طلال سلمان

هوامش

أحمد طالب الإبراهيمي يكتب بوجعه مذكرات جزائري
بين جيلي والجزائر قصة حب يمتزج فيها الشوق إلى استعادة الغائب مع الانبهار ببطولة شعبها التي تداني حدود الأسطورة في مقاومته الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي استطال لمئة وثلاثين سنة، وكلف إجلاؤه الثورة المجيدة التي توّجت جهاده بالنصر والتحرر ثمناً غير مسبوق: مليون شهيد!
وتحفظ ذاكرة أبناء جيلي من أسماء وأبطال هذه الثورة عدداً لا يضاهيه إلا أسماء الشهداء المتعاقبين جيلاً بعد جيل في فلسطين ومن حولها طلباً لتحريرها من الاستعمار الاستيطاني الجديد: الإسرائيلي!
أول هذه الاسماء ذات العبق الخاص: عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي ورفاقهما من العلماء، حداة الثورة وآباء المجاهدين، الذين أناروا الطريق وأنعشوا الروح بالعلم والايمان، فأنشأوا المدارس وحموا الهوية الوطنية ديناً وثقافة ولغة، ومتنوا العروة الوثقى بين عناصر الأمة والمناطق المتباعدة، فإذا العرب والبربر، أهل الشرق والغرب، الشمال والجنوب، كتلة متراصة في مواجهة المحتل الذي حاول فرنسة هذه البلاد العربية الإسلامية الافريقية، بكل ما أوتي من وحشية ودموية تشهد عليها المجازر الجماعية المتكررة، وأشهرها في الجزائر العاصمة بينما هو يحتفل بعيد نصره على الاحتلال النازي لبلاده، والتي ذهب ضحيتها نحو خمسة وأربعين ألفاً من الجزائريين الذين كانوا يفترضون أنه الآن سيفهم أكثر قضية توقهم إلى الحرية والاستقلال.
كنا نقرأ عنهم، وأحياناً تيسر لنا أن نقرأ لهم، لكن أحمد طالب الإبراهيمي يسَّر لنا في كتابه الجديد، طليعة مذكراته، أن نعرفهم عن قرب وأن نعرف ما ينبغي لنا أن ندركه عن عمق إيمانهم بقضيتهم وعن التأثير القوي لشخصياتهم ثم لدعوتهم التنويرية في بيئتهم التي استعصت على الفرنسة وأنجبت الثوار واحتضنت ثورة استعادة الهوية والدين واللغة والاسم الصريح: الجزائر.
فالحديث عن هذه البيئة وعن جهد التنوير هو بالنسبة الى الفتى الذي ولد في أسرة من العلماء، كان أبوه الشيخ بشير الإبراهيمي في سطين في 5/1/,1932 في الشرق الجزائري، يروي له أن أسرته ترقى بنسبها إلى الصحابي الجليل أبي بكر الصديق.
وبين الصور النادرة التي يتضمنها كتاب مذكرات جزائري الجزء الأول أحلام ومحن 1932 1965 صورة تجمع من العلماء كلاً من: عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، إبراهيم كناني، إبراهيم معيزه، محمد العيد آل خليفة التبسي، محمد خير الدين…
ولأن الأب كان لا يستقر في مكان، متحركاً لنشر الوعي وتوطيد الصلة بين حب الوطن والايمان بالدين الحنيف، فقد نشأ أحمد طالب في أسرة جابت معظم أنحاء الجزائر، وإن كان قد أمضى يفاعته، في تلمسان، في أقصى الغرب:
كان أجدادي وهم يقاومون يجمعون بين حب الكتاب وحب الأرض. وبعد قانون سيناتسي كونسيليت لسنة ,1863 وبعد مصادرة أراضيهم انصرف أجدادي إلى التعليم كلية، وهكذا اشتهر المكي الإبراهيمي، عم أبي، أما جدي سعدي الإبراهيمي، فقد اضطر إلى الهجرة إلى المدينة المنورة بسبب قانون الأهالي حيث التحق به ابنه الوحيد والدي. كان الجزائريون مفتونين بالبقاع المقدسة، وكثير منهم كانوا يحلمون في أن يقضوا بقية العمر فيها. كذلك فإن إقامة الأمير عبر القادر في سوريا منذ 1856 ليست غريبة، إذ إن أكبر جالية للمغتربين الجزائريين توجد في دمشق .
… ولقد سميت العائلة طالب لأنها كانت عائلة من المعلمين.
الأم من أصول تركية حليمة شوكاتلي، نسبة إلى مدينة توقات، بالأناضول. وفي المدينة المنورة تعرّف والدي على جدي لأمي. وفي دمشق حيث عين والدي أستاذاً في مكتب عنبر ، أول ثانوية عصرية في سوريا، تزوج من أمي .1919 وفي دمشق دفن جداي لأبي وأمي .
هذه النبذة عن الماضي تقول الكثير عن المستقبل.
بعد سنتين من احتفال فرنسا ببذخ وقح بمئوية احتلالها لبلدي، أي في ,1932 تم إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان والدي أحد مؤسسيها، كرد على التحدي… .
[ [ [
يكاد القسم الأول من كتاب مذكرات جزائري يتخذ من الوالد البطل في حين يتحول الكاتب إلى راوية: في 1933 أسندت إلى الشيخ مهمة الاشراف على نشاطات جمعية العلماء في الغرب الجزائري، وفي العام 1940 رفض أن يكون مفتي الديار الجزائرية فوضعته فرنسا تحت الاقامة الجبرية في باملو في الجنوب الوهراني على بعد مئات الكيلومترات عن الجزائر العاصمة، وفي صيف 1941 سمحت السلطات الفرنسية لأسرتنا بالالتحاق بوالدي. وهناك علم برحيل الشيخ بن باديس.
وإثر مجازر 8 أيار 1945 التي أزهق فيها الاستعمار الفرنسي 45 ألف نسمة، كان بينهم مجندون جزائريون شاركوا في تحرير فرنسا من النازي، اعتقل الشيخ الابراهيمي بتهمة التحريض على التظاهر حتى آذار .1946
في الجزائر العاصمة سيتمكن أحمد طالب أن ينهي تعليمه الثانوي في ثانوية ابن ميمون، واتخذ والده مقراً لجمعية العلماء في قلب العاصمة العتيقة. وكان يستقبل شخصيات سياسية وصحافيين أجانب وكتّاباً منهم روجيه غارودي الذي زاره برفقة عمار أوزغان.
يقول أحمد طالب، عن حق، ان لا أحد يعرف الجزائر كما عرفها والدي، لأنه جال في ديارهم جميعا وعرف ناسها وأصناف الحيوانات والنباتات والقبائل وخصائص اللهجات الخ…
في مكان ما يسطع اسم مجلة الرسالة : ما أروع الدور الذي لعبته هذه المجلة الفكرية الثقافية التي كانت تتلاقى فيها أقلام التنوير، والتي أسسها وأصدرها أحمد حسن الزيات في القاهرة.
في وهج الرسالة وفي محاولة للاقتداء بها أصدر الشيخ الابراهيمي مجلة البصائر الاسبوعية، لكنه اضطر إلى إيقافها خلال الحرب العالمية الثانية، ثم أعاد إصدارها بعد انتهاء الحرب… وذات يوم تلقى الشيخ الهدية الثمينة: آلة كاتبة بحروف عربية (سنة 1948).
[ [ [
قرر أحمد طالب أن يدرس الطب بعدما أنهى دروسه الثانوية.. ولقد فوجئ حين جاءه والده الشيخ بنسخة عربية نادرة من كتاب القانون لابن سينا، منشورة في روما .1503
في الجامعة الجزائرية التي كانت فرنسية الادارة والمنهج والاساتذة لاحظ أحمد طالب الاستلاب الايديولوجي، معززاً بمركب الاغتراب، وكيف كان الشبان الجزائريون يبتعدون عن عادات شعبهم. وتحقق من أن أهداف التعليم الاستعماري فصل النخبة عن ثقافتها الاصلية وإشباعها بثقافة دخيلة.
تحت وطأة الاصرار على تمييز الذات وتوكيد الهوية أصدر أحمد طالب نشرة الشباب المسلم لمدة سنتين فقط، ثم أوقفها العجز عن الاستمرار.
سنة 1953 تيسرت لأحمد طالب فرصة المجيء إلى المشرق، وإلى مصر عمرو بن العاص وصلاح الدين وجمال عبد الناصر، ومجلة الرسالة، موطن أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب، المنفلوطي وطه حسين وأحمد أمين.
وفي القاهرة استمع أحمد طالب لأول مرة إلى جمال عبد الناصر يخطب في الجماهير، وأدرك مدى نفوذه.. ثم حضر استقبال عبد الناصر لوالده الشيخ، للاصلاح بينه وبين تنظيم الاخوان المسلمين، لكن الوقت كان قد تأخر وانتهى شهر العسل بين الطرفين، وكان ذلك بين ما أزعج والده الشيخ.
