طلال سلمان

هوامش

رياض »المملكة« ورعاياها الذين يتحولون إلى مواطنين

ذهبت إلى السعودية، أول مرة، في شباط 1975 في مناسبة حزينة: ضمن وفد لنقابة الصحافة، للتعزية بالملك فيصل الذي اغتيل في جريمة دبرت بليل ونفذها ابن عم له، بعد موقفه الشجاع الذي تمثل باعتباره النفط »سلاحاً سياسياً« لا بد من استخدامه في المعركة القومية، واتخذ عنوانا مشرفا هو الاصرار على الصلاة في المسجد الأقصى.
كانت الرياض قرية كبيرة حولها القرار السياسي الى عاصمة للمملكة التي أقامها عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بحد السيف مشفوعاً بالحنكة السياسية التي تعرف كيف تستخدم الذهب.
وقصدت الرياض، مرة اخرى، في أواخر العام 1979، مدعواً »لحوار من موقع المختلف« مع المسؤولين الكبار فيها، وكانت المملكة تعيش لحظات ما بعد الكابوس الذي تسببت به المغامرة بل المقامرة التي ارتكبها جهيمان العتيبي، حين استولى مع جماعة من أنصاره السلفيين المتشددين على بيت الله الحرام في مكة المكرمة، وأعلنوا خروجهم على النظام متهمين من اعتبروهم »وهابيين« بالخروج على الدين الحنيف.
كانت الرياض قد اتسعت مساحة، وشهدت نهضة عمرانية ملحوظة، وإن بقيت شوارعها الداخلية خطوطا من الرمال.
ولقد تسنى لي خلال تلك الرحلة أن ألتقي الملك الراحل خالد بن عبد العزيز وولي عهده (آنذاك) الملك الذي غادرنا قبل ايام فهد بن عبد العزيز والامراء سلطان وفهد وسلمان ونايف وبدر، وكثرة من ابنائهم ومعاونيهم.
زرت بعضهم في الدواوين، وبعضا آخر في بيوتهم التي لم تكن قصوراً.
ولفتني انني كنت اجتاز في الطريق الى ديوان كل منهم طابوراً من اصحاب الحاجات يمسك كل منهم ب»عرض حال« ليقدمه الى الامير.. وفي مكان غير بعيد يجلس بعض محترفي كتابة »المعاريض« التي يشكو اصحابها فيها سوء الاحوال ويطلبون اعانة او مساعدة يمكن احتسابها صدقة او إحساناً.
في بلاد الذهب الاسود كل هؤلاء الفقراء والمساكين الذين يجيئون لطلب صدقة او اعانة او حسنة؟!
كان ذلك خارج التخيل: فالدخل بأرقام فلكية، وعدد السكان ليس بعشرات الملايين، كمصر مثلا، فلماذا لا يعالج هذا الخلل الفاضح والمسيء الى صورة المملكة التي يضرب المثل بغنى ارضها.. المباركة؟
كان مقصدنا، بعد نهار العمل الطويل، دارة صديق الصحافة والصحافيين الامير سلمان بن عبد العزيز الذي كان يقرأ الصحف كلها ويعرف العديد من الكتّاب والشعراء والصحافيين وتربطه ببعضهم صداقة حميمة (كان من بينهم في وقت متقدم استاذنا محمد حسنين هيكل والراحلون المميزون احسان عبد القدوس ومصطفى وعلي امين، في مصر، وسعيد فريحة وحنا غصن وسليم اللوزي وفريد ابو شهلا وهشام ابو ظهر في لبنان الخ..).
وفي ليلة، جلست الى الامير أناقشه في ظاهرة »اصحاب المعاريض« ووقوفهم وقوف المتسولين امام دواوين الامراء، متسائلا: لماذا لا تصل الى الناس حقوقهم في ثروة بلادهم؟ لماذا يضطرونهم الى هذا الموقف المذل، والذي يسيء الى صورتكم ويبرر »خروجهم« عليكم، ولو بأسلوب مختلف عن جهيمان؟
قال الامير المحاور: اتعرف كم مساحة المملكة؟ انها قارة… ثم اننا نأتي الى الثروة من تاريخ من الفقر والحرمان وحياة الشظف. ان شبكة الطرق وحدها تستهلك ارقاما فلكية، فإذا اضفت الكهرباء والجامعات والمدارس والمستشفيات والمستوصفات، لتبين لك اننا لو انفقنا كل دخلنا على امتداد عقدين او ثلاثة لما انجزنا ما يكفي من المرافق الحيوية، ولما استطعنا رفع دخل الفرد الى ما يسد حاجته.
