من الجمل إلى الطائرة: تقدم إلى الخلف!
لم يكن ينقص الا الاختلاف الفاضح على موعد ظهور القمر معلناً بداية شهر رمضان، وبالتالي نهايته العيد، حتى تكتمل لوحة الواقع العربي بأبشع تجلياته.
هل هي نتيجة لعدم احترام العلم، وبالتالي العقل، ام انها مجرد انصياع أعمى لمن يقدم التقليد الديني على الحقائق العلمية في عصر التقدم الانساني الرائع الذي جعل القمر مجرد محطة في الطريق الى ما بعده من الكواكب السيارة والثابتة، المشتعلة بعد، والمنطفئة؟
أم ان العرب وقد افترقوا باتوا يعززون اسباب الخلاف التي تبرر انشقاقهم على ذاتهم وغربتهم عن واقعهم بكل طارئ او مستجد حتى لو كان في حكم البديهية؟
صار الخلاف تبريراً للخضوع لمنطق الهزيمة، في حين ان الهزيمة هي نتيجة للخلاف: لو اننا متحدون لما انهزمنا… ولكن لان اتحادنا مستحيل فالهزيمة قدرنا.
والهزيمة شاملة، لان الاختلافات قد طاولت مكوّنات الوجدان.
لم يعد الخلاف محصورا في المجال السياسي… فمن اجل تبرير الخلاف لا بد من تعميقه وتأصيل أسبابه.
وهكذا فإن إخراج مصر، مثلا، من حومة الصراع العربي الاسرائيلي قد انتهى الى توسيع المساحة التي تحتلها اسرائيل في الواقع العربي.
ولان الهزيمة قد تجاوزت بالصلح النطاق العسكري الى المجتمع بمكوناته الأصلية فقد اهتزت جملة القيم السائدة، وتهاوت مفاهيم واعتبارات كانت تتسم بحرمة معينة تداني حدود القداسة. هذا يشمل الكتابة والاغنية والموسيقى والرسم والنحت وكذلك كل ما له علاقة بالعادات وانماط الأكل والملابس والهوايات وكل ما يرتبط بالوجدان والذاكرة. لقد ارتج اليقين، وسيفرض الارتجاج نفسه على الثوابت فتتهاوى تاركة مساحات من الفراغ.
صارت مجتمعاتنا مهجّنة. أسقطت المقومات الفعلية للتقدم وأحلّت محلها الاقتباسات المتعجلة وفرض التقليد الاعمى نفسه كطريق وحيد الاتجاه للحاق بالعصر. شمل ذلك الجيل الطالع، ذكورا وإناثا، واتسعت المسافة (العازلة) بين الأهل وأبنائهم.
ليس تطوراً هذا الاختلاف في المفاهيم والاذواق. ولا مرة، عبر التاريخ، كان التقليد الحرفي للأكثر تقدماً أخذاً بأسباب التطور.
لم يقفز الغرب الى النمط الموسيقي السائد حاليا تحت لافتة الابداع والابتكار. كذلك سياق تطوره التاريخي في الرسم والنحت كما في الموسيقى والغناء، كما في الشعر والرواية والقصة القصيرة، كما في الملابس والازياء.
اما نحن فقد اكتشفنا فجأة ان كل ما لدينا غلط بغلط ومن علامات التخلف والعجز فهجرناه وهاجرنا الى ما اتخذه الآخرون وكأننا ورثة شرعيون لحضارتهم وتجاربهم المكلفة عبر القرون والصراعات والحروب، سواء منها ما نشب في ما بين دولهم التي اختلفت جغرافياتها ومساحاتها مرات ومرات، او ما نشب داخل مجتمعاتهم ذاتها نتيجة للحروب الاهلية التي اشتعلت لأسباب متعددة، مرة ضد الاقطاع، ومرة ضد الكنيسة، ومرة ضد الاحتلال، ومرة بسبب الاحتلال، ومرة لأسباب اجتماعية بعد نشوء الصناعات وبالتالي الطبقة العاملة.
