»السادس والسبعون«: حارس »الكيان« المتصرفية الوطن؟
هي »نزهة« تتجاوز استعادة وقائع غير ممتعة، معظمها ما زال يتفاعل في حاضرنا، ان تستغرق في قراءة كتاب مهم اعطاه صحافي مجتهد، هو انطوان سعد، الكثير من الوقت والاكثر من الجهد والصبر والالتزام، كي يعطينا هذا السفر الممتاز عن »السادس والسبعين«.
اننا امام سجل حافل لمن انتدب نفسه حارساً اخيراً أوحد للكيان اللبناني وكاد يختصر الكل بشخصه وبتجربته الغنية، بمواقفه في الداخل كما بجولاته الخارجية التي شملت العالم كله، بشرقه وغربه، بعربه وعجمه، ثم بعظاته وكلماته التي صارت »اوامر عمليات« أحيانا، وانذارات بحالة طوارئ في احيان اخرى.
اننا امام اجزاء من سيرة لبنان الحديث مجسدة في ما أنجزه غبطة البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير، خلال مرحلة التحولات التي عاشها اللبنانيون في ظل الادارة السورية لشؤون بلادهم، التي ارتكزت على اتفاق الطائف بداية، ثم تجاوزته الى ما هو خارجه، بالاتكاء على طبقة سياسية لم يوصّفها أحد بالقسوة التي تناولها بها هذا الذي يرى في نفسه المرجع الأخير وصاحب الكلمة الفصل، رضي من رضي واعترض من اعترض.
وغبطته لم يوفر في انتقاداته الكبار من السياسيين امثال الشهيد رفيق الحريري والرئيس نبيه بري ووليد جنبلاط، ولا من القيادات المسيحية، يستوي في ذلك العماد ميشال عون وأمين الجميل والراحل الكبير ريمون اده، فضلا عن الرئيس السابق الياس الهراوي قبل التمديد وبعده، ووزراء المرحلة الحرجة جميعا، من تمتع بالمنصب او من اكتفى باللقب كسمير جعجع، وإن كان قد احتفظ بمساحة خاصة لأهل الحكمة امثال فؤاد بطرس، وهم قليل.
انه »السادس والسبعون«. وهو ليس مجرد امتداد لهم. انه يرى نفسه جميعهم، ويراهم شهودا عليه، ولعله حلم ثم عمل على ان يكون »المؤسس« الجديد للكيان العتيق الذي اجتهدوا في تبرير وجوده ثم في حفظه.
ان صفحات الكتاب تكشف جانباً من المؤهلات الممتازة التي يتمتع بها هذا الكاهن الجبلي الحصيف، الذي نهل من الثقافة، عربية واجنبية، فأغنى وجدانه، والذي تحدى زمنه فكاد يسبقه معاصرة وحداثة، فكان اصيلاً ومتجدداً، يحفظ التاريخ ويعرف موقع بلاده فيه، وموقع كرسيه البطريركي داخل هذا التاريخ لا خارجه.
انه يسجل يومياته بدقة متناهية، وفي ذاكرته تجارب الماضي جميعا، بالنكسات فيها والخيبات، كما بالنجاحات، ولكنه وهو يعيش الحاضر الصعب قاتل بمسؤولية شاملة تعوض غياب الهاربين من المواجهة الى التمسك بسلطة كان يراها منقوصة، وكذلك رعونة المندفعين الى تطرف قد ينتهي كما اي تطرف بكارثة على الطائفة التي تشكل عماد الكيان، او مبرره، كما ازعجه تردد المتلطين خلفه في انتظار ان ينتصر لهم فتكون لهم السلطة كاملة ببركاته من دون ثوابته، وبعظاته من دون مواقفه. وهو في »حربه« المفتوحة لم يتردد في مواجهة بعض رجال الكهنوت، كما انه ابتدع أشكالا من التغطية السياسية لحركته حماها بعباءته لعل اشهرها »قرنة شهوان«، اما مكتبه السياسي الذي اهتدى اخيرا الى تشكيله فيتمثل في مجلس المطارنة الذي باتت الشهور تعرف ببياناته التي تحدد درجة الحرارة فيها.
عجيب أمره هذا الجبلي العنيد الذي عامل نفسه وفرض على قوى دولية عظمى ان تعامله كأنه »الرأس« الذي بحضوره يتصاغر »الرؤساء«، فيقول غير ما يقولون ويطلب غير ما يطلبون، ويواجه حيث يتراجعون، ويعاند حيث يتنازلون، حتى يكون له ما لا يقدرون على اخذه، ويعجزون عن رفضه، فإذا به المنتصر الذي لا شريك له.
على امتداد صفحات هذا الكتاب الممتاز، الذي يتضمن اعادة كتابة لتاريخ مرحلة تأسيسية جديدة للكيان اللبناني، يبدو البطريرك الماروني المنشئ والمحلل والمترجم والمزدهي بصحة تقديراته في ضوء سلامة استنتاجاته التي ترجمت وقائع معيشة، فحفظت للبنانه ملامحه الاصلية ودوره الذي لا يعوضه غيره: الاصل هو المتصرفية التي يرى فيها حدود لبنان، وان كانت بدايات الكيان عنده ترجع الى ستمئة سنة.
الكتاب ساحة معارك.. وصفحاته وقائع ميدانية لاشتباكات متتالية تواصلت منذ النقطة التي اختارها غبطته بداية، العام 1992، ورأى فيها ذروة المحاولات لاعادة صياغة النظام السياسي اللبناني كتمهيد لا بد منه لاعادة النظر في »الكيان« ووظيفته في محيطه.
وعلى امتداد مئات الصفحات تتوالى وقائع الاشتباكات والمواجهات: مع النفوذ السوري الذي وضع يده على النظام السياسي، ومع الشركاء المحليين لمركز القرار في دمشق، ومع القوى الدولية التي ضبطها »حارس الكيان« الذي لا يغفل عن تصرف ولا يخطئ في تحليل موقف، متلبسة بجرم التواطؤ المشهود على ما يرى فيه »القضية اللبنانية«..
لم يكن البطريرك صفير مجرد »شاهد«. ولم يجلس في صرحه العالي ليرصد الاحداث ويحللها ليكرز من بعدُ وصاياه وعظاته على المؤمنين، الذين اوصلهم الصراع على السلطة الى الاقتتال داخل البيت الواحد.
لقد لعب دور المنبه الى من اعتبرهم متخاذلين او متواطئين من وجهاء السياسة في طائفته بداية، ثم في الطوائف الاخرى (المغلوبة على امرها او المستفيدة من التحولات).
ثم رفع صوته بالتحذير من مخاطر الصمت على الانحراف.
بعد ذلك، وفي ظل تضعضع صفوف المعارضين والمعترضين، بالغياب الانتهازي او بالتغييب القسري، كان لا بد من ان يتقدم حاملاً مع الراية اوجاع الخذلان ومرارة الشعور بامتهان مقامه ودوره في سياق حروب الاخوة للسيطرة على السلطة ولو في بلد مقتول بالتشطير وفدرالية الطوائف.
»السادس والسبعون« هو الكاتب بالعدل، الشاهد الذي لا ينام، يسجل الاخطاء وقد يتجاوز عنها، ولكنه لا يغفر خطايا الذين يبيعون سلامة بلادهم بمناصب لن تدوم، ثم انه قادر على تسفيههم حتى وهم فيها، وواثق من انه سيمسح آثارهم بمجرد خروجهم من سدة السلطة.
انه لا يحقد، ولكنه لا ينسى.
وهو يرفض ان يكتفي بالموعظة الحسنة. فكثيراً ما خرج على الناس بموقفه الأقوى من السلاح، وهو بالفعل قد انتصر به على السلاح.
ولعل البعض يأخذ على البطريرك الماروني نقصاً في ايمانه بعروبة لبنان. لكنه يرى »العروبة« خارجاً، وان هو كرز بالجيرة الحسنة.
وهو قد رأى في اخطاء الادارة السورية للشأن اللبناني، بكل من اجتمعوا تحت لوائها واخذوا السلطة باسمها، ما يبرر حذره… بغير ان ينسى انه بطريرك انطاكية وسائر المشرق.
وبديهي ان ذلك ليس من العروبة في شيء، بل لعل العروبة في لبنان كما في سوريا قد دفعت ثمن الأذى الذي لحق بها نتيجة هذه الممارسات غالياً.
الأمر الثاني الذي أُخِذ على البطريرك الماروني التقصير فيه هو وعي الخطر الاسرائيلي على الكيان اللبناني، واهمية مقاومة هذا الخطر الذي وصل بالاحتلال الى قلب العاصمة وهدد الكيان كما لم يهدده احد في تاريخه. ولعل الاخطاء التي حفلت بها الحقبة الفلسطينية في لبنان قد عززت لديه فكرة المساواة بين خطر الدولة الصهيونية واخطاء ضحاياها، ولبنان في جملتهم.
انه حارس الكيان. انه السادس والسبعون. لا يريد ان يكون الأخير. وان كانت سيرته في الظروف التي واجهها تجعله الأهم والأعظم دوراً في تاريخ هذا الكيان الذي نطمح الى أن يصير وطناً ولا يظل متصرفية.
مع الاشارة الى انني من ابناء تلك المتصرفية وان كنت لم اعرف من خيراتها إلا الحروب الاهلية، ماضياً وحاضراً، وهو ما أفترض ان غبطته قد كتب وخطب وعمل وقال وجال وخاصم وهادن ولام وعارض، بل وقاتل حتى لا تكون مرة اخرى.
العمر الطويل للسادس والسبعين، هذا الحارس المجيد الذي يعمل جاهداً لتحويل الكيان الى وطن لجميع ابنائه. وفقه الله.
عن الشاعرة الافتراضية: غادة السمان!
