أهل السياسة يُعْرضون عن الكتاب
معرض الكتاب فضاح: اي معرض واي كتاب، من اصغر مدن العرب الى الفضيحة الدولية في فرانكفورت. انه يكشف فيعري العلاقة بين »السياسة« و»الثقافة« في دنيا العرب.
على امتداد ايام المعرض الثامن والاربعين للكتاب العربي الدولي في بيروت، تقاطر عشرات الالوف من المواطنين او المقيمين الى »عرس الكتاب«. كان بينهم الرجال والنساء والفتيان والاطفال. كان ثمة علمانيون ومتدينون، صبايا جميلات مكشوفات الخصور ومحجبات، لا تظهر من وجوههن الا العيون اللامعة بالفضول والخوف من المعرفة والرغبة فيها.
»صنف« واحد لم يكن له حضور يذكر في هذا المعرض هو: السياسيون! في مرات نادرة، تصادف وجود بعض محترفي السياسة، ثم تبين انهم جاؤوا لمجاملة كاتب ذي نفوذ، او لادعاء صلة مزعومة بالثقافة عن طريق الظهور في الصورة الى جانب الرئيس سليم الحص، مثلا، وهو سنونو واحدة لا تبشر بربيع ثقافي بين محترفي السياسة.
في المعرض كتب من كل الاصناف: في السياسة الدولية، في الفضائح العربية، في الفن، في الرواية، في القصة القصيرة، في ادب الاطفال، في الطبخ، في تنسيق الورود، في الاسلاميات على تعدد اصنافها، في الجنس رواية وشعرا والوانا من الكتابة بين بين.
لكن اهل السياسة مشغولون بما هو اخطر وأهم، ولا يملكون في الوقت ترفا ينفقونه على استعراض الكتب او تحية المؤلفين.
معارض الكتب مناسبة لتأكيد امية السياسيين، واحيانا لعدائهم المكين للثقافة، بل لمبدأ الحوار بين المختلفين بقصد الوصول الى توافق او تفاهم على ما هو مشترك.
ثم ان معارض الكتب تتجاوز حواجز الطائفية والمذهبية، فماذا يفيد »السياسي« اذ ذهب اليها فأضاع بعض وقته بين هؤلاء الذين لن يصوتوا له حتى لو اشتروا كل ما يعرضونه.
على اننا يجب ان نذكر لهؤلاء السياسيين شيئا من الفضل: انهم لم يفسدوا الهواء في هذا الحقل الغني برياحينه ووروده.
لقد بقي المناخ في المعرض نظيفا لا يؤذي الاطفال!
الماغوط يقدم عدوان: الوطن تهمة!
لكأنها رسائل الوداع، يتبادلها مبدعان من قلب مقاومة المرض والإصرار على شرب كأس الحياة حتى الثمالة.
محمد الماغوط يقدم الديوان الجديد لممدوح عدوان: »حياة متناثرة«.
لا، ليست هي مقدمة تماماً. إنها نقطة ختام لخصومة طويلة نسي بطلاها أسبابها. إنها محاولة لتجاوز الذات من المبدعين اللذين أعطيا كثيراً وفي مجالات النتاج المتميز، شعراً ونثراً، مسرحاً ورواية وقصة، إضافة إلى النقد.
يقول الماغوط لعدوان: »الآن دعنا من كل هذه الترّهات، أريد خزعة من رئتيك وجبينك وأحزانك. إن نسيجها أكثر متانة ومماطلة من قلعة مصياف وجبال ديرماما… وإذا خطرت لك زيارتي حيث أقيم فعلى الرحب والسعة. فإذا لم أكن موجوداً فسعالي يقوم بالواجب وأكثر«.
أما ممدوح عدوان، الذي يجرب حظه مع قصيدة النثر، فإنه يطلق العنان لأوجاعه التي فيها مساحة لألمه الشخصي الوطني القومي الأممي… الخ:
»الله، ما كان أجمل الوطن في البطاقات البريدية/ وما كان أجمله في أناشيد البطولة، فالحقيقة أنني لا أرى الآن فعلاً/ إلا نصف الكوب الفارغ/ بينما نظرتك القاسية/ والهراوة التي يطبطب بها جلادك على جزمته/ منعتاني من القول/ إن النصف الآخر من الكوب/ فارغ أيضاً (…) أما الوجه الآخر لهذا الجلاد وما تركه »جهده« من اثر في الناس فهو انه حولهم الى نسخ متكررة: فنحن متشابهون مثل الخيار المقطوف من الدفيئات/ مثل فراريج المداجن/ حتى الفجر أيقظناه ليغني فصاح: يا ليل! «.
المبدعان السوريان اللذان أغنيا الحياة الثقافية العربية على امتداد ثلاثة عقود أو يزيد، يعيشان ظروفاً صحية صعبة، جعلت محمد الماغوط يعتكف كلياً في منزله، فلا يخرج منه، بينما دفعت بممدوح عدوان إلى الخروج الكثيف للمشاركة في كل نشاط يدعى إليه.
