الضحية تقتل الضحية، فيسقط الوطن بسلطته
كان المنظر فظيعاً في قسوته. حتى في الحرب الأهلية لم يشهد له اللبنانيون مثيلاً. لم يكن حتى المصورون والمراسلون الصحافيون مستعدين لتلقي مثل هذه الصدمة السبق. لم يكن أحد ليتوقع حدثاً هناك، في أقصى الأرض، عند الناس المنسيين، الناس الذين لا أسماء لهم ولا وجوه. الناس الذين يضيق بهم المكان ويضيقون به، فلا هم أهله، ولا هو أرضهم، وإنما رموا أنفسهم في الزحام ليضيعوا فلا يعرفهم أحد، ويعيشوا خارج دورة الحياة في البلد اللامعة واجهاته، المتنافسة صباياه على مناصب ملكات الجمال ومذيعات برامج الترفيه ومضيفات الفنادق الفخمة والمقاصف التي يرتفع رسم الدخول إليها بحيث لا يطاله الفقراء.
… وعندما فوجئ الفتية الذين رفضتهم المدارس بأقساطها الغالية، بالجند يقتحمون عليهم الزواريب الضيقة على شعاع الشمس، والتي تسيل مياه الجلي والغسيل على سطحها، حيث لا أقنية ولا مجارير، لم يعرفوا كيف يتصرفون. افترضوا بداية أن في الأمر خطأ، فتراجعوا لعل المهاجمين يدركون أنهم أخطأوا العنوان فيتراجعون.
… لكن »أبناء عمومتهم« لابسي المرقط استمروا يتقدمون حتى ضاق الزاروب الضيق بالطرفين، وكان لا بد أن يندحر أحدهما. ولعبت الذاكرة دورها في هذه اللحظات: استذكر الفتية أندادهم في فلسطين، فتية الحجارة، فاندفعوا يبحثون عن الحجارة، الأخشاب، العلب المرمية، الزجاجات الفارغة ليصدوا بها الهجوم الذي لم يتحسّبوا له، ولا كان بإمكانهم صده بمثل سلاحه.
مَن أمر الآلة العسكرية بأن تتحرك حيث لا مجال للحركة، وحيث لا عدو، وحيث التراجع هزيمة والتقدم جريمة موصوفة؟
من أمر الأخ بتوجيه رصاصه إلى صدر أخيه؟
من أمر الآلة العسكرية بأن تتنكّر لدورها، وأن تلبس وجهاً غير وجهها فتبدو غريبة، عادية ومعتدية، وهي تقتحم »المخيم« محولة أهله إلى »فلسطينيين« يدافعون عن وجودهم… بالموت من أجل الوطن الذي لم يعترف بهم في أي يوم؟!
من أطلق النار على الضحية؟! أم أن الضحية قتلت الضحية، في »حي السلم« ليستتب الأمر لحاكم بيده الأمر وليس بيده الحكم، ولمالك بيده الحكم وليس بيده الأمر؟!
حي السلم علبة سردين الفقراء الذين أفقدهم الاكتظاظ أسماءهم، وأفقدتهم الحاجة عنفوانهم، فدخلوا سوق العمل من أضيق أبوابه وبأبأس الشروط، بحيث إنهم يكتفون إذا ما سألهم من بقي من أهلهم عن أحوالهم قالوا بغير تفصيل »عايشين« ثم حمدوا الله كثيراً، وعاتبوه في سرهم كثيراً.
من أمر العسكري بأن يطلق النار على بيته، وهو يضيّع الطريق إلى بيته كل ليلة، ثم يهتدي للخروج منه بالتماعات الحياة اللذيذة خارجه؟
لماذا تضيق أرض الوطن بفقرائه… حتى في لبنان الذي تبيع سلطته من جلده، كل يوم، ليظل على ادعائه الغنى؟
… وطلب الثروة يلغي الوطن، أما طلب السلطة فيلغي الشعب.
وها إن لبنان محاصر بين الإلغاءين.
فؤاد مطر يعيد ويستعيد هموم العرب في 40 سنة!
اختار فؤاد مطر أن يؤرخ لأربعين عاماً فقط من عمره الصحافي الذي يزيد على هذه العقود الأربعة ويفيض.
وأذكر أنني التقيت فؤاد مطر لأول مرة في دار الكفاح العربي التي كان يملكها نقيب الصحافة الراحل رياض طه، وتصدر عنها مجلة »الأحد« التي جئت إليها من »الحوادث« لأتولى إدارة التحرير، تجاوزاً، بينما كان فؤاد محرراً أساسياً ومسؤول الصفحة الأولى من جريدة »الكفاح العربي« معظم أيام الأسبوع.
