الصحافة اللبنانية… على حافة الاستشهاد
يستحق منّا جبران تويني التحية شهيداً للكلمة الموقف وللصحافة الرسالة، كما يستحق التحية والتقدير للجهد المتميز الذي بذله في سياق المعركة التي تعطي عنوانها لهذه الندوة ضمن مؤتمر الصحافة تحت الحصار.
ولعل جبران تويني احد عناوين النجاح في ابتداع استراتيجيات من خارج التوقع من أجل تحقيق استقلالية مالية.
والحقيقة التي لا مجال لإخفائها ان الصحافة المكتوبة في لبنان تعيش ظروفاً مأساوية، بل هي تتعرض لخطر يتهدد وجودها ذاته، في ظل العاصفة السياسية التي تجتاح وطننا الصغير فتهدد كيانه السياسي ووحدة شعبه، وتكاد تدمر اقتصادياته وتعكس نفسها كارثة على وضعه الاجتماعي.
ومعلوم ان الصحافة المكتوبة تواجه تحديات جدية في مختلف انحاء العالم، في ظل ثورة الاتصالات وتزايد الاعتماد على وسائط إعلامية أسرع وصولا وأقل كلفة، أولها الانترنيت تليها الفضائيات والهواتف المربوطة بالشبكات الإخبارية وغيرها.
ان هذه الثورة قد انعكست على وسائط الدعاية والإعلان وأساليب الترويج والعلاقات العامة، فغرفت الكثير من حصة الصحافة المكتوبة، ولم تبق لها إلا نسبة تكاد لا تتعدى الثلث من مجمل موازناتها، بمعيار لبنان.
وفي بلد كلبنان يعيش اضطرابا سياسيا يخلخل أسس نظامه الاقتصادي الاجتماعي، وخصوصا أنه مفتوح وبلا أفق واضح لاجتراح معجزة الحلول المطلوبة لعلاجه، تتزايد الصعوبات ويتعذر التفكير بحلول عملية حاسمة، وتلجأ المؤسسات الصحافية الى معالجات اضطرارية ومؤقتة تستنفد رأس المال المالي والمدخرات وتفاقم العجز بما يقرب أشباح الخيار الصعب بين الخضوع للارتهان السياسي او الاقفال، لا سيما بعد هرب الشركاء المحتلمين، او الذين كانوا محتملين لو ان الأفق مفتوح على حلول قريبة، تعيد الأمل باستعادة لبنان عافيته وعودته الى لعب دوره المفتقد في محيطه العربي، والذي لا تعوضه هذه المحاولات المتعجلة الى ابتداع بيروتات جديدة في بعض أنحاء الخليج العربي، تحت ضغط الحاجة اليها كأسواق لاستثمار الرساميل الهائلة التي تتدفق على المنطقة.
لا ينفع التمويه في إخفاء حقيقة الظروف القاسية التي تعيشها الصحافة المكتوبة في لبنان، وهي بأكثريتها الساحقة مؤسسات فردية يقع عبء تأمين التمويل واستمراره على عاتق أصحابها.
كذلك لا ينفع طمس الواقع المفجع المتمثل في تناقص أعداد قراء الصحف في لبنان.
إن الصحافة اللبنانية في محنة قاسية:
نفقاتها الطبيعية والاستثنائية في تعاظم، ومداخيلها الطبيعية الشرعية من البيع والاشتراك والإعلان في تناقص، او أنها في أحسن الحالات جامدة عند مستوى معين من العجز الذي يتم التحايل على سده بوسائط وأساليب تمس باستقلاليتها وتؤثر بالسلب على دورها كمصدر نزيه للأخبار والمعلومات، بمعزل عن العواطف والولاءات، وبتجاوز للمخاطر الجماعية والمخاوف الشخصية التي تعكس نفسها على الأداء المهني.
ففي حالات الانقسام السياسي الذي لا بد ان تلحق به لوثة الطائفية او المذهبية، كما في حالنا في لبنان، يصبح إصدار صحيفة تلتزم معايير الحيدة والنزاهة والموضوعية مغامرة غير مأمونة العواقب.. وتتقدم دواعي حفظ السلامة، سلامة المؤسسة او العاملين فيها، على موجبات الأصول المهنية.
ان الصحافة في لبنان تعطي عنوانها لهذا المؤتمر: إنها تحت حصار متعدد الجوانب، فهو سياسي ملغم بالطائفية، وهو اقتصادي كانعكاس للأزمة الخطيرة التي تتهدد الدولة والمؤسسات عموما بعجز متفاقم ينذر بخطر الإفلاس، وهو أمني بمعنى ان العمل المهني بات حافلاً بالمخاطرة، فالكتابة باتت أشبه بالمشي على حد السيف.
???
