عن الكتيبة المقاتلة بالكلمة والفن وطليعتها: ناهده فضلي الدجاني
صوتها الموسيقى واسمها الأغنية والصدى فسحة للشعر: ناهدة فضلي الدجاني. لقد غاب الصوت طويلاً عن اسماعنا، لكن من سمعه مرة لا يمكن ان ينساه.
… الآن جاء زمن النسيان. التهم الصمت الأبدي الصوت الذي كان يمد لنا أرجوحة للتأمل والصفاء والتغلغل في الحميم من المشاعر.
ناهدة فضلي الدجاني: لكأنما يأتيك الصوت الدافئ، الواثق، الهادئ، المنعش من داخلك فيملأ عليك الأفق وداً صافياً.
ولقد اسعدني حظي فوفر لي فرصة أن تقرأ ناهدة فضلي الدجاني بعض نصوصي المراهقة التي كتبها قلم يتعجل طريقه الى مكمن السحر في هذه اللغة العربية هائلة الغنى والرقة والايحاءات… واستمعت بانتباه الى نصائحها، وهي الاذاعية القديرة، الممتلئة خبرة ونضجاً، ثم اسعدني حظي اكثر فصرت صديقاً، لعائلتها التي تضم زوجها غانم الدجاني وصبحي ابو لغد وصبري الشريف وسميح الشريف ومحمد الغصين وكامل قسطندي، وسائر خريجي محطة الشرق الأدنى التي كانت ثالثة الاذاعات العربية، في منتصف الخمسينيات بعد القاهرة و صوت العرب … والتي كان من حظ لبنان انها جاءت اليه فأنشأت فيه الاذاعة والاذاعيين والطرب والمطربين والمسرح الغنائي.
هذه الكوكبة من الاذاعيين اللامعين، كتاباً ومعدي برامج ومخرجين، كتبت صفحة في سجل العمل الوطني العربي لا يجوز ان تمحى او تسقط بمرور الزمن فيأكلها النسيان: كانوا جميعاً في المحطة البريطانية التي انطلقت بداية، وأيام الاحتلال البريطاني لفلسطين، من حيفا في العام ,1944 ثم انتقلوا معها اثر الحرب التي اضاعت فلسطين لتقيم فوق قسم من ارضها دولة اسرائيل الى قبرص.
ولقد انضم اليهم في فترة لاحقة شاب لبناني ناقص التعليم غزير الموهبة هو سليم اللوزي، الذي انتقل بعد ذلك الى القاهرة فغدا صحافيا متدرجا في روز اليوسف التي كشفت موهبته التي ستجد من يصقلها بعد حين في دار الهلال وأشهر مجلاتها المصور فتتكامل مهنيا: كاتب رأي وكاتب تحقيق صحافي وريبوتر يعطي الصورة من الاهتمام مثلما كان يعطي الكاريكاتور فيتكامل معنى الكلمات.
في الحوادث التي دخلتها متدرباً على يدي من سيكون صديق العمر شفيق الحوت، ومن سيكون المرشد منح الصلح، ومن سيكون صناجة الصحافة نبيل خوري، وعبر نبيل وشفيق ومنح اتيح لي ان اتعرف الى هذه الكوكبة من الاذاعيين الفلسطينيين الذين تركوا اذاعة الشرق الادنى في استقالة جماعية هائلة الدوي، احتجاجاً على العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر في خريف .1956
وكان خروجهم عظيماً… وقد أدى عملياً الى سقوط تلك الاذاعة التي كانت تستقطب جمهوراً واسعاً جداً من المستمعين العرب.
كان القائد العربي جمال عبد الناصر قد اتخذ قراره بتأميم قناة السويس رداً على سحب عرض من البنك الدولي (!!) لتمويل السد العالي بضغط مباشر من الولايات المتحدة الأميركية. فوجدت بريطانيا التي كانت تقاتل الحركة القومية الناهضة في مجمل المشرق العربي التي استمدت مزيداً من القوة بتأييد من عبد الناصر وفي ظل وهجه الطاغي، الفرصة للانتقام. وكانت فرنسا التي تواجه ثورة وليدة في الجزائر التي كانت تحاول فرنستها، ترى في عبد الناصر خطراً داهماً خصوصاً انه شكل حضن الدعم والرعاية لثورة المليون شهيد. وكانت اسرائيل تدرك باليقين ان نجاح حركة الثورة العربية سيؤدي الى نوع من الوحدة العربية، والاتحاد، بما يكمل الطوق عليها ويعجل في نصرة الحركة الوطنية الفلسطينية وتمكينها من تحقيق اهدافها. وهكذا تواطأت الدول الثلاث لتشن الحرب على مصر عبد الناصر.