إنهما من جيل واحد تقريباً، لعله يتبدى الآن وكأنه جيل الخيبة، مع أن كلاً منهما أعطى فأبدع في أكثر من مجال. وعلى اختلاف النشأة والهوى والميل والتجربة فقد انتهيا إلى نتائج متشابهة: سقطت المثل والعقائد تحت سنابك الخيل:
»يا لها من أمة مضجرة، ليس فيها خائن واحد«!
يصرخ ممدوح عدوان، هو المبتلي بالإرث الصعب: في هذه الأيام السوداء أحمل في الذاكرة تراباً كان وطناً، وأشلاء كانت أخوة وأصدقاء.
وهو يتهمهم جميعاً بأنهم »كذابون«: لا المطرب العاطفي عاشق ولا المذيع المتحمس يحب وطنه، ولا المؤذن يحب الله (…) هبت عواصف الكذب وأنا لم أشتر معطفاً…
»كذابون، إذن. لست أنت المهاجر، وأنا لست في وطني/ إنها الصحراء/ وإنه السراب، والغد صار أبعد من يوم القيامة…«.
لا يخرج ممدوح من السياسة إلا ليدخل إليها. إنها هواؤه المسموم. ولكن »بقي لك الكلام بصوت مرتفع والبكاء سراً/ ثم استخدام العضلات وما أمكن. وارفع رايات الأحزاب التي انتهت صلاحيتها وتريدها جمهوراً لك«.
لا وجود للمرأة في هذه »القصيدة« المتصلة من أول بيت حتى آخر نقطة، إلا بوصفها رفيقة العمر التي تقتات من خوفه وتحضر له حقيبة المعتقل:
»لا بد لواحد من هذه السلالة/ أن يدخل قلب امرأة ما/ ويحس بالأمان«.
الموت يظلل أبيات القصيدة، لا يشاركه إلا ظل العسس الذين يتربصون بالأنفاس… ربما لهذا كانت الحياة بقجة مفلوشة:
»حين منعوا التأبين والتعزية/ بقيت هذه القصيدة العنيدة/ وهي تعرف أنها غير مقروءة/ … هي التي حملت ما تيبس من الدماء/ وما تناثر من الأشلاء!«.
لم يعد الوطن أرض الحب والأمان والمستقبل. صار يباباً. صار تهمة. وفي رسالة إلى مغترب يعلن ممدوح عدوان يأسه المطلق:
»الأمن مستتب (…) والشوارع خالية من العشاق والسكارى والمجانين/ لذلك، أرجوك يا أخي/ لا ترجع من المنفى/ وإذا استطعت؟ أمّن لي زيارة/ حتى لو لم أرك فيها…«.
مع »الجنرال« يصل ممدوح عدوان إلى تلخيص »المرحلة الزرقاء« من تاريخنا المعاصر، ويروي حكاية جيله وجيل أبنائه مع أمس واليوم والغد:
»هذا الذي جاءه نبأ قدوم العدو إلى المدينة/ قفز من سريره، وخرج من منزله بلباس النوم/ وأمر سائقه أن ينطلق/ لم يحمل الأوراق ولا الأسرار العسكرية/ لقد حمل الأموال طبعاً، والباقي ظل للعدو.
»هذا الذي كان قائد الجبهة التي اختُرقت/ صار قائداً للبلاد الآن/ ووسام البطولة معلق على صدره، ووسام مثله على الطاولة«.
لكن ممدوح عدوان ما زال يكتب، اي انه ما زال يقاوم.
عبد الله قبرصي يستعيد »التاريخ« ب »سذاجة« المبشر
كبر »الطفل« في عبد الله قبرصي فتجاوز التسعين، لكن »سذاجته« لم تغادره، ما تزال تحكم »مرافعاته« السياسية، وهو المحامي القدير، فتحار وأنت تقرأ له فصولاً جديدة من مذكراته: ترى هل كان هذا الحزبي العتيق، صلب العقيدة، راسخ الإيمان بحزبه وبزعيمه على هذا القدر من السذاجة الذي ما زال يرافقه حتى اليوم، وهو يروي بعض الصفحات الدامية التي لا تنسى من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي كما يستعيدها من ذاكرته.
في الجزء الجديد من مذكرات عبد الله قبرصي يتوقف أمام أربع محطات بارزة في تاريخ الحزب ولبنان وسوريا، ويستعيدها بلهجة يختلط في بعضها الندم مع التفسير المتأخر للوقائع، وهي:
1 »الثورة القومية« التي أعلنها الحزب، بغير استعداد كاف، مما أفشلها قبل أن تبدأ.
2 تسليم حسني الزعيم (الذي كان قد تولى السلطة في دمشق بعد قيامه بأول انقلاب عسكري بعد نكبة فلسطين) زعيمَ الحزب أنطون سعادة إلى الحكومة اللبنانية ممثلة برياض الصلح، ومن ثم المحاكمة العسكرية الليلية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً والتي انتهت بالحكم بإعدام سعادة، وتنفيذ الحكم، قبل أن يطلع الصبح.
3 اغتيال رياض الصلح خلال زيارة له الى عمان، بعد سنة من »اغتيال« سعادة، على ايدي سوريين قوميين.
4 اغتيال العقيد عدنان المالكي في دمشق، وهي الجريمة التي نفذها قوميون وتسببت في اعتقال الحزب في سوريا، والتي سرعت وصول حزب البعث الى السلطة.
بين ما يستوقف في هذا الفصل من مذكرات عبد الله قبرصي اعلانه انه كان يتمنى لو تم التعاون بين القائدين انطون سعادة ورياض الصلح… فلو تم مثل ذلك التلاقي لتغير التاريخ في المنطقة، اذ انه يرى ان الرجلين الكبيرين كانا يسعيان الى الوحدة والاستقلال، وكان حتميا ان يتلاقيا، منطقيا، لا ان يتصادما… قافزا من فوق حقيقة ان رياض الصلح كان قد بات حاكما فودع عهد النضال، بينما سعادة يحاول القفز الى السلطة ولو بانقلاب هزيل القدرات.
كذلك فهو يبرئ الحزب، كحزب، من جريمة اغتيال رياض الصلح، ويحصر المسؤولية عنها برئيس الحزب آنذاك جورج عبد المسيح، وبمنفذيها.
ثم انه يبرئ الحزب من الجريمة المدوية الثانية وهي اغتيال المالكي، ويحصر المسؤولية عنها، مرة اخرى، بجورج عبد المسيح.
هل كان انطون سعادة السياسي على هذا القدر من السذاجة ليعلن »الثورة« معتمدا على بعض رجال الدرك في بعض المخافر في الجبل، ثم يقع في »حيص بيص« بعدما انكشف الامر وثبت عجز الحزب عن اكمال ما بدأه، او تبرير ما تورط فيه؟
وهل يمكن تصور التلاقي بين عقل انقلابي يريد تغيير المنطقة، بالفكر وبالعمل الحزبي المنظم، وبين عقل سياسي احترف »التآمر« طويلاً فلما جاءته السلطة صار همه الحرص عليها وليس اضاعتها…
باختصار، فإن شهادة عبد الله قبرصي قد تأخرت كثيرا عن موعدها، ولكنها تظل دليلاً على طينة ابن دده في الكورة الذي اخلص لما آمن به برغم الانتكاسات والخيبات. انه مبشر وليس مقاتلاً بالسلاح.
حكاية: على تخوم الرحيق
شف الغياب وجهك فرقت ملامحه حتى ذابت، وبقيت عيناك تدوران من حول زوايا الهمس ومقاعد اللقاء التي تنبت الورود.
يلحق بك الشوق حتى آخر الأرض، يربطني إليك بخيوط من حرير، تدمي يدي إن أنا حاولت سحبها، وتجرحك إن أنا شددتها لأستعيدك.
القرب احتراق والبعد ثلج يحاصر الروح فتذيبه وتذوب معه.
لا معنى لصوت لا يصل الى قلب صاحبه ولو كصدى.
الشكوى حرفة الضعفاء الذين لو احبوا لصاروا جبابرة. ليس للتشكي من معنى غير الخيبة. يختار الحب فرسانه ايضاً. كيف عرفتها فأخذتها من بين مليون امرأة؟ مهلاً، هل انت من اختار؟ لو عاد الامر إليك لمشيت في التظاهرة بأمل ان تعطيها الشعار الصحيح. هي من اختار، هي من قرر، هي من اقتحم عالم البرد والرماد والتلهف الى اختراق المستحيل.
… ها انت تغرق مجدداً في الفلسفة، ولكننا كنا مع الوجه الذي شفه الغياب فرقت ملامحه حتى ذابت… من قال انها ذابت؟! انه يسكن مسامها، ويستطيع ان يرسمها، بالشامة على تخوم الرحيق، بالغمازتين اللتين تنبثق منهما الرغبة في العناق.
اسحب الخيط تحطَّ طائرة الغياب في كفك الصغيرة.
يأخذك الشعر إليها، فلماذا تنسى القصيدة؟ واين تركت صوتك، ايها المغني الذي سقطت منه اغانيه فسرقها عابرو السبيل وذهبوا بها إليها فهتف فيها الفرح: انه ما زال يحملني في منامه. فلأدخل لنكمل الحكاية.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تكابر مع من تحب فتهدر زمنا لا يعوض.
اتبع قلبك ولا ترفع مع الحب رايات الكرامة. حبك كرامتك، فكيف تصونها بغيره؟
الحب اكتمال… فاحفظه لتكونه.