اغتيال القلم و ما يسطرون : المتنبي والمثنى شهيدان مجدداً!
قال لي سعيد فريحة وهو يودعني:
هنيئاً لك بهذه الرحلة الى جهنم! احفظ عني ثلاثاً: لا تخرج نهاراً، ولا تقرب العرق (المسيِّح)، ولا تتحدث مع أحد في السياسة.
ثم استدرك فقال: فإن نقصك المال فاقصد مكتبة المثنى، وهو وكيل صحف الأرض جميعاً، ولنا عنده دين تقتضيه فتأخذ منه ما يلبي حاجتك.
كنت أستمع الى توجيهاته صامتاً، وحين هممت بالانصراف باغتني بجملة ما يزال صداها في أذني: نحن أهدرنا كرامة أعظم شعراء العرب من دون أن نفيد المومسات بشيء، أما في العراق فقد كرموا كل صاحب قلم وكل صاحب رأي بأن أعطوا اسم المتنبي لشارع المكتبات والوراقين ودور النشر. هناك ستلتقي بكل أولئك الذين أعرف أنهم يسكنون وجدانك.
وصلنا بغداد مساء.. فرميت حقيبتي، وخرجت الى دجلة الذي يلف بغداد بزنار أخضر يسوّر القصور والبيوت الأنيقة لمن كانوا من أهل العز قبل أن يجتاح العسكر وفقراء الارياف الذين غدوا من أهل النفوذ كل ما هو جميل ونظيف ويدل على وجاهة أو ثراء موروث.
كان الشاطئ مزدحماً بتلك الخيم، ومراكب النزهة القصيرة، وأمام كل خيمة مجمرة ضخمة يشوى فوقها السمك المسقوف ، والصبية المنتشرون يحاول كل منهم جذب العابرة الى خيمته، أو الى المركب الراسي قبالتها، وربما أرفق نداءه ببعض الغمزات الدالة أو الموحية بأن العشاء يمكن أن يتجاوز المسقوف والعرق والخيار بلبن والبليلة.
في الصباح سألت مدير فندق بغداد، وكان آنذاك الأفخم في عاصمة الرشيد، عن الطريق الى مكتبة المثنى في شارع المتنبي فابتسم الكهل الآشوري وهو يقول: بل نحن هنا نتخذه القلب الذي تتفرع عنه الجهات… فنقول، مثلاً، الى يمين مكتبة المثنى، بعد المتنبي بدوارين، أو قبل المثنى بتفرع.
خرج معي الى الباب فنادى سائق سيارة وطلب إليه أن يوصلني الى مكتبة المثنى، وأن ينتظرني ليعود بي لأخاف عليك أن تتوه، خاصة أن طريق الرجوع غير طريق الذهاب لان الشارع وحيد الاتجاه .
نزلنا يتقدمني السائق أمام المكتبة التي احتشدت رفوفها بالمجلدات والكتب، والتي كان زبائنها يتزاحمون بالمناكب في أرجائها التي تمتد الى الخلف، حيث المستودعات المزدحمة ايضا بالزبائن والكتب في مشهد يحيي فيك الأمل بقيمة الكلمة.
شق السائق الطريق الى حيث انتصب رجل كهل لطيف القسمات خلف مكتب بسيط، بينما كان موظفوه يتحركون بنشاط لافت لتلبية طلبات المشترين. قال السائق يقدمني: انه فلان، موفد دار الصياد من لبنان.
صافحني الرجل بحرارة، وسألني عن سعيد فريحة وعن بيروت وعن الصحافة ونتاج دور النشر فيها، وكنت أجتهد في الاجابات، منتظراً أن يفرغ من أسئلته لأخبره بغرضي، لكنه وفر عليّ الحرج اذ بادرني بقوله: ان لدار الصياد حساباً لدينا… كم تريد لنفسك لأحسمه من أصل الدين، ثم أعطيك صكاً بالرصيد!
قلت وقد شجعني أسلوبه المباشر: بل أطمع بغير استيفاء الدين. أعرف أن كثيراً من الأدباء والكتّاب هم أصدقاء شخصيون لك، وطلبي أن ألتقي بعضهم.
ابتسم الكهل اللطيف وقال: وإذا كان بينهم بعض أهل الموسيقى والطرب فهل لديك اعتراض؟! تعال إليّ غداً مع الغروب فأصطحبك الى حيث تلتقي من تريد.