سكت الامير المتدفق حيوية والذي لا »يخاف« من اي سؤال:
انهم اهلنا. نحن منهم وهم منا. لسنا مثل ذرية محمد علي في مصر، وآخر من حكمها منهم هو الملك فاروق. لسنا »ارناؤوطا« ولا نحن غرباء اخذنا البلاد بقوة الاجنبي او استولينا على الحكم فيها في غفلة من اهلها، لقد قاتلنا معا حتى وحدنا الارض والشعب وأقمنا هذه المملكة بحد السيف… سيوفنا جميعا، ونحن نحتاج الى مزيد من الزمن لكي ننتصر على الفقر.
نظر في عيني فلاحظ انني لم اقتنع تماما فأضاف ضاحكا:
نحن يا صديقي ابناء هذه الارض. ابناء رملها ونخيلها. عشنا شظف الحياة مثل اهلها جميعا. لسنا غرباء وافدين ولسنا طارئين عليها.. يكفي ان اقول لك اننا من »عنيزة« (احدى كبريات القبائل العربية)، وان واحدا من جدودنا هو »مسيلمة«.
***
قبل ايام ذهبنا الى السعودية للتعزية مرة اخرى، والآن بفقيدها الكبير فهد بن عبد العزيز.
تبدّت الرياض من الجو مدينة حديثة تمتد على مساحة هائلة، بيوتها انيقة تعكس حالة الوفرة، وفي القلب منها برجان يرتفع كل منهما لحوالى مئة طابق، الأول »الفيصلية« وقد بناه أبناء الراحل فيصل بن عبد العزيز، والثاني »المملكة« وقد بناه الوليد بن طلال بن عبد العزيز.
صار لدار الحكم قصور، ببوابات وحرس، تزايد عديده بعد العمليات الانتحارية لغلاة المتطرفين الذين اتبعوا اسامة بن لادن، الذي »استُولد« لهدف، ثم بدلته الأيام فغيّر هدفه وارتد على الذين اوفدوه إلى أفغانستان، وقرر ان يطهر العالم من الكفر والكافرين بقتل الأبرياء في برجي نيويورك وشوارع مدريد ثم لندن، بينما جماعته يؤسسون في العراق لحرب مذهبية بين السنة والشيعة، متغافلين عن الاحتلال الأميركي، ومن قبل عن العدو الإسرائيلي… بغير ان ننسى فعلتهم الشنيعة في ضربهم درة السياحة في مصر، شرم الشيخ.
… ولعل اسامة بن لادن قد خدم »خصومه الجدد« من أبناء الأسرة الحاكمة من حيث لا يقصد، إذ نبههم إلى خطورة التطرف، وجعلهم يبرأون بأنفسهم من »الوهابية«، ويخففون من تشدد المؤسسة الدينية وتدخلها في حياة الناس اليومية وسلوكهم في الشارع أو حتى في بيوتهم.
لقد انفتح باب الكلام في المملكة التي كانت تتحدث همساً أو بالإيماء أو التلميح، وارتفعت الأصوات بطلب المشاركة، وصدر »النظام الأساسي«، وأقيم »مجلس الشورى« بالتعيين، ثم سمح بإجراء انتخابات بلدية… صحيح انها مقيدة وتكاد تكون أقرب إلى التعيين من بين الموثوقين، لكن الخطوات تتوالى، ولو ببطء.
وإذا كانت تلك الانفراجات قد تمت في عهد الملك الراحل فهد، وغالباً بمبادرة منه، فإن إشارات كثيرة صدرت عن الملك عبد الله، توحي بأنه سيسير قدماً في الاصلاح السياسي، ليس فقط كي يتخفف من الضغط الأميركي المطالب بالديموقراطية، أو من المطالبات الداخلية المتزايدة، بل أيضاً من أجل توكيد انتماء الأسرة الحاكمة إلى ناس المملكة الذين ارتضوا لها ان تحمل اسم هذه الأسرة، والذين بايعوا ويبايعون أبناء عبد العزيز المتعاقبين على العرش معلنين ولاءهم كمواطنين لا كرعايا.
والطريق طويلة إلى الأمنيات، لكنها مهما طالت تبدأ بخطوة.. والعصر بوتيرة سرعته يفرض »قفزات« لا خطوات.