أما الود فمقيم لا يؤثر فيه الغياب، ولا يحوله الى »افتراضي«، وأما علاقة التواصل الشخصي مع الروائية والكاتبة المتميزة التي ترى نفسها، ايضا، شاعرة »افتراضية«، فقد جعلتها مواسم الهجرة الى الشمال »افتراضية«، وان ظلت غادة السمان صديقة احن الى لقائها الذي يعوض عنه بحدود انتاجها الغزير من دون ان يتأثر مستواه سلباً.
بين حين وآخر، كنت اجد على مكتبي نسخة من آخر ابداعاتها القصصية او محاولاتها الشعرية (افتراضا)، وفي الداخل قصاصة ورق عليها بخط اليد اهداء رقيق مع وعد بموعد ظل حتى هذه اللحظة، افتراضيا.
في آخر محاولاتها »الشعرية«، الذي يحمل عنوان »الحبيب الافتراضي« وصلني »الديوان« من دون وريقة الاهداء.
تفاءلت للحظة: لعل غادة في بيروت، أخيرا، وسيبلغني الاهداء شفوياً فتكون فرصة للشعر.
بعد يومين وصلني الاهداء بالفاكس. لقد انتبهت غادة الى »الخلل« فاستدركته، من على البعد، وألغت »افتراضاتي« بسطور فيها اعتذار رقيق كدت أشم فيه عطر الياسمين الدمشقي!
الصداقة العريقة مع غادة السمان ليست افتراضية. ويمكنني التباهي بأنني كنت بين اوائل من قرأوا ثم نشروا لها. بل قد يمكنني الادعاء ان لي »علاقة ما« باطلالتها الاولى على القراء الذين صاروا بحرها وصارت ساحرتهم ينتظرونها فتلاقيهم بمواعيد شبه منتظمة.
ففي زمن سابق، يفضل عدم تحديده، نظمت مجلة »الاحد«، وكنت مديرا لتحريرها مسابقة في القصة القصيرة، اشترك فيها المئات من الطامحين الى الفوز بمرتبة »الكاتب« او »القاص«.
كانت اللجنة التحكيمية تضم مجموعة من نخبة الكتاب العرب، يتقدمهم اديبنا الكبير سهيل ادريس، وبينهم اعضاء ادباء من أقطار عربية اخرى.
جاءت المفاجأة الاولى ان الفائزين الاوائل الثلاثة كانوا جميعا »كتابا ناشئين« من سوريا.
وكانت المفاجأة الثانية ان بين الثلاثة فتاة في صباها الاول.
ربما كانت هي المرة الأولى التي عرف فيها »جمهور« القراء اسماء: غادة السمان وزكريا تامر وياسين رفاعية.
ولقد جاء الثلاثة الى بيروت، واحتفت بهم مجلة »الاحد«، تحت رعاية اللجنة التحكيمية، وبحضور حشد من الكتاب والمثقفين المهتمين بالادب.
… وكان علي ان انتظر، بعد ذلك، بضع سنوات قبل ان التقي غادة السمان، مرة اخرى، ليس كأديبة ناشئة بل كزميلة ذات قلم مضيء.
***
في »الديوان« الجديد اكثر من مئة »قصيدة« كُتبت بين عامي 2002 و2004، وهي تمتد على مساحة الذاكرة جميعا من »زمن الحبيب الافتراضي« الى »النسيان الافتراضي للبنان« الى »العناكب المعدنية الافتراضية« الى »الفراق الافتراضي« الى »العمر حرب افتراضية«، بل انها تصل الى العيد والقارئ والدمعة والكابوس والمنفى والخيانة و»احبك كلمة افتراضية«، لتنتهي بأن »وحده الحب ليس افتراضيا«.
الشاعر الافتراضي »يثرثر من على المنابر عن الشهداء في كليشهات معلّبة وهو يقرع طبول الرطانة« حتى »يأتي شهيد ويطعنه في لسانه فقط كي يكف عن التكسب بدمه«.
اما الشاعر الشاعر »فينزف دمه والكل يطرب، بينما هو يحتضر على طول عمره«.
ولأن غادة السمان »وُلدت في الاعصار وكبرت في العواصف« فلسوف تموت كأبجدية عارية في الشتاء، انتصب في ابجديتها حرف: لا!
ولأنها غادة السمان فالفصيح الاعتراضي عنها محدد: اللغة اداة سوء تفاهم، وحده الصمت لغة العشاق.
اما الاديبة الافتراضية فتكتب لها غادة: »لن يموت احد جوعا بدونك.. لكنك ستموتين جوعا، الى السباحة داخل محبرتك«.
يكفي هذا الآن. سنترك غادة السمان »تعبر الجسر الى الضفة الاخرى، فوداعي لموتي بك ولبؤس لقبناه حبا وعمدناه اخلاصا… وكان مقصلة«.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
بعض العشاق يتعاملون مع احبتهم حسب الفصول: يسعون اليهم طلباً للدفء شتاء ويهربون من »حرهم« صيفا.
حبيبي هو زمني، شوقي اليه مطر الشتاء، وشوقه إليّ شمس تضيء حياتي. اما الربيع فهو ديوان حبي.