[ [ [
في الجزء الثاني من هذا الكتاب والمتضمن يوميات طالب الطب في باريس، تتكامل صورة المناضل في الفتى ابن الشيخ، خصوصا أن أحمد طالب قد انخرط في صفوف الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، ثم ساهم مع نخبة منهم في تأسيس فيدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا وتحمل المسؤولية فيها بين 1954 و.1957
وفي الجزء الثاني من هذا الكتاب تطل المشكلات السياسية الداخلية التي لم تتورع عن اقتحام صفوف المناضلين حتى وهم في السجون والمعتقلات، بعيداً عن أرضهم وعن شعبهم.
ولقد تعرض أحمد طالب للاعتقال مرات، ولكنه واصل نضاله في صفوف جبهة التحرير، فنظم الفروع، وحاضر وخطب، والتقى سراً بجموع من طلاب بلاده.
وفي العام 1957 كان قد بات خطيراً، فاعتقل ثم حكم عليه بالسجن.
وفي السجن بدأت تتجمع المفارقات، وبدأت تتوضح المخاصمات والتشققات داخل الجسم السياسي المناضل من أجل حرية الجزائر.
كانت السلطات الاستعمارية قد خطفت القادة الخمسة ، وهم في طائرتهم التي وضعها ملك المغرب بتصرفهم، وحملتهم إلى السجن مباشرة.
لكن الثورة أكملت مسيرتها وبضراوة أشد، خصوصاً أنها كانت قد استقطبت أجيالا من المناضلين، وغدا لها جيش التحرير الذي اتخذ له قواعد في تونس أساسا وفي المغرب، وكانت مصر عبد الناصر تمده بما يحتاج من أسلحة وذخائر، فضلا عن الدعم السياسي والمعنوي.
وكانت الأمة العربية جميعا قد التفّت من حول هذه الثورة التي أعادت الوصل بين المشرق والمغرب، فأحيت الآمال بأمة معافاة وقادرة على استخلاص حريتها من أيدي مستعمريها، وعلى بناء مستقبلها بإرادتها الحرة.
لكن الساعات الاخيرة للنضال هي الاصعب، اذ تستفيق المطامح الشخصية والمنافسات والمناكفات والتزاحم على مناصب الدولة التي ستولد بالتأكيد من رحم الثورة.
ربما لهذا تنضح صفحات الربع الاخير من مذكرات جزائري بالالم والمرارة، وهو يروي وقائع لا تبهج عن الصراع بين الاخوة المتنافسين الذي تخطى أسوار السجن ودخل إليهم في زنزاناتهم فقسمهم تيارات وشيعاً ومحازبين متناكفين.
ولان هذا الجزء يتصل بالصراع حول سلطة المستقبل، مما يشوش على الصورة الزاهية للقسم الاول من المذكرات، فقد فضلت أن أرجئ عرضه إلى مناسبة اخرى، حرصاً على صورة جزائر النضال والثورة والنصر البهي.
وأحمد طالب الابراهيمي الذي سجن مرة اخرى، في الشهور الاولى لحكم الثوار، بقدر ما اعتقل فسجن أيام النضال في صفوف الثوار، يستحق أن نتوقف أمام شهادته بكثير من التقدير، احتراماً لتاريخه ولصموده النفسي الذي يجعل منه حتى اليوم أحد أعلام الجزائر وأحد آمالها.
حكاية/بين طائرتين
الرحلة أقصر من أن تستولد حباً، وتبادل أرقام الهواتف لا يدر على الفور همسات حرّى ومواعيد لبث لواعج الاشواق… والوقت استثمار ومداخيل وأموال عند السيدة التي تتغزل بالعقارات مرجئة أحاديث الهوى الى مواعيد معلقة بخيوط المصلحة وخطوط الذهاب الى الصفقات والعودة منها.
لا بأس أن تعود محاصراً بالشبهة. هي تستحق ذلك!
ثم إن الشبهة رصيد ممتاز. ألم تلاحظ نظرات النساء إليك بعدما جاءتك لتهمس في أذنك ما لا يستحق مثل هذا الاحتراز، في علاقة مستجدة وطارئة بين اثنين لا يعرف أحدهما عن الآخر إلا أنه رفيق مصادفة سفر كان يمكن ألا تقع لو تيسرت طائرة الليل التي سافرت على جناح الحب وتركته نهباً لتسلية الباحثات عن مغامرة أولها نداء متعجل وآخرها افتراق بلا وداع.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
حاسب نفسك إذا ما لمست فتوراً في عاطفة حبيبك. الحب مثل التيار الكهربائي له خطان، سالب وموجب، فلا يضيء إلا بصاعق التلاقي بين الخطين.
اقترب من الصاعقة تعش في النور… حتى الذوبان حباً!

Exit mobile version