طلال سلمان

هوامش

لبنان: رائد العروبة، مرّة جديدة، بعد قرن من الضياع؟!

للمرة الثانية خلال قرن واحد، يجد »العرب« أنفسهم في التيه، لا يعرفون من هم على وجه التحديد، إذ أن ما يعرفونه عن ماضيهم لا ينفعهم في يومهم، وما يقصرون عن إنجازه في حاضرهم يضيّع منهم مستقبلهم؟
فقبل مئة سنة تقريباً أخذ العرب يستيقظون من سبات طال حتى تاهوا فيه، خصوصاً أن الالتباس كان شديداً بحيث ضاعت الحدود بين هويتهم القومية والإسلام الذي كان غير العربي يحكمهم باسمه من موقع »الخليفة« الذي تمزق »سلاطين« وإن بقي السلطان العثماني هو الممثل شبه الشرعي خصوصاً وقد اتخذ لنفسه لقب »حامي الحرمين الشريفين«.
ومن لبنان، خصوصاً، وبرّ الشام عموماً، كانت بداية الصحوة، وبداية التحرك في اتجاه توكيد الهوية، مع تعاظم النزعة الطورانية داخل الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، والتي كانت الثورات القومية للشعوب المسيحية المنضوية تحت لوائها قد أخذت تفصلها عنها شعباً بعد آخر، بالاستناد إلى أعداء »الرجل المريض« الذين كانوا باشروا تقاسم تركته.
لقد عاش العرب قرناً طويلاً من التجارب والإخفاقات والضياع عن الذات، من دون أن نغفل أنهم حققوا نجاحات باهرة في لحظات كادت تصنع تاريخا جديدا… لكن الهزائم سرعان ما توالت عليهم، وكل هزيمة تجر أخرى، حتى خسروا استقلال بلادهم، وها هم الآن مهددون بأن ينكروا عروبتهم ويتنكروا لها.
باتت العروبة عبئاً ثقيلاً على المؤمنين بها، لأنها تحمل ظلما وزورا أخطاء وخطايا من اتخذوا شعاراً يوفر لهم الغطاء لتسلم السلطة وكأنهم من أهل الثورة من أجل الوحدة والحرية.
ولأن العروبة فكرة ودعوة كانت تخاطب الوجدان والعاطفة والذكريات المتوارثة والطموح الى »استعادة الماضي التليد« فقد افتقدت على الدوام قوامها السياسي، وتأرجحت محاولات صياغتها عقيدة ومن ثم حركة بين تقليد الثورات أو الحركات القومية في الغرب، وبين محاولات ابتداع صياغات خاصة توفق بين العروبة كهوية وبين الإسلام كدين للغالبية يزيد من دوره فيها ويؤكده أن النبي صاحب الرسالة عربي.
ثم إن معظم من حكم باسم العروبة، سواء بشخصه أو بحزب يحمل شعارها سرعان ما صادره أو حطمه بالدبابات، حتى إذا لم يتبق منه غير الشعار تسلح به للوصول إلى قصر السلطان، ثم قتل من يؤمن بالشعار بعد أن يمتحنه في ذاكرته: هيا انشد نشيد الحزب!
وهكذا بلغ العرب وهدة اليأس من أنفسهم فوجدوا الحل السهل بأن ينكروا عروبتهم ويتنكروا لها، بذريعة التبرؤ ممن حكم باسمها فأساء إليهم وإليها وإلى التاريخ، بل هو جعلهم حطاماً وأخرجهم من التاريخ…
باتت العروبة تهمة، بل إن البعض يرى فيها افتراء عليه وإهانة وتجريحاً وتشويهاً لسمعته ودمغه بوصمة تُخرجه من عصر التقدم والثورة العلمية.