من واقع تجربتي الشخصية في السفير يمكن إيراد بعض الوقائع التي قد تكون مفيدة:
كانت الصحافة اللبنانية حتى انفجار الحرب الأهلية في أواسط السبعينات صحافة العرب جنباً الى جنب مع الصحافة المصرية. لم تعد اليوم كذلك. انتقل المركز مباشرة او بالواسطة الى نواح أخرى، وصار الصحافيون اللبنانيون هم ركيزة أساسية في انطلاق الصحف العربية وفي نجاحها، بينما تراجعت الصحافة اللبنانية فغرقت في محلية ضيقة كادت تذهب بدورها الريادي.
ان الصحافة مساحة للنقاش، فإذا كنت أسير مكتبك أو أسير المخاطر في بلدك، تخاف ان تتحرك فيه بحرية، وتخاف ان تتركه فلا تقدر على العودة اليه، ويخاف منك المسؤول العربي فيعتذر عن لقائك منعاً للحرج، وتتجنب مساءلته إذا لقيته حتى لا تتسبب في أزمة سياسية إضافية. هو ينظر إليك كأنك تحمل خطر العدوى بمرض خبيث، في حين قد تنظر اليه بأنه قد رماك بدائه وانسل.. فكيف يكون حوار بين مستريبين احدهما بالاخر، وهي استرابة تمنع المصارحة او تجعلها مواجهة شخصية لا تفيد الا في استعداء دولة اخرى على بلدك المنهك بالخصومات!
كانت بيروت مركزاً للصراع السياسي بين توجهات مختلفة تقودها أو تعبر عنها أنظمة مختلفة في منطلقاتها الفكرية وفي منهجها الاقتصادي الاجتماعي… وكان الهامش الديموقراطي لنظامها الذي يرتكز على التعددية وقبول الكل بالكل والتباهي بالتعدد، فسيحاً يتسع لآراء الداخل والخارج معاً. وقد أفادت الصحافة اللبنانية في أواسط الخمسينات وفي الستينات بشكل خاص من هذا الصراع السياسي بين أنظمة عربية متخاصمة في توجهاتها العقائدية، إذ كانت بين منابره الأهم والأخطر، وبالتالي فقد يسرت لها هذه المكانة ان تحصل على فرصة طيبة لزيادة مساحة انتشارها وكذلك لزيادة مداخيلها الإعلانية، مباشرة او عبر الأعداد الخاصة التي كانت توفر لها مدداً إضافياً لا يساعد في سد عجزها فحسب بل يمكنها من تطوير وسائل الانتاج وتعزيز قدراتها المهنية… بل ان هذا الوفر قد هيأ الفرص لبعض الدور الصحافية من اجل انشاء شركات مع اصحاب نفوذ يطلبون المجد ولا يبغون الربح، لكنها لم تستطع ان تعمر طويلا لانها شراكة بين غرضين، وليست شراكة من اجل هدف موحد او مشترك.
أما اليوم فإن لكل بلد عربي صحافته ووسائل اعلامه، وكلها أعظم غنى وأكثر تطورا في وسائط الانتاج وتقنياته من الصحافة اللبنانية، وخصوصا ان أسباب التمويل متيسرة هناك، متعذرة هنا.
ففي أقطار الجزيرة والخليج دخل كبار المستثمرين ومعظمهم كانوا تجارا ثم أضافت اليهم ظروف الطفرة المالية الهائلة وغزو شركات الإنتاج العظمى الفرصة ان يتحولوا الى وكلاء تجاريين او شركاء على البعد او رجال اعمال عظيمي الثراء، ان يتحولوا الى المجال الصحافي بقدراتهم الذاتية الواسعة وبوجودهم النافذ في السوق الاعلاني، فأنشأوا مؤسسات عصرية استقدموا لها الخبرات من الأقطار الفقيرة والتجهيزات الحديثة من أكثر الدول تقدما،
لم تعد الصحافة اللبنانية صحافة العرب،
وتسابقت الصحف العربية القديمة او المستحدثة سواء في المهاجر او في عواصم لم تكن تعرف الصحافة على استقطاب الصحافيين اللبنانيين الأكفاء الهاربين من حروب بلدهم الصغير…
صارت الصحف اللبنانية بين الأفقر من الصحف العربية، سواء بالدخل الإعلاني أم بعدد القراء، خصوصا بعدما انحصرت في سوقها المحلي.
بينما استمر الصحافيون اللبنانيون بين الأشهر او المرغوبين أكثر للعمل لدى غيرهم من أصحاب المشاريع الصحافية في الوطن العربي او في المغتربات لمخاطبة الداخل طالما تعذرت مخاطبته من داخله.
ومع ان أعداد قراء الصحف اللبنانية عموماً في تناقص، فإن أعداد من يقرأونها على الانترنيت في تعاظم لافت… لكن هذا التعاظم يأتي بالسمعة الطيبة ولا يعود على الصحيفة بدخل يذكر.
???
بين الأسباب العملية لأزمة الاستقلال الاقتصادي للصحافة في لبنان ان البورجوازية اللبنانية تتشكل بغالبيتها من تجار وملاكين او وسطاء تجاريين، حتى الكبار من أهل السياسة كانوا في الأصل من كبار ملاك الأراضي او من أهل التجارة او وكلاء الفبارك وشركات الإنتاج الكبرى في الغرب أساسا ثم الشرق الذي صار غرباً.