عن ليلة تجرّحت فيها الشفاه

… وعندما هبط علينا »أبو يحيى« من شاهق عمره بوجه النسر، والشاربين المعقوفين إلى أعلى شموخاً، نبتت للفتيات الصغيرات نهود، وعاد الكهول القهقرى إلى الشباب الذي كان غادرهم بلا وداع أما النساء فقد خرجن من الجمع إلى المفرد: امرأة، امرأة، ولكل امرأة ذكرها المتخيل حاضراً أو غائباً.
زغردت الشبابة، وقرع الطبل، فتسابق الجميع إلى الحلبة يتدافعون بالمناكب والسيقان، ثم تجمدت حركتهم حين ظللهم »عمر« الطائر بجناحي النشوة، وحين لامست قدماه الأرض انبجس الأقرب إليك طوفاناً يجرفك فإذا أنت تسبح راقصاً وتشد الأقرب إليك كي تحفظ توازنك فلا يسقطك ضغط المتراجعين إذا تقدم رفاق عمر خفافاً، أو إذا تراجعوا كموجة تكسّرت فارتدّت تجمع أشلاءها لتعود فتنثر رذاذها انتعاشاً على الآتين من النسيان.
تبارى الفتيان مع »أبي يحيى« فكشهم كما الذباب ليخلوا الساحة لحريمه، وهو المتساهل مع الأعمار إذا ما استشعر ان الموسيقى قد دغدغت الروح وأطلقت الرغبات المكبوتة وأسقطت وقار الألقاب والمناصب والادعاءات.
انهمرت الأشواق مطراً، واحتضن كلّ خدينه، ثم تبادلوا الاحضان بغير ضغينة، وتعانق المتباعدون بالافتراق القسري أو بالهرب من أعباء الحب، أو بالخوف من الاعتراف، حتى تجرحت الشفاه فوزعت أحمرها على الخدين والعنق وبعض القميص.
صار »عمر« سرباً من الطيور ترفرف بأجنحة من الطرب فوق السكارى رقصاً، وظل »أبو يحيى« يطارد أسرى كربهم ووقارهم المزيف، يهمّ بهم ملوّحاً بعصاه فيهربون إلى الحلبة وقد تكسر الزيف وانتثرت قشرة الكلس أرضاً لصفوف المتكاتفين وهم يخبطون غيظهم وخيباتهم بأقدامهم لينتقموا للأيام التي ضاعت منهم وهم غافلون.
تنافس المجوز مع الناي، فتمايل الحور وهسهس الصفصاف وزغردت مياه النهر، ولم تعد المداراة مقبولة، فانفرد الخل بالخل في حضن الجمع المتعطش للحب، وتحاضن عشاق الأيام الخوالي التي خرجت من قوقعة الماضي لتصير وعداً بموعد غداً.
امتد الليل خميلة، وامتدت الحلبة حتى صارت جنة معلقة، وانتشرت عدوى »عمر« فإذا عشرات الفتيان يرفرفون بأجنحتهم ويحلقون وقد اختطفوا حبيباتهم اللواتي حطمن خجلهم، وعينا »النسر« تتابعانهم وعصاه تذب عنهم عيون البغض والخوف من جحيم الآخرين.
تهادى الصبح على مهل، بخيوط ضوئه الأولى، فأصابته عدوى الخدر الذي كان قد التجأ إلى حضنه أولئك الذين أعطتهم ليلة الحب عند الحاصباني زخماً يعدل حياة، وعوّضتهم أعمار الحزن الذي أنساهم شبابهم حتى أطل »أبو يحيى« بفتوة ثمانينه فأعادهم مراهقين يحاولون أن يقفزوا فوق الهموم التي سوف تطل فتأخذهم مجددا مع ضوء النهار.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب لا يشيخ. تكبر فيكبر معك. تحاول نسيانه فلا ينساك. تهرب منه فيطاردك كظلك حتى يستعيدك.
أكرم لك أن تقع فيه. أن تعترف به. أن تعيشه لتؤكد إنسانيتك. خارج الحب لا وجود لإنسان.

Exit mobile version