ومن مفارقات القدر أن يكون اللبنانيون، بالذات، هم المدعوون اليوم لتجديد دورهم التأسيسي في إعادة نشر فكرة العروبة وتأصيلها.
ذلك أن اللبنانيين يتميزون عن سائر العرب بأنهم كانوا دائماً أقوى من سلطتهم السياسية.. وهم طالما انتفضوا فأسقطوا السلطة من دون أن يتأثر »الكيان«. وحتى عندما غيبت الحروب الأهلية/ العربية/ الدولية »الدولة«، وتشرذمت السلطة سلطات، فإن الكيان صمد وصمد معه نظامه الخاص الذي يأخذ من العروبة بمقدار ويترك لها مساحة واسعة في الشارع… أما على المستوى الفكري فإن دعاتها ظلوا أصحاب دور أساسي، بل لعل هذا الدور قد تعاظم في ظل الحملات التي شارك »الانعزاليون« القدامى والجدد، وكذلك في ظل الإساءات التي لحقت بالفكرة بنتيجة الممارسات الملعونة للأنظمة التي حكمت بالشعارات العربية فكادت تسحق الفكرة كما سحقت دعاتها المؤسسين أو المناصرين أو المجددين على وجه الخصوص.
إن لبنان المتميّز بحيويته، وبتعدد الأفكار والآراء والاتجاهات، فضلاً عن الأديان والطوائف، يبدو اليوم مؤهلاً مرة أخرى ومطالباً بأن يلعب هذا الدور الريادي الذي تحتاج إليه الأمة.
إن مصر قد ابتعدت مرة أخرى، إذ افترض نظامها أن الصلح مع إسرائيل يحقق له مع »السلام« الرخاء الأميركي، فما جاء الرخاء في حين أن السلام الموهوم كاد يحوله إلى حارس لإسرائيل من أهلها الفلسطينيين (والمصريين على حد سواء).
والعراق غارق في دمائه التي تكاد تذهب بوعي أهله، في ظل التخلي »العربي«، بل التآمر العربي والأميركي عليه، وما الحكاية الملكية الهاشمية عن »الهلال الشيعي« إلا العنوان المعلن للمؤامرة التي يشارك فيها معظم الحكام العرب.
وفلسطين التي غاب العرب عن نصرتها تقاتل بلحمها وتحافظ على علمها العربي حتى وهي تذوب تحت وطأة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي المحمي دولياً والمسكوت عنه عربياً.
وسوريا بعد محنتها في لبنان، وبعد ضغوط الحصار عليها من جنوبها الفلسطيني ومن شرقها العراقي، مشغولة بذاتها، لا تملك ما تدفع به المخاطر التي أخذت تضغط على داخلها فيرتج ويكاد يجبر نظامها على المفاضلة بين هويته واستمراره.
لبنان، برغم كل ما أصابه من كوارث شملت إلى أمنه واقتصاده وقياداته دوره الفكري الثقافي، ما زال هو وحده المؤهل لدور ريادي لا غنى عنه في تجديد الحركة العربية، فكرياً ومن ثم سياسياً.
قد يبدو هذا الكلام طوباوياً، لكن حيوية الحركة الفكرية، والصراع السياسي المحتدم فيه، والجدل المفتوح حول الخطر الإسرائيلي والمقاومة، وحول مستقبل العلاقة بسوريا.. كل ذلك يسمح بترشيح لبنان مجدداً ليكون حاوي العروبة ورائد تجديدها بعد كل ما أصابها على أيدي أعدائها، وهو قليل، وعلى أيدي من حمل شعاراتها وهو كثير وخطير.