ليس لبنان بلداً صناعياً ولا تسود فيه قيم المجتمع الصناعي وأعرافه…
ورأس المال في معظم الحالات هو رأس مال فردي او عائلي ناتج عن الإرث او الجهد الفردي في اعمال الوساطة والوكالة التجارية، وليس نتيجة تراكم إنتاج صناعي كثيف هو بطبيعته جماعي وموجه الى الجمهور الواسع،
ربما لهذا بين أسباب كثيرة أخرى لا مجال لتفصيلها الآن يحجم رأس المال عن الدخول كشريك في تأسيس الصحف او في إنتاجها. ان النظرة الأولية الى الصحف، بكلفتها العالية ومداخيلها الضئيلة في بلد غير صناعي، جمهوره محدود وسوقه ضيقة والخروج الى الأسواق الاخرى مكلف بما يذهب بالربح المحتمل، بل انه يضاعف الخسارة، كل ذلك لا يشجع أصحاب رؤوس الأموال على الاستثمار في الصحف، في حين أنهم أكثر شجاعة في الدخول كمساهمين في الفضائيات التلفزيونية التي تستطيع الوصول الى الجمهور العربي بأكلاف مقبولة اذا قيست بحجم المساحة الإعلانية التي تستطيع الحصول عليها بحكم اتساع رقعة مشاهدتها.
وأختم هذا الحديث غير المفرح بدعوة مؤسستكم الكريمة راعية هذا الاحتفال، الاتحاد العالمي للصحف، الى تخصيص جائزة سنوية، على طريقة نوبل او الاوسكار او بالدمج بينهما، لكل من او لأي عبقري يستطيع ان يبتكر مثل هذه الاستراتيجية الناجحة في تحقيق استقلالية مالية.
كلمة ألقيت في مؤتمر الصحافة تحت الحصار تكريماً للشهيد جبران تويني 11 كانون الأول 2006 .
حكاية/عائلة ملفوفة بالحرير..
دهمه عطرها ويدها تمتد اليه بتحية تنضح لهفة. بالغت في الترحيب به حتى أحس انه يتهادى فوق بساط من غروره. قدمته الى ضيوفها متباهية، وكان يعرفهم ويعرفونه، لذا لم يخطئ قراءة نظراتهم فتمالك نفسه مدركاً انهم قد شربوا من الكأس قبله.
بعد حين جاءت لتهمس في أذنه انها تريد ان تعرفه بمن يتشوقن الى لقائه… وكن عند الباب: ثلاث صبايا بهيات الطلعة، تشرق وجوههن بابتسامات عريضة، وقد ارتدين أثواب السهرة الأنيقة،.. وتقدمن فتزاحمن عليه حتى تاه في بحر من خدر المديح المنشي. وانتبه الى ان الحرير يحف به من كل جانب. كيف تحفظ وقارك وسط امواج الصبا الملفوف بالعطر والحرير؟ جاءته بكأس، وغمزت للمطربة فغنت. قالت: لكأن هذه الأغنية كتبت لك!
حاصره الضيق. هو يحفظ كثيرا من الحكايات عن الحب من اول نظرة نثراً وشعراً، لكن الوضع مختلف الآن.
انتبه الى ان بعض الضيوف قد خرجوا الى الشرفة طلباً للتنفس.. فلحق بهم، وجلس الى طاولة فيها اكثر من صديق. بعد لحظات جاءت الأم وغمزت لبناتها فتبعنها. وقام الرجال تأدباً، فعاد محاصراً بالعطر والكلمات الناضحة بالايماءات والتي تمشي به على حافة الغواية.
لمح صديقاً يقرض شعر المآدب فناداه بلهفة من يطلب انقاذاً:
الا توحي لك هذه الكوكبة من الجميلات قصيدة؟
لم يتأخر الشاعر عن تلبية النداء، فانطلق ينشد بصوته الجهوري قصيدة أضعت بينكن عقلي … وبينما غرق الحريم في ضحكات الزهو، قام متسللاً حتى اذا اغلق الباب خلفه تنفس الصعداء كغريق عثر على صخرة فانتصب فوقها سعيداً بعودته الى البر!
… وفي الغد اتصل ليشكر فجاءه صوت الزوج معاتباً: ولكنك انصرفت مبكراً فتلقيت اللوم. في المرة المقبلة سأقفل عليك الباب.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أهتف لحبيبي ألف مرة في اليوم. أخاف ان تلتقط أذناه كلمات الكراهية والبغض. أخاف عليه من فحيح الاحقاد التي تملأ الهواء… وحين يجيء منهكاً أغسله بالموسيقى والشعر حتى يعود اليّ قلباً نابضا بفرح الحياة.
الحب هو خلاصك.. فاغرق فيه وامنحه نفسك حتى تعبر رياح السموم.