أذكر أيضاً أنني كنت واحداً من »الشهود« على قصة الحب التي تابعناها بكثير من العطف والشغف بين فؤاد مطر وزميلتنا آنذاك المحررة في التحقيقات الصحافية امتثال جويدي، وهي قصة تصلح لفيلم عربي خصوصاً أن بعض وقائعها جرت على سطح البناية التي كانت تضم مكاتبنا في وقف مار منصور، خلف »اللعازارية« في قلب بيروت.
ولقد توجت قصة الحب بين الصحافي المجتهد المتحدر من بلدة »العين« في بعلبك فؤاد مطر، وبين المحررة المفتوحة الذهن والعينين المتحدرة من أصل فلسطيني صيداوي امتثال جويدي، بالزواج وبثلاثي ناجح: عامر وغسان وعلياء.
بعد فترة اختلفت بنا الطرق: ذهب فؤاد، بعد مغامرات في إصدار المجلات الاجتماعية، إلى »النهار«، وسافرت إلى الكويت، ثم عدت إلى دار الصياد… وصارت لقاءاتنا متقطعة لكن الود ظل مقيماً.
في »النهار« توفرت لفؤاد فرصة مهنية ممتازة، إذ سرعان ما بات مراسلاً عربياً متجولاً، يمضي معظم وقته ملاحقاً للأحداث في الأقطار العربية، مصر أساساً، بقيادة جمال عبد الناصر فيها، وصحافتها التي كانت »مدارس« في المهنة تتصدرها »أهرام هيكل«.
ومع وصول فؤاد مطر إلى قلب هيكل انفتح الطريق عريضاً أمامه إلى سيل من التحقيقات والمحاورات التي شكّل العديد منها سبقاً صحافياً ممتازاً.
في القاهرة عرف فؤاد العديد من الشخصيات السياسية السودانية التي سيكون لها شأن في أواخر الستينيات: وبينها قيادات أحزاب »الأمة« و»الاتحادي« و»الشيوعي«… وهكذا فحين قامت »ثورة مايو«، في أيار 1969 كان فؤاد مطر يملك المفاتيح لنجاحات مهنية ممتازة.
بعد السودان جاءت ثورة القذافي في ليبيا (أيلول 1969)، فقفز فؤاد مطر إلى »بلاد الأخ معمر« ليقدم سلسلة تحقيقات ممتازة.
وعبر مؤتمرات القمة واجتماعات مجلس الجامعة العربية، وبفضل نجاحاته المهنية ودماثته الشخصية، ورصيد »النهار« التي كانت مصدراً للأخبار العربية بفضل الصداقات المتينة التي عقدها رئيس تحريرها الراحل ميشال أبو جودة، مع أبرز رجالات المعارضات العربية، الذين سرعان ما أعادتهم »الانقلابات« و»الثورات« إلى الحكم، قبل أن تنقلب عليهم…
وبفضل الموقع الإعلامي الممتاز، آنذاك، لبيروت، وقد كانت المنتدى السياسي والشارع الوطني العربي والمؤتمر الدائم للمعارضات السياسية العربية، والمرصد الممتاز لقاهرة عبد الناصر وخصومه، هاشميين وسعوديين، ومن بعد بعثيين وأحزاب الديموقراطية الوطنية، والمستنيرين من أهل الجزيرة والخليج واليمن.
بفضل ذلك كله، ونتيجة نشاطه ودأبه ودقته في عمله استطاع فؤاد مطر أن يصير واحداً من الصحافيين العرب المعدودين، ثم إنه نجح في بناء صداقات عزيزة مع العديد من رجالات الستينيات وبداية السبعينيات في مختلف أرجاء الوطن العربي.
على أن أغلى تلك الصداقات وأعظمها أثراً في نجاحات فؤاد مطر المهنية تحمل اسم »محمد حسنين هيكل« الذي قرّب هذا الصحافي المجتهد، وأعاد تدريبه، ثم فتح له بعض البعض من كنوز معارفه ومعلوماته، حتى بات فؤاد »محرراً مقيماً« في الطابق الرابع من »الأهرام« حيث مكتب هيكل و»الريسك المركزي« وأركانه الذين كان كل واحد منهم مؤهلاً ليكون رئيس تحرير من الدرجة الممتازة.
بعد »نهار« بيروت سافر فؤاد مطر، في أواسط السبعينيات، ليعمل في »النهار العربي والدولي« التي أصدرها غسان تويني في باريس، كاحتياط استراتيجي، وكمحطة انتظار لتطورات الحرب الأهلية في لبنان.