وصمدت مصر بقيادة عبد الناصر تحت شعار سنقاتل، سنقاتل، سنقاتل… والله اكبر ، وهزم العدوان الثلاثي.
في غمار هذا الحدث التاريخي الفاصل دخلت قوات من الجيش البريطاني الى قلب محطة الشرق الأدنى (البريطانية) وكانت قد استقرت في قبرص، وحاولوا ان يفرضوا على المذيعات والمذيعين ان يقرأوا ما يريدونه… وحين رفضوا هددوهم بإطلاق النار عليهم. وكان ان تقدمت المجموعة كاملة باستقالات جماعية.
وهكذا جاء هؤلاء المكتنزون بالخبرة الى بيروت، والذين تصرفوا ككتيبة مقاتلة هجوما من موقع الدفاع، وحاول كل منهم ايجاد فرصة عمل بديلة… فالتقى كامل قسطندي مع بديع بولس على انشاء شركة للانتاج الاذاعي، قبل ان يغامر الثاني فينشئ استديو بعلبك بينما انشأ صبري الشريف شركة بالتعاون مع توفيق الباشا وزكي ناصيف ووديع الصافي وفيروز والرحابنة… ثم تلاقى معظمهم مع استاذ الصحافة سعيد فريحة فأنشأوا معه فرقة الانوار للفنون الشعبية .
في صيف ,1958 كان فؤاد شهاب قد تسلم رئاسة الجمهورية بعد رحيل كميل شمعون الذي حاول تجديد ولايته فأخفق، والذي رفضت قوات الاسطول السادس الاميركي ان تنجده فلما وقعت ثورة 14 تموز 1958 في العراق وخلعت الملكية، نزلت هذه القوات على الشاطئ اللبناني من دون طلب.. وذلك حديث آخر!
لم تكن الاذاعة اللبنانية مسموعة حتى في بيروت. ولم يكن لدى اللبنانيين، خبرة واسعة في المجال الاذاعي… وثمة عهد جديد بسياسة جديدة. وهكذا سعى منح الصلح الى إقناع الرئيس الجديد فؤاد شهاب بالإفادة من خبرات هؤلاء الفلسطينيين الوطنيين الذين تركوا وظائف مهمة برواتب مجزية في محطة اذاعة من الدرجة الاولى نتيجة التزامهم العربي.
وفعلاً دخل هؤلاء الخبراء الى الاذاعة اللبنانية، في ما يشبه الحركة الانقلابية، فجعلوها واحدة من المحطات الناجحة عربياً، وعاد اليها جمهورها مشدوداً بالبرامج المدروسة، والتمثيليات ذات النجوم، والأغاني والاسكتشات الظريفة، اضافة الى تعليقات سياسية تناوب على كتابتها عدد من الصحافيين والمعلقين اللامعين… وتولى نبيل خوري، الذي كان حتى ذلك الحين يعمل لاذاعة صوت اميركا ، مديرية البرامج فيها.
صار للبنان اذاعة… وصار لي بحكم الشفعة برنامج خفيف: مع الصباح ، اكتبه تهويمات ووجدانيات وتضفي عليه ناهدة فضلي الدجاني من دفء صوتها ما يجعله تحية صباحية لعشاق الحياة والمقبلين عليها وعيونهم في قلوبهم.
وصل اسمي الى من لا يعرفني، محمولاً على صوت ممتلئ عافية تتمتع صاحبته بذائقة مميزة…
وما زلت حتى اليوم مدينا بالجميل لصوت ناهدة فضلي الدجاني الذي أدخلني الى حرم الحب ثم نسيني فيه.
لعلني انصفت ناهدة وهذه الكوكبة من الناشطين الذين نشأ جيل كامل من العرب على برامجهم وإبداعاتهم الاذاعية والفنية… وليس ذنبهم ان تكون السياسات قد قصرت عن وطنيتهم فأضاعت الطريق والناس والقضية.
تحب عباس بيضون… وبعدئذ تحاول ان تفهمه!
تعلمت من عباس بيضون ان الشعر نمط حياة وليس مجرد إلهام وقريحة وأوزان وقافية.. وكذلك ليس مجرد حطام ذلك جميعاً.
وبرغم انني ما زلت غير قادر، بحكم تشوهات النشأة والعلاقة المرهفة مع اللغة، على استساغة الصور الجارحة او الألفاظ التي نعتبرها (في العادة) نابية او غير مألوفة لجيلنا؟ في النص نثراً كان او شعراً، فإنني اقرأ عباس بيضون لأمتحن قدرتي على استيعاب الغريب و غير المألوف ومجاراة الموجات الجديدة في الادب المعاصر.. ولأستفيد ثقافة فأوسع أفق ذائقتي وعلاقتي بالنص.