ماهر الخير ينزف غربته شعراً

تطلع عليك القصيدة من قلب الظمأ إلى الحب والموسيقى ونسائم السحر..
تفرح حين يهبط عليك وحي شاعر فيأخذك معه الى الغناء والتعطر بشميم امرأة والمشي فوق صفحة نهر يشرب منه القمر فلا يتعتعهما السكر.
ولأنها باريس فإنك تحس بالعطش الى الشمس، والشمس مخبوءة في »القميص الأزرق«، وماهر الخير يتوه في شوارع بيروت باحثا عن نهر باريس الذي أخذ منه قميصه ولم يعطه حباً يمنحه الدفء.
ماهر الخير الذي نتعرف إليه عبر إطلالته الثانية كشاعر، دبلوماسي لبناني يقيم في القاهرة الآن، وسبق له أن عاش طويلاً في باريس فعرفها كثيرا من خلال غربته وعرفته قليلاً لأن روحه تهيم في بيروت.
ولقد قال عنه الأديب المصري فاروق جويدة: »هذا شاعر لبناني الوطن عربي الأصل، باريسي الهوى… وقصائده معزوفات قصيرة. والشعراء العشاق غرباء في زماننا«.
والحقيقة أن الشعراء العشاق غرباء في كل زمان… وإن كان ماهر الخير يصلح، في هذه اللحظة ناطقا باسمهم:
»مر الصيف قصيراً. لم أسبح بظلك هذا الصيف.
باريس تنتظر. حملت قلبي بتابوت السفر… لم أبك عليه ولم يبك أحد«.
لم تجرح مرايا الأزرق، ولم تعد ذاكرة ماهر عذراء »ألف عشيق لها. مطلقة مرات وأرملة. لا طفل يسأل عنها ولا عائلة. تصب النار في الأثواب. تستل سيوف النايات. ترقص رقصة الأموات وتنطفئ«.
لكنه النهر، يترقرق في قصائد الديوان حتى ليملأه وجداً:
»هذا الصباح رأيت روحي تنزف فوق النهر، حتى صارت بياضاً«.
»لم يبق إلا ظلي، أطيافاً فوق النهر. شعري يتدلى صفصافاً ويداي زهر« ثم باريس التي يخاف أن يسرقها أحد منه.
»باريس تجري فوق النهر، فوق الخمر، فوق الزهر، فوق جراح الناس تجري، فوق النار، فوق الجمر، فوق صلاة المحرومين، فوق أغاني الشحاذين، فوق أماني المظلومين، فوق الليل.. فوق الفجر، تجري، تجري لا تسأل..«.
وبين باريس وبيروت يعرف ماهر خير »عزف البنفسج في العيون«، ويعرف كيف يحبها بشهقة المجنون. ويعرف »الآن ما بيننا. واحدنا فراشة ثانينا ضوء. لا انكسر المصباح ولا جناح احترق«.
والحب يأخذه بعيداً: كلما تلامسنا تلاشى وجهك ووجهي انكسر..
ثم إنه »نسيت وجهي في مراياك. أمشي لا أرى أحداً ولا أحد يراني. أنا في حين تنظر فيها تراني«.
ماهر الخير يكتب قصيدة حبه، بدأها في ديوانه الأول، »عارياً تحت الشمس«، وها هو يتابع في ديوانه الجديد، لكن الحب سيملأ دواوين كثيرة. إنه البحر الذي لا شاطئ له إلا ذاته.

من لا يقرّر لا يحب

عندما قدم إليه »خطيبته« الخامسة تمالك نفسه بصعوبة حتى لا ينفجر غضباً، وهو يتخذ منه شاهداً على تحولاته العاطفية.
ساءل نفسه إن لم تكن الغيرة منه تخالط الغضب وتزيده حدة.
هي جميلة… بل هي أجمل من سابقاتها الجميلات.
المشترك في الصبايا الخمس رهافة الحس ثم شلال الشعر الأسود الذي يترامى على الكتفين حتى يداني الخصر.
أين يعثر هذا الشقي على هاته الساحرات فيعابثهن حتى ينتقي منهن واحدة فتكون له بكليتها، ترعاه وتدلله وتوفر له مناخ التجلي لكي يبدع فناً جميلاً يحتفظ به لنفسه، ولا يتيح له فرصة الانتشار ربما لأنه يخاف عليه من العيون.
قرأتْ في عينيه شيئاً من القلق فقالت:
تريد أن تحذرني منه؟! لا تخف عليّ! سأجبره على الاستسلام!
بعد سنة التقاها. كان القلق يحتل عينيها.
قالت: أحس أنني على باب الهزيمة. إًنه أصعب مما تصورت. إنه يقف على عتبة القرار ثم يلوي عنقه متراجعاً تاركاً لي طيف ابتسامة لا أعرف إن كانت اعتذاراً أم إعلاناً عن جبنه، أم أنها لإخباري أن لعبته قد انتهت.
لم يكن يملك ما يقول فأضافت: لو أنه قادر على الحب لصار أشجع الرجال؟ إنه أعجز من أن يحب، والشجاعة لا تستعار، وإلا لكنت أعطيته منها ما يجعله يهزم أعتى طغيان في الأرض.
رفّ على وجهها المغطى الآن بسحابة حزن طيف ابتسامة، وقالت وهي تودعه: الحب يمنح القوة.. وبقوة حبي أستطيع أن أنتظر لو أنني أطمئن الى حبه، لكنه أجبن من أن يقرر. ومن لا يقرر لا يحب.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
صديقي الشاعر حزين هذه الأيام. إن حبه أقوى من شعره. حبه يجعله يتلعثم وينسى الشعر. يقول: حبي يغلب غيابها، وحبها يغلب حضوري. ويقول إنه لن يشفى من حبه إلا بطوفان من الحب.
ربي عجل بالطوفان..

Exit mobile version