ودعته وهممت بالانصراف ولكنه استوقفني ليقول: بل انتظرني في فندقك، سأمر بك بسيارتي فنذهب معاً!
وهكذا ربحت مع الكتب وبدل السفر واحدة من أمتع سهرات العمر.
على أنني، مع ذلك، بقيت حريصاً على أن أتمشى مع الغروب في اتجاه شارع المتنبي، وأمضي ساعة أو ساعتين متسكعاً بين رفوف الكتب و بسطاتها الحافلة بكل طريف وأحياناً ببعض المجلدات ذات العبق التاريخي التي كنا نسمع بها ثم لا نجدها معروضة للبيع.
وكان عليّ أن أعود بحقيبة ملأى بالكتب، بعدما استهلكت معظم ديون دار الصياد على مكتبة المثنى، ودائماً وسط ترحيب ذلك الكهل الذواقة والعارف بخطورة ما تضم مؤسسته في جنباتها من أسباب الغنى التي تجعل الاعتزاز بمهنته يطل من عينيه وهو يمد إليك يمناه مرحباً بينما يسراه تربت على كتفيك ترحيباً.
? ? ?
قبل أربعة أيام جاءنا نعي شارع المتنبي، قلب بغداد الثقافة، لتكتمل بتدميره المأساة العربية باغتيال عاصمة الرشيد، في المذبحة المفتوحة للعراق تحت الاحتلال الاميركي بكل من فيه من أبناء شعبه الذي كان، ذات يوم، دليلاً على نجاح الشباب العربي في اختراق الجدار المرصود للعلوم الحديثة صانعة الغد الأفضل.
كانت صور التدمير المقصود تفضح الجناة الذين كانوا يعرفون ما يفعلون: الجثث الممزقة أشلاء تختلط بمزق الصفحات المحروقة في أمهات كتب التراث العربي.
كانت أرض الشارع تشهد على الاحتلال الاميركي: قاتل الأفكار والشعر والرواية والقصة وسائر فنون الابداع، سفاح العلوم الحديثة، العامل على إعادة العراق الى الخلف، وخلف الخلف، عبر اغتيال أهل العلم ورواد الثقافة والطامحين العاملين على بناء مستلزمات الانتساب الى العصر.
كانت أرض الشارع لوحة معبرة عن وحشية الاحتلال: اختلطت جثث الضحايا والدماء طرية فوقها وفيهم قاصدو المكتبات، أو العائدون منها مثقلين برزم الكتب أو ببعض المجلدات ذات العبق، بالحبر الأسود الذي به حفظت دواوين الشعراء الكبار والفلاسفة الذين قاتلوا وربما استشهدوا من أجل حرية الفكر، ومؤلفات الكتّاب المجتهدين الذين حاولوا إضاءة الطريق أمام الاجيال الجديدة من أجل أن يعرفوا أنفسهم بتاريخهم، وأن يعرفوا العالم بدورهم في حضارته وأن يلحقوا بالجديد المبهر الذي أضيف إليها مما هم جديرون بتأصيله.
كان الشارع مجلداً ناطقاً بهجمية الاحتلال الذي استولد طوابير القتلة المعادين للثقافة وحرية الفكر، ورعاهم ووفر لهم الذريعة كي يفجروا تعصبهم بأهلهم، وكي يحرفوا الجهاد عن طريقه فيحولوه الى فتنة تخدم المحتل بإلغاء الوطن وهويته، وتعيد أهلهم أو من يتبقى على قيد الحياة منهم الى الجاهلية: عشائر وقبائل وبطونا وأفخاذاً يقتتلون على الكلأ والنار، بينما حركة التقدم الإنساني تخترق الحجب، في الأرض كما في الفضاء، في الرياضيات كما في العلوم، لتصنع غداً ولا أبهى لبشر القرن الحادي والعشرين.
لقد اغتال جيش الاحتلال الاميركي وهمج التعصب وانغلاق العقل، المتنبي ومتذوقي شعره معه.