ذلك انني احترم في عباس بيضون فرادته التي تميزه بحق ليس فقط بفضل اتساع ثقافته وجمعها بين التراثي والمعاصر وإطلالته عبرها على الغد بمنظوره الخاص، بل كذلك بفضل شخصيته التي لا أعرف لها شبيهاً، وفهمه المغاير للسائد من المفاهيم السياسية والذي يجعل حضوره مميزاً بطرافته وقدرته دائماً على مفاجأتك بأنه غير من تفترض و أكثر ممن تحسب ومختلف معك وعنك ومعهم وعنهم… بل ومعه وعنه!
ولست أعرف من اختار حرف ب وكرره ثلاث مرات ليعطيه اسماً لديوان عباس بيضون الجديد، ولا من اختار لهذا الحرف ان يأتي متكرراً ومتراقصاً في هباء البياض على الغلاف، لكنه بذلك كله استطاع ان يمهد لقراءة التيه الواعي الذي تنبض به القصائد غربة في زمان الأمكنة ذات التقاليد التي ابتدعها اصحابها ومضوا دون ان يغادروها.
عباس بيضون هو فعلاً من يصل على الموعد دائماً، لكن الوقت هو الذي يتأخر… ولذلك يبتدع الحل: عليّ ان أصحح الساعات. التأخير في الوقت وحده وثمة دقائق زائدة ينبغي إزالتها .
لكن باريس لم تغادر، وظلت تنتظر عباس بيضون، وقد ملأتها النواقيس بالاشباح ، وجاء صوت هدى ليقوده الى نوع من المشي في الشرايين فحذرها قد نتخبط في جلطة … اما سمير خداج الذي ينتظر زيارته فيقول انها نهاية التاريخ آملاً ان يبدأ مجددا من السرطان.
في برلين كانت الفضيحة كاملة… لقد كشفته هذه الألمانيا الباردة. إذ عرفته من قمامته ونحن لا نملك سراً امام الخادمات ، يتجول بمعطف غوغول من دون ان يتعب من قراءة الجسور وشبح اوروبا القارس يعدو بفشخاته الكبيرة عبر الجليد.. وبينما على أسوأ الأفكار ان تترك أثراً فإن لغتك تترك بقايا، وليس خطأ ان نثرتها!! .
المقارنة فضاحة ومهينة تترك جراحاً، ويستل عباس بيضون واحداً في الصدر ليغري به امرأة، ويستدرجها بإصبع مكسور الى سريره وينامان متعانقين وعاريين مع جرح…
عباس بيضون الذي نشأ من بحة، من خطأ إملائي، والذي يفكر، فجأة، بأنه لم يهتم كفاية بموت أمه، يخجل امام بوابة براند بورغ، ويفكر ان عليه ان يبرز شيئاً للتاريخ… وبينما يقول الأسود انه خرج من الغابة، ويقول الروسي انه جاء من الجليد، فلم يحر هو جوابا لانه خرج من الرمل الأسود الذي ربيته في فمي .
وفي بيروت يرافق عباس بيضون المفؤودين على كورنيش المنارة الذين لا يتلفتون كثيراً، بينما الحياة في مكان آخر: جندي حياتي الصغير أنا، وعليّ فقط ان امشي وحدي مع حذائي وسأكمل. الريح امامي. انها تغني في صدري وانا اتقدم. لا نحتاج الى دليل بالطبع. حياتنا تعود الينا دائماً ككلب أعرج .
ليست المدن بذاتها، المدن كما نراها، كما نحسها، كما نعيشها. بعض المدن لا تفتح لنا قلبها ومكمن السر فيها ولو عشنا فيها دهراً، وثمة مدن تستقبلنا على بابها وقلبها على يديها تأخذنا اليه وتسكننا فيه، وحين نتركها لا تخرج منا ولا نحن نخرج.
عباس بيضون الذي ينسى أحياناً اسمه يتذكر شاعراً تفاصيل التفاصيل عن المدن التي يذهب اليها فلا يعود منها بل تسكنه ويعود بعضها معه وفيه. وكلما زار مدينة جديدة اتسع قلبه لغيرها وصارت لغته اكثر شفافية، وإن غلظت فيها التعابير، واكتست الصور بالمقارنة الضمنية فجاجة فصارت اكثر صدقاً.
ليس شرطاً لتحب عباس بيضون في شعره ان تفهمه… والرحلة لفهم عباس بيضون كله بمدى عمر كامل.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أعجب ممن يقول ان الحب ينقص او يزيد بالحضور او بالغياب…
متى أحببت امتلأت، صار قلبك كونا يتسع لكل الناس، وصارت عيناك لا ترى الا الجميل في الناس.
الحب هو الجمال مطلقا، الموسيقى منشية، وعيناه لا تريان الا ما يضيف الى الحب حباً.