ثم جاءت الفرصة الذهبية حين التقى فؤاد مطر صدام حسين، الذي كان يزيل من طريقه آخر الحواجز للانفراد بالسلطة، والذي كان قد غدا منذ سنوات »الآمر الناهي«، فعرض »أبو عدي« وقبل »أبو عامر« أن يبدأ مغامرة متميزة بإصدار مجلة »التضامن« من لندن.. وقد استمر إصدارها حتى غزو الكويت، وبعدها بات متعذراً الاستمرار، فأقفلت وأقفلت معها المجلة المتخصصة في شؤون الصحة التي كانت تصدرها »امتثال«، سابقة بها الكثير من المجلات التي عرفناها من بعد.
فؤاد مطر قدم جهد عمره، مجدداً، عبر تصنيف حاول الدكتور خليل أحمد خليل أن يجعله منهجياً… فنسق معظم ما كتب هذا الزميل الذي لم يعرف البطالة منذ نحو نصف قرن، وأعاد تقديم المقابلات والخبطات والتحقيقات والتحليلات والمذكرات الشخصية للعديد من القادة في معظم أقطار المشرق العربي من العراق حتى ليبيا، من دون إغفال اليمن وبعض أقطار الجزيرة والخليج.
»حصاد العمر« الذي أضافه فؤاد مطر إلى المكتبة العربية يمكن اعتباره من دون مجاملة »دائرة معارف« محدودة ولكنها دقيقة، لمن أراد التعرف على وقائع الحياة السياسية العربية في أربعة عقود لعلها الأغنى والأروع والأتعس والأبأس في التاريخ العربي الحديث.
يحمل الكتاب الموسوعة عنوان »هموم العرب حكاماً ومحكومين 1963 2003 نصوص مختارة كنموذج للصحافة العربية العقلانية الوطنية الليبرالية من كتب وكتابات فؤاد مطر في »النهار« و»الأهرام« و»المستقبل« و»التضامن« و»الشرق الأوسط« و»اللواء« وهو في جزءين«.
بعدما يذهب الكلام إلى النوم
لا بد أن تأتي هذه المرة. لا يمكن أن تضيع الموعد والعنوان كرة أخرى أيها الذي ظله أكبر منه وخوفه أكبر من قلبه.
عيناك سكني، وعنواني بعد الليل بقمر وقبل الصبح بنجمتين، والدرب مفروشة بآهاتي فلا هي تضيع عن مصدرها ولا أنت تتوه في لظى بيدائها، والمنتهى مدى ممدود لعمر جديد.
الانتظار متعة في بداياته، لهفة مع انقضاء الزمن الأول، قلق في الزمن الثاني، وارتعاش مع حفيف أوراق الشجر أو مع الوقع الهامس لخطوات قطة تبحث عن ذكرها، ثم ينبلج الفرح بإطلالة الموكب البهي للحب الآتي وعداً بعمر جديد…
لا أدري كيف تتفجر ينابيع الكلام، مع أن للشفاه مهمات أكثر فصاحة وأرق عتاباً وألذ جواباً…
بعد جملتين يتعب الكلام فيذهب إلى النوم تاركاً للحواس الأخرى فرصة إثبات الكفاءة في تخدير الزمن لكي تنتعش الروح فيستدق الجسد حتى ليذوب في لمسة أو همستين. وحين تتساقط ارتعاشات الاحتراق في بحر العرق فيشتعل بها بدل أن تنطفئ به تكتمل دورة الفلك وينغلق الباب على الحكاية التي تجدد نفسها بالذكرى في انتظار أن تجيء بك قدماك إلى العنوان الذي إن ضعت عنه لا يضيع عنك، فهو تحت الحاجب بقليل وفوق الرمش بطرفة عين.
موعدنا خلف الليل والدرب عطر، والورد ينتظر الندى لكي يلون الأرض بالبهجة. يستحق الفرح استقبالاً لا يمكن أن يشتريه الملوك.
افتحوا شبابيككم فحبي مشاع، أغرف منه بلا انقطاع، ولكن فيضانه يغمر الأرض ويذهب إلى الناس جميعاً دون أن تنقص من نصيبي قطرة… وحبي منذور لأن يسقي العطاش، وأنا الأول بينهم والأخير.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ينتقل بالعدوى. وأنا فرح بمهمتي المباركة في نقل العدوى إلى أكبر عدد ممكن. أمس نجحت في نقله إلى أربعة، واليوم إلى خمسة. أخشى أن يذهب حبي كله إلى الآخرين وأبقى ورقة خريفية تطير بها الريح إلى الفضاء وتذروها فيه.
من يجيرني من حبي؟ من يوقف هذا التدفق ليبقى لي من الحب ما أعيش به لواحد فرد ولا أتوه في زحام الباحثين مثلي عن حب مفرد.