في مذبحة الكتاب ببغداد نال الاحتلال الاميركي الشهادة بامتياز: إنه توأم السلفية، الوالد الشرعي لكل موجات التطرف مهما رفع من رايات إسلام مزوّر لا يقبله أهله لأنه ينقض الدين الحنيف فيجعله ضد العقل والمنطق والتسامح، ضد الشمس والنور، ضد الإنسان،
وسيكتب أطفال العراق غداً أن الاحتلال الاميركي معززاً بالجهلة من مغلقي الفكر والقلب منفذي عمليات الاغتيال الجماعي لبسطاء الناس الساعين الى رزقهم، والقتلة المحترفين المتخصصين في إعدام المؤمنين بالدين الحق، قد زرعوا العبوات الناسفة والسيارات المفخخة في طريق الناس الى اقرأ والى نون وما يسطرون وأعدموا رمياً بالرصاص القلم ونسفوا الطريق الى علم الإنسان ما لم يعلم .
? ? ?
لقد نال المتنبي شرف الشهادة مرة اخرى، على أيدي أعداء النور، أعداء الطموح الإنساني، أعداء الكلمة المثقلة بالإباء والعزة.
كذلك فقد سقط المثنى تحت سنابك خيول هولاكو الجديد… وها هو دجلة يفيض، مرة اخرى، بجثث الآباء والأمهات والصبايا والفتية والأطفال، ومعها أجداث الكتب، دواوين شعر ومجلدات تؤرخ لحقب التنوير وإشاعة الثقافة وإتاحة العلم لكل طالبيه.
… وها هو الاحتلال الاميركي يركب السلفية العمياء كي ينجز مذبحته ضد العراق، شعباً ودولة، بالفتنة، فيحيله بالفعل أرض السواد ، ولكن بدماء أهله، لا بخيرات أرضه ذات النهرين اللذين كانا يفيضان بالخير.
أنس اللقيس يريد أن يضحكنا منهم
لا يعرف أنس اللقيس اليأس إلا مقاتلاً.
هو طالب في معهد الفنون الجميلة، قسم الرسم والتصوير. ولكنه يهوى الكاريكاتور. وقد رسم كثيراً ومزق كثيراً من رسومه. وظل يرسم ويحاول ان ينشر، ويتقبل الملاحظات ويحاول ان يطبقها على الجديد من رسومه. طاف على الصحف، حاملاً رسومه. لم يكن يعرضها للنشر بل للنقد، ليتعلم، فيعدل في خطوطه، ويجتهد في أفكاره، ويحاول التعمق في فهم الشخصيات وملامحها ليستطيع تلخيصها بغير ان يشوهها او يخرج بها من إطارها الطبيعي.
ولقد كان أنس اللقيس يسعى الى لقاء رسامي الكاريكاتور الكبار، اللبنانيين منهم، او العرب وبالذات منهم المصريين، في زياراتهم لبيروت… ولقد افاد كثيراً من ملاحظات الفنان القدير الراحل بهجت عثمان، إذ كان يجيء إليه فيلازمه. يتعرف الى أسلوبه ويسمع منه عصارة تجربته الغنية في مجال هذا الفن الابداعي المكلف… لان موضوع الكاريكاتور هو الكبار في مجتمعاتهم، و الكبار غالبا حكام، والحاكم عادة ضيق الصدر، لا يقبل نقداً فكيف إذا ما اعتبر الكاريكاتور تشويها.
أنس اللقيس تخرج مؤخراً، وكانت اطروحته عن تجربة رسام الكاريكاتور المميز بيار صادق، وهي تجربة غنية تمتد لحوالى نصف قرن، بدأت في جريدة السياسة ثم انتقلت معه الى دار الصياد، قبل ان تعطي فتبدع لفترة طويلة في النهار … قبل ان يبتدع بيار صادق الكاريكاتور التلفزيوني الذي سجله كاختراع باسمه، وانتقل به من محطة ال. بي. سي الى محطة المستقبل .
اشرف على رسالة أنس الفنان الكبير فيصل سلطان… ومجرد إشرافه شهادة جدارة لأنس اللقيس الذي نتمنى ان يضيف الى هذا الفن الإبداعي الذي يجعلنا نضحك من السياسيين الذين غالباً ما ابكونا.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
حبيبي لا يحب العتاب كتابة.. يحبه مشافهة.
هل سألتني لماذا شفتاي مشققتان؟!
كنت أقدم أعذاري لحبيبي الذي يصر على أن أعلّمه اللغة حرفاً حرفاً: حاء، باء.