لم تقفز تلك المجتمعات فجأة من الجمل الى الطائرة النفاثة، كما حاول معمر القذافي، مرة، ان يوحي لشعبه بحرق المراحل طلباً للتقدم برغم انف الزمن: ففي عرض عسكري ضخم وفخم، فاجأ القذافي وهو محترف مفاجآت الحضور بمرور عشرات من ضباط سلاح الجو وهم يركبون الجمال تخبّ بهم مهرولة في اتجاه سرب من الطائرات المقاتلة من احدث طراز روسي (ميغ 29)… وعندما وصلت الجمال ترجل الطيارون ليمتطوا صهوة الطائرات مقدمين نموذجاً كاريكاتورياً لحرق المراحل… ولقد ذعرت الجمال، حينما هدرت محركات الطائرات الاسرع من الصوت. وبالكاد استطاع مروّضوها ان يقتادوها الى خارج مسرح العرض الفريد في بابه.
لكن ذلك العرض لم يفد الليبي كثيرا في لحاقه بالعصر… فانتاج هذه الطائرة استهلك اجيالاً من العاملين بجدّ، وفق أسس علمية، مدعمة بابتكارات واختراعات نتجت عن تراكم خبرات اجيال، عبر حروب ابادت ملايين من البشر، وألزمت الروس باعتبارهم صناع الطائرة بالكد والتعب والسهر والتفكير العميق والتجارب المتكررة فاشلة وناجحة، والضحايا، حتى انجزوا بالاستناد الى خبرات متراكمة عبر الاجيال وتجارب الآخرين، والأخذ بأسباب التطور والاكتشافات العلمية التي نقلت البشر من حال الى حال اخرى مختلفة.
يلتفت العربي من حوله فاذا كل ما حوله حطام. لقد اصابته لوثة الهرب من ماضيه، وها هو حاضره يخطم امام عينيه ويعجز عن استنقاذ مستقبله، فاذا كل ما يكوّنه بوجدانه واسباب تقدمه هشيم. فلا أحد يتقدم في قلب الفراغ وانكار مكوناته الذاتية. انه يحاول التنصل من ماضيه ليتبرأ من حاضره فيفقد الطريق الى مستقبله. انه يعيش حالة من الانسحاق تحت وطأة شعوره بالعجز. لم يعد ما كانه من قبل. وهو يعجز الآن ان يكون ما أمل بأن يكونه.. فكيف سيعثر على الطريق الى مستقبله. إنه لا أحد وقد تنكر لماضيه وانكر اهله. لن يكون الآخر ، ولم يبق هو ، ولا جسر بين الواقع والمرتجى. انه يخجل من صور أجداده وأجداده لانهم بملابسهم التقليدية يتبدون وكأنهم بعض البدو ، لكنهم كانوا عرباً وتلك ملابسهم… الافضل اخفاء تلك الصور الفاضحة للأصل. ثم ان ابناءه يلبسون ما لا يعجبه، ولكنه مضطر الى التطنيش عن هذه الملابس التي كان الى ما قبل زمن قصير يعتبرها فاضحة ومهينة. إنه، هنا، مضطر الى التسليم بضرورات العصر. وهو مضطر لان يسمع موسيقى لا يستسيغها، وأغاني يعتبرها هابطة ومسيئة للذوق العام…. وان يقبل ما كان يرفضه قبل زمن قصير من الشعارات والمفاهيم السياسية. إنه يكاد يرضى بما كان في حكم الخيانة الى ما قبل سنوات قليلة.
في ظل هذا كله كيف تريده ان يرى إسرائيل عدواً، وان يرى في مواجهتها بكل جبروتها بطولة، وان يرى في فشل حربها انتصاراً؟!
كيف لعدو زمنه ان يجد الطريق الى مستقبله؟
كيف لمحتقر ذاته ان يكسب احترام الآخر؟!
الحياة إمرأة.. الحياة رجل!
كم امرأة في ذلك الثوب الذي تختار له صاحبته ان يكون، دائماً، حديقة ورد؟
لعلها تشير بالورود التي في الثوب الى عدد النساء فيها… ولكن كم ثوباً حديقة تراها استهلكت هذه التي قررت ان تعيش حياتها بسنواتها جميعاً، بالشهور فيها شهراً شهراً، بالشهر منها يوما يوما، وباليوم من ايامها ساعة ساعة، بالساعة دقيقة دقيقة، بالدقيقة ثانية ثانية، بالثانية رشفة رشفة حتى الثمالة… ثمالة الثواني والدقائق والساعات والايام والشهور والسنوات جميعاً. النوم موت. يكفي ان تموت ثماني او عشر ساعات في اليوم، والباقي للحياة. والحياة ليل. النهارات للتسوق وترتيب المواعيد مع المتعة. الليل مجلس أنسِ وصحبة يأتون تسبقهم ضحكاتهم ويغادرون وقد تركوا صدى القهقهات في المكان للذين يفتقدون الصحبة والأنس والنكتة ويأتون الى المعاهد الليلية ليتعلموا كيف يتعاملون مع حياتهم.
الحياة؟! ولماذا تضيّع وقتك في التفلسف لكي تتعرف الى ما لن تعرفه فيها الا ان عشتها. عش حياتك تتعلم. والحياة امرأة. ان لم تدخلها لن تخرج الى الحياة رجلا. اما ان كنت امرأة فالحياة رجل، ان انت لم تقتحميه فتأخذيه فلن يعترف بك الرجال، وان لم تحصلي على مثل هذا الاعتراف فكيف يصحّ ادعاؤك أنك انثى، وأنك مرغوبة.. ومن سيطلب رقمك ليجعل من رنين هاتفك موسيقى تنشيك وتمتعك وتشعرك بانك بين مخلوقات الجنة التي اسمها الحياة؟
الحياة؟ انت. لا الأهل ولا الولد. لا العائلة ولا البيت. حيث تكونين تكون الحياة. والحياة ان تعيشيها لا ان تقفي خارجها وتتفرجي عليها وهي تعبر بك. أجبريها ان تعبرك. إجعلي نفسك منبعها ومجراها ومصبها. ان تكوني امرأة يعني ان تقرري انك اصل الحياة ولست مجرد واحد من مخلوقات المصادفات.
الحياة منحة من الله لمخلوقاته كي يسعدوا بها. الكفرة وحدهم يهربون من نعمتها الى التعاسة والشقاء ثم يبدأون في التشكي والتظلم. عشها. اغرف منها. خذها بيديك وفمك وصدرك وحضنك. اغتصبها اذا لزم الأمر. تؤخذ الدنيا غلاباً. واذا كنت امرأة يهون الأمر عليك. فقط عليك ان تكسري الجدران. ان ترمي بالتقاليد تحت قدميك. ان تفقإي عيون من ينصّب نفسه رقيبا عليك. ان صادفته في مكان، لا سيما في زمنك الليل فاجعليه مادة للسخرية. استفزي رجولته فإن استكان فلا أسف عليه ولا من يحزنون، وإن استجاب زاد أتباعك واحداً.
الحياة ان تعيشها، فإن جاء الموت لم يجدك، لانك قد سبقته اليه غير آسف، ولكنك لم تُبقِ له ما يأخذه. ليذهب الموت الى الآخرين الذين لم يعرفوا كيف يشربون حياتهم، ليلا ليلا، لذة لذة، قطرة قطرة، حتى الثمالة… فان انت قررت الرحيل فلا تقل وداعا.. دعهم ينتظرون ان تهل عليهم بثوب حديقة ليس فيها الا الورد.
تهويمات
هتفت بشوقها: الغياب امتحان للحب، هل نسيتني؟! اما أنا فإنني أراك حيثما التفت…
وردّ ضاحكاً: عليّ ان أحسد هؤلاء الرجال الذين ترينني فيهم، فهم لا يخوضون مثلي هذا الامتحان الصعب.
???
قالت تعاتبه: لماذا تهملني كلما صادفت امرأة اخرى. انك تنساني تماماً فلا تتذكر، مثلا، ان تقدّمني اليها.
قال وقد رسم على وجهه علامات الجد: أنتن النساء لا تحتجن الى التعارف. ستفترض هي انك عشيقة جديدة، وستفترضين انت انها عشيقة قديمة، ولن ينفع التعارف الا في تزويد كل منكن بسلاح جديد هو الاسم… لن يبدل الاسم في اليقين!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أنا حزين.. لقد خسرت صديقة ظلت تحب نفسها حتى نضب الحب في صدرها فرحلت. كانت تتوهم انها هي الحياة، وانها تستطيع ان توزع ذاتها فتعيش في الآخرين الى الابد. هنيئا لها. انها شهيدة ذلك العشق الذي يخلط الخطأ بالقداسة فاذا الدنيا مشاع للمحبين.
