من وراء القصد.
[ [ [
دبي هي اختراع مسجل باسم آل مكتوم.
وإذا كان السلف الصالح قد باشر في ابتداع هذه المدينة المرفأ فإن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قد اندفع بالمشروع بعيداً جداً عما طمح إليه الآباء والأجداد. لقد جعل المدينة ملخصاً للعالم، بقدر ما جعلها مركزاً من مراكز الأنشطة الأعلى ربحاً والأغلى أرضاً.
إنها منهاتن الجديدة، بكوفية وعقال… .
والشيخ الذي يكتسب أكثر فأكثر ملامح الأسطورة فيصير اسمه معادلاً للأشهر من المبدعين والمبتكرين، وتباع قمصانه في مزادات علنية وبأرقام خيالية، لا يتوقف عن استيلاد أو استيراد أو شراء أو استرهان أو استئجار الأفكار وتنفيذها حتى لا يذهب بها الموج زبداً ولا تمتصها الرمال هباء.
الحكاية ببساطة: أن تزرع الرمل في الماء، أو تغرس الماء في الرمل!
لم نكن نملك إلا الرمال والمياه. أهلنا بعض الرمل في مياه الخليج فإذا هي جزر تقوم فوقها عمائر وفنادق ونواد يتزاحم الناس على شرائها… ثم سحبنا بعض المياه الى قلب الصحراء وأقمنا من حول مجراها أبراجاً وأسواقاً وفنادق تحيط بها البحيرات والحدائق الغناء فإذا دخلنا يتجاوز دخول دول النفط أضعافاً مضاعفة… .
هي حكاية الرمل والماء…
لكن الأصل هو القرار الدولي الذي جعل من هذه المدينة عاصمة للأنشطة الكونية، بعيداً عن السياسة، ولكن في قلب القرار السياسي الدولي… وبالإجماع.
وذلك حديث آخر، في زمن آخر…
في وداع الصديق الخصم
النزاهة الفكرية هي الأرض الصلبة التي تقف فوقها صداقة الخصوم .
ولكي يصبح الخصم صديقاً فإن شجاعة الاعتراف بأن مساحة اللقاء من حول القضية الواحدة لا بد أن تنتصر على الحزبية بمعناها الضيق الذي يعادل احتكار الحقيقة.
قبل أيام، خسر أهل الرأي والفكر والكلمة الشجاعة قبلي، صديقا كبيراً، هو عبد الله قبرصي الذي لا أرى لقباً يضيف الى اسمه، أو صفة يمكن أن تختزل ما كان عليه من الشجاعة وحرية الضمير والصلابة التي تشعرك بقوة أسطورية، سواء أكان في موقع الرفيق أم في موقع الخصم الفكري: فقيمة الفكرة بقدرتها على مواجهة الفكرة النقيض. وشجاعة الاعتراف بالآخر المختلف كصديق يستحق أن تدافع عن حقه في الاختلاف بالزخم ذاته الذي تدافع به عن أفكارك التي بها تؤمن، انما هي ذروة النزاهة.
عبد الله قبرصي كان وسيبقى فوق تلك الذروة.
… قبل عبد الله قبرصي عرفت مثلاً أعلى في النزاهة الفكرية هو الراحل الدكتور عبد الله سعادة.
ومثلما الأمر مع عبد الله قبرصي كان مع الدكتور عبد الله سعادة: تلاقينا ونحن على طرفي نقيض في معتقداتنا السياسية، وفي فهمنا للأمة، التي آمنت بها عربية وآمنا بها سورية ، ولكننا تلاقينا على أعدائها في الداخل كما أعداء الخارج، على وجه الخصوص.
لا عزاء في مثل هؤلاء الرجال. إنهم نماذج نادرة للالتزام والصدق مع الذات والنزاهة مع الآخر، خصماً كان أو صديقاً، أو هاربا الى الحياء بدافع الحرج.
سأفتقد صيحات عبد الله قبرصي: سلمت يدك! كما افتقدت هواتف التنويه التي كان يصلني عبرها صوت عبد الله سعاده مهللاً. ولقد كان كل اتصال من هذين العقائديين الصلبين، ومتذوقي جمالية النص مع وضوح تعبيره عن الفكرة، يمدني بشجاعة إضافية… فأمضي في الطريق نحو أهدافي التي صارت أحلاماً. يملأني شعور بالزهو: إن الرجل كلمة. عبد الله قبرصي كان كلمة صدق في عصر عز فيه الرجال كما عز الإيمان بما هو حق وعدل وخير.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب يتسع لأخطائنا وقصورنا. إنه رحب كبحر بلا شواطئ، يحملك الى أحلامك وصورة سعادتك ترتسم فوق صفحته.
لا ترشق وجه الماء بحجر كي تمتحن صلابة الصورة.
احفظ حبك بأن تحفظ البحر سريراً ومسارة حميمة لغتها الهمس.