ذهبنا إلى نيويورك البيروتية فتعارفنا أكثر مما عرفنا..
… وحين بلغنا نيويورك اكتشفنا ان بيروت تحاصرنا من البر والبحر والجو، ويخفف »اهلها« عنا وعثاء السفر والتفتيش في المطارات وهو قد تطاول حتى غدا يشمل اضافة الى النوايا والافكار، الثياب والأحذية، فتخرج من »الحملة« وقد تبقى للقائمين بها بصماتك وصور لوجهك واخرى لحذائك ان كان له رنين!
وهكذا، حوصرنا بين بيروت السفير سامي قرنفل وعقيلته مي، التي تكرمت علينا بإشراكنا في مساحتها المحررة لندخن فيها معا، وبيروت السفير يحيى محمصاني الذي يعرف كيف يجمع من تفرّق من العرب، ثم بيروت برأسها ممثلا بسمير صنبر الذي لا نحيط به اذا ما اطلقنا عليه لقب »عميد الأمم المتحدة«، لأنه جمعها ومفردها في آن.
حوصرنا في دار الكلام، وهو المبنى الانيق بزجاجه الازرق الذي تحتشد فيه وفود مئة وتسعين دولة، ما عدا السهو والغلط، تحاول ان تأتلف وان تخفف من ايقاع خلافاتها حتى يكتب لجائعيها ان يُطعموا، ويأمن اهلها بعد خوف من تداعيات الاستقلالات الملغمة الحدود بالصراعات القبلية او الطائفية… أما حيث النفط فالحرب الاهلية حتمية تمهيدا لقدوم الاستعمار الجديد وريثا للاستعمار القديم الذي شاخ فلم يعد قادرا على مواجهة الانتفاضات وحروب التحرير وكاميرات الفضائيات وجيوش شركات النفط العملاقة.
تناوب على الكلام فينا حوالى العشرين من كبار القوم في الامانة العامة للأمم المتحدة… فأبهجونا بأحاديث مفرحة عن الأيدز والجوع وقوات حفظ السلام التي كثيرا ما تكون مهمتها الفصل بين الاخوة في الوطن، ووكالة الغوث التي باتت تطعم من موظفيها اكثر مما تطعم من اللاجئين الفلسطينيين.
لم يكن من حقنا ان نظهر التعب او السأم… فأحمد فوزي يحاصرنا بدماثته حتى الاستسلام بالابتسامة القاضية، فإن تعب أكمل حميد عبد الجابر المهمة، وإلا تولتها واحدة من السكرتيرات المؤتمنات على ابواب الجنة.
وتناوبنا على مناقشة الاوراق او الاحاديث المباشرة التي تستهدف إقناعنا بأن الأمم المتحدة لا تكرهنا كعرب، وليس لامانتها العامة، بكل من فيها، موقف عنصري منا، لا في فلسطين التي تنزف بلا انقطاع منذ ست وخمسين سنة في هذا المبنى، حتى ليكاد دمها يلوّن مياه نهر هدسون بالاحمر القاني، ولا في العراق الذي انفتح جرحا هائلا قد يلتهم كل منطقته قبل ان ينجح احد في اغلاقه.
***
كان المفروض ان نكون خمسة عشر صحافيا من مختلف ارجاء الوطن العربي بمشرقه ومغربه، لكن الذين وصلوا فشاركوا صاروا »دزينة« بعد انضمام حازم صاغية إلينا.
÷ كان معنا من تونس فاطمة عبد الله، الاستاذة الجامعية التي اغوتها الصحافة فاحترفتها والتي حملت معها التحية من طفلتها الى كوفي انان فرد عليها بتحية أرق مع رسالة تطمئنها الى غدها ممن ليس شديد الاطمئنان الى غده.
÷ ومن المغرب كان معنا العيسوي الذي تعامل مع الامر كمهمة وطنية جليلة فسأل كثيرا وارتضى بالاجوبة الناقصة حتى لا يثير ازمة دبلوماسية.
ومن مصر كانت معنا سميحة دحروج التي وجدت نفسها مستبطلة، حيث لا تستطيع »قناة النيل« ان تنقل بالصوت والصورة مداولاتنا الخطيرة.
÷.. ومن الاردن كان جورج حواتمه الذي ينوي التقاعد من رئاسة تحرير »الرأي« ليصير وزيرا، فإذا انتهت مدة توزيره حصل على تقاعدين وعاش في الهناء والنعيم بعيدا عن.. السياسة!
÷ كان يفترض ان يجيء اكرم هنية من فلسطين، لكنه لم يجد مخرجا من الوطن الأسير.
÷ اما »القدس العربي« فقد غابت بشخص عبد الباري عطوان لتتمثل في من يباريه حتى يبزه إثارة للفواجع: خالد الشامي.. وقد نجح في ان »يشعللها« بمعدل خمس مرات في الساعة.
÷ بالمقابل كان اياد ابو شقرا الذي جاء يمثل »الشرق الاوسط« يبحث في خريطة الأنساب بين الشعوب والأمم عن القواسم المشتركة فيطرحها كمخارج للأمم المتحدة من ازمتها.
وكان معنا من »الجزيرة« عبد الملك التريكي التونسي الذي وجد فيه الدكتور علي التريكي، مندوب ليبيا، ورئيس المجموعة العربية، قريبا، ووجدنا فيه زميلا مجتهدا، ووجد فيه »الأمميون« مناقشا شرسا مما يؤهله لمرتبة الصديق.
÷ اما روح »المقاومة« فقد تمثلت في الزميلة في »النهار« روزانا بو منصف، التي اقتبس والدها اسمها من فيلم »حصار طرواده«، ثم افترضت في نفسها الاهلية لحماية القلعة من خدعة الحصان المحشو بالمقاتلين، فوقفت كالديدبان على باب لبنان والقرار 425 تحميه ممن يحاول اختراقه بكسر قلم غسان تويني، الذي نتمنى له طول العمر وسط الملكات، سواء في المتاحف، ام في مكتبة »البرج« ام في »الدار الجديدة« التي اضافت الى قلب بيروت حيوية الاختلاف.
لقد ذهبنا فناقشنا، وعدنا بتفتيشين وكثير من الكلام، فليس في دار الكلام إلا الكلام!
لمحات شخصية
سامي قرنفل هو الدبلوماسي الذي يتعب في اختيار كلماته حتى لا يجرح احدا ولا يحرج احداً… اما عقيلته مي فهي السيدة التي تقول رأيها بشجاعة الفرسان، وتدخن بتحدّ للقوانين المجافية للحرية الشخصية وتترك لزوجها ان يتدبر الأمر بحنكته وبكياسته.
السفