بيروت
ربما كي أثبت أن عشقي للمدينة التي علمتني أن الانسان بموقفه لا بنسبه ولا بثروته، قديم ومتغلغل في ثنايا القلب والفكر والكلمة،
ربما لأنها أعطتني حياة ثانية بعدما شرب ترابها شيئا من دمي، ربما لأنني عرفت مدناً كثيرة وكانت كل مدينة واحدة، أما بيروت فكانتها جميعا، وفيها كنا وما زلنا نشعر بأننا شرفة الدنيا،
ربما لأنها عنوان التقدم العربي وراية المستقبل، بسبب من غناها غير المحدود، علما وثقافة، اقتصادا واجتماعا، فنا وإبداعا،
ربما لأنها العالم مختصرا بشرقه وغربه، جنوبه وشماله من دون أن تفقد لسانها وهويتها،
ربما لأنها تسكننا في الغد من دون أن نفقد الصلة بماضينا، فهي المدينة العالمية لأننا أهلها، وليس لان الغير استرهننا.
ربما لهذا كله، كانت تسكن الوجدان والقلم.
وهذه سطور من كتابات سابقة عن بيروت التي كلما دهمها الحزن ازدادت توهجا وزادتنا حبا للحياة.
???
عمرها ما كانت مدينتنا، كلنا، الفقراء والاغنياء، الملاك والمستأجرين، الصناع والتجار والزراع والشعراء والموظفين والعمال، كما هي اليوم.
عمرها ما كانت هي القلب والرئة والرأس والذراع، المدينة والضاحية والريف، الشمال والجبل والجنوب والشرق، بقدر ما هي اليوم.
كانت مدينة بعضنا ومطمح البعض ومهجع البعض وسجن البعض وعلبة ليل البعض وملتهمة شقاء البعض: واليوم هي أمنا جميعا، تطوي أجنحتها علينا كل مساء وتجلسنا لتسلينا بحكاية حتى تشغلنا وتنسينا شبح الغول المتروكة له الطرقات وأسطح البيوت والنوافذ المعتمة!
سنبقى معا. لقد توحدنا وذبنا فيها. صرنا بعض حجارتها، بعض حيطان عماراتها العالية، بعض سطوح القرميد المتبقية فيها، وصارت اسمنا والمهنة والعنوان ومرتبة الشرف!
سنبقى وسنجمّل حياتنا مضيفين الى روعتها الاصلية روعة اصطناعها وإعادة صوغها من جديد مطعمة بنكهة الخطر وبمتعة انتزاعها من أشداق الغول.
سنبقى: بيروت ونحن.
سنسهر كل ليلة. سنعمل. سنتعب أجمل التعب ثم نغني أعذب الغناء، ثم نذوب حبا ورغبة، ونغب من نهر الحياة الدافق حتى الارتواء.
سنبقى: بيروت ونحن، بحرا وشاطئا، الحضن أو الرحم، تحمينا ونحميها، تصوننا ونصونها، نعطيها وتعطينا الدفء والهوية واليقين.
ويا بيروت العظيمة: هل لك أن تمنحينا مزيداً من الشرف بأن تكوني القائدة والرائدة والموحّدة لشتات عشاق هذا الوطن الصغير وشهدائه؟!
???
وسنبقى في الضاحية، وسنبقيها عروساً سمراء كالقمح، ندية كوجه مولودك البكر حين يصحو من نومه صباحا، قوية وثابتة كسنديانة جذعها في الارض وفروعها في السماء، ونقية كالإمام الاوزاعي.
سنبقى في الضاحية ناطورة البحر، بوابة الجبل، زهرة البرتقال الجنوبي، نوارة البقاع المطعمة بنفحة طيب شمالية.
سنبقى في الضاحية وستبقى الضاحية: أقوى من نيوجرسي بكل المدافع والصواريخ الخارقة القوة، فالارض هي الاعظم والابقى، وإنسانها مصدر العظمة وسمة الخلود.
ربع الوطن ؟! أكثر بكثير: هي الآن الوطن كله. حتى وحيطانها مهشمة حتى وشبابيكها فجوات عبرت منها رسائل الموت الودية.. وسيبقى عند النسوة بعض الوقت للاهتمام بأصص الزهور فوق الشرفات المهجورة، وسيظل أمام الرجال فرصة لقراءة الشعر.
وسيظل ثمة من يهدر صوته الاجش بالعتابا والشروقي، كأنما ليؤكد تواصله مع فيلمون وهبي المهجّر من كفرشيما.
ستبقى الضاحية عروة وثقى تشدنا بعضاً الى البعض الآخر، أليست حبة العقد بين أهلنا جميعا في الجهات الاربع؟!
ستبقى؟! بل هي ستمد ظلها جنوبا، شمالا، شرقا لتصبح خيمة يأوي اليها كل مناضل من أجل حقه بوطن وحقه فيه،
جبهةَ بيروت المرفوعة ستكون، تسوّرها بضفائر الصبايا وسواعد فتيانها لتبقى العاصمة والمركز والمنارة الهادية في قلب هذا الشرق.
???
شذاك يعبق الجو، يا زهرة النارينج المحروقة!
وشميم شجر الليمون المحروق يدخلك فينا، يعطينا شرف الانتماء إليك، وتمتد أيدينا لتحتضن نتفك التي انتثرت فملأت الريح ونور الشمس.
يا حصن بيروت، يا سيفها وترسها والساعد القادر: لقد افتديتنا جميعا، وافتديت معنا فكرة الوطن، فالحرب ضد الغلط تجعل الوطن في مطال اليد، وعشق الانسان لأرضه هو وحده الذي يكسو الفكرة باللحم والدم، ولقد قدمتِ بعض روحك وعماراتك والبيوت الصغيرة ليأخذ منها المداميك.
???
أميرة الحزن مجللة بالسواد، الآن،
لكنها لن ترفع الأعلام البيضاء اليوم، فهي لم ترفعها ولم تستسلم أمام العدو الاصيل، وبالتأكيد لن ترفعها استرضاء ل الوكيل .
وستمضي في طريقها رافعة أعلام تحرير الارض والانسان، من الاحتلال والهيمنة والسرطان الطائفي وبقايا أهل الكهف المعادين للحياة، للشمس، للهواء، للحب، للورد للعطر، لكل ما هو جميل وبهي وإنساني.
وستشكل في الطرحة السوداء زهرة غاردينيا بيضاء، إيمانا بقدرتها على صنع الغد الافضل، الغد الذي يتحقق فيه حلم الوطن ويأتي من رحمها وعلى صورتها ومثالها، ففي رحمها يكمن الجنوب والشمال والبقاع والجبل والضاحية النوارة،
والحياة شرف وحق لمن حمى شرف الحياة وحقه فيها.
وليكن شهداء الامس، كما الذين سبقوهم، مهراً لاستحقاقنا شرف الحياة في وطن موعود.
???
ولقد دخل الاسرائيلي بيروت ليذل بها كل أهلها، كل العرب بلا استثناء، ليطفئ وهجها طالما هي نوارتهم وليخرسها طالما هي لسانهم والمنبر الاول للحركة الفكرية في ديارهم وليدمر فيها رمز تقدمهم واتصالهم الوثيق بالحضارة وانتمائهم الى العصر وجدارتهم في المساهمة برسم ملامح غدهم الافضل.
لم يدخل العدو الاسرائيلي بيروت الطوائف والمذاهب والفرق والاحزاب بل دخل بيروت الاكبر من هؤلاء جميعا والابقى من هؤلاء جميعا والتي يشكل وجود هؤلاء جميعا فيها سمة من سمات كبرها وعظمة دورها القومي وتوكيد صفتها الباقية: عاصمة كل العرب وبوصلتهم، الى طريق الغد ووردتهم المطلقة شذاها بامتداد دنياهم الفسيحة.
???
وهكذا انتصرت بيروت بذاتها مرتين: مرة على العدو الاسرائيلي فلم تركع، ومرة على التيار التقسيمي الداخلي، وهي هي التي حمت شعار الوحدة وإيمان المؤمنين به.
لقد استطاع جيش الاحتلال، ومن تواطأ أو تعاون معه، أن يجرّدها من السلاح، وأن يفرض عليها صنوف الإذلال، لكنها لم تسقط ولم تمت، ومع أول نسمة هواء نقي وصلتها تحركت، ببطء في أول الامر، ثم بحيوية، حتى جاءت لحظة الانتفاضة الجليلة في أعقاب شهور من المعاناة والعذاب والعض على الجراح والتعالي على الالم وعلى المتسبب فيه حتى لا تقع في المستنقع الطائفي القاتل.
لقد رفضت بيروت أن تصبح واحدة من الطوائف، أو لواحدة. وانتفضت على الدولة حين اقتضت الضرورة أن يصحح النهج بالاعتراض المسلح، ولكن من أجل أن تكون الدولة دولة لا مزرعة لمتحكم ولا تكية لمهيمن.
واذا كانت بيروت قد صمدت في وجه المحتل باسم الامة، فقد جابهت الطائفيين باسم الوطن، ولطمت المهيمن باسم الشعب كله.
ومشكلة بيروت اليوم هي مجسم لأزمة الامة.
إن بيروت لا تجد نفسها إلا في إطار عمل وطني تتسامى راياته، فوق الطوائف والاحزاب لتحمل الناس الى مهجع الاحلام والتطلعات المشروعة، الى وطن لكل أبنائه حقوقهم المتساوية فيه وله عليهم الواجبات المقدسة ذاتها.
وبيروت لا تجد نفسها ولا تسلّم قيادتها إلا لحركة قومية تكبر بها وتكبرها وتقتحم بها دنيا الغد العربي الافضل، غد الحرية والخبز والكرامة والوحدة.
فمن يطلب قيادة بيروت عليه أن يرتقي من عصبية الطائفة أو العشيرة الى الوطنية، ولن يتم له ذلك إلا اذا دمر المؤسسة المعادية للوطن، أي تلك العصبية الجاهلية.
ومن يطلب قيادة بيروت فعليه أن يحطم قوقعة الاقليمية والكيانية وأن يدمر ليل التخلف وترسبات عصور القهر الاستعماري والذل الاسرائيلي مستشرفا آفاق أمته المترامية أطرافها بين المحيط والخليج، مقموعة مغلولة الفكر واليد تنتظر المخلّص العظيم الهاتف بها: أماه ها أنذا!! لقد جئتك بفجر اليوم الموعود.
???
بيروت هي كلنا.
وبيروت تفرد صدرها للراية الجامعة وللقيادة القادرة على أن تحملها الى المحيط والخليج، حيث يتلهف على وصولها كل الذين ساعدتهم على أن يستعيدوا اعتبارهم لأنفسهم بفضل صمودها العظيم وتضحياتها الجليلة.
وفي بيروت امتحان الرجال والاحزاب والطامحين الى القيادة، فقيادة بيروت طريق الى قيادة الوطن والامة وليس الى الهرب منهما، وهي، مؤهلة لان تكبر مع من يأتيها ليخطو بها نحو الغد الافضل، نحو الوطن والامة، وليست مؤهلة ولا قابلة لان تصغر فتنحشر في طائفة أو مذهب فكيف بالعشائر المسلحة؟!!
تعالوا فاكبروا ببيروت.
تعالوا الى الوطن. تعالوا الى القضية. تعالوا الى حيث يصنع النصر والفجر البهي، وبالناس جميعا.. فالناس هم الاصل، والناس هم أصحاب القرار في القيادات والقادة، وهم أصحاب القرار في الاسلوب والاداة وموعد القتال ومكانه والسلاح الافعل.
???
ستبقى بيروت عاصمتنا، عزتنا، غرّتنا، فخرنا ومجد الصمود، بيتنا ومكتبتنا وغلاية القهوة الصباحية وكراسة مذكرات الفتى والصبية، والصورة الاولى لطيف الحبيبة كما تختزنه الذاكرة بعد لقاء الرعشة الاولى.
???
لا لبنان بلا بيروت، وبلا بيروت على الصورة التي عرفنا وأحببنا وفاخرنا بها العالمين.. أي بيروت الجامعة والمعهد والمكتبة، بيروت المستشفى ودار الصحة والطبيب، بيروت الكتاب والمطبعة وصحيفة الصباح، بيروت الوردة والاغنية والدولتشي فيتا، بيروت الاديان كلها، والطوائف كلها، والمذاهب كلها، الاحزاب كلها، الآراء كلها. الافكار كلها والمنتدى، بيروت المصارف والتجارة والمعبر والجسر وهمزة الوصل والمترجم والوسيط وبائع الاحلام مع أطواق الفل.
وبهذا المعنى فالمسيء الى بيروت وصورتها، الى روحها التي اتسعت للناس جميعا وأطلقت مبادراتهم جميعا وفتحت أبواب المنافسة والنجاح أمامهم جميعا، انما يسيء الى قضيته ذاتها، قضية حلم الوطن، وحق الانسان في أن يكون مواطنا في هذا الوطن العتيد.
كانت بيروت توفر عنصر الطمأنينة الى سلامة اليقين: طالما اننا نجحنا في اجتراح هذه المدينة الباهرة، المؤكدة لحقيقة وحدتنا، المعززة لانتمائنا القومي والمستمدة منه وهجها والألق، اذاً فباستطاعتنا أن نبني وطنا يتسع للجميع، بأحلامهم وطموحاتهم وآمالهم العراض، ويعطي لكل منهم فرصة تحقيق ذاته، وينهي والى الابد ذلك الجدل العقيم والسقيم حول عروبة لبنان وهويته، فالعروبة هي التي صنعت بيروت وقيمتها مستمدة من كونها قارورة طيب العرب ومنارتهم ومدللتهم ومعشوقتهم المشتهاة.
(?) مقتطفات من افتتاحيات صدرت في كتاب الى أميرة اسمها بيروت العام .1984
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أعجب ممن يسأل حبيبه: كيف تحبني أن أكون؟!
تحب حبيبك لأنه هو، بجنونه وحكمته، باندفاعات الطيش وبالرزانة المفتعلة… فإن تغير ليرضيك لم يعد هو، فخسرته وخسرك.
يا مجنوني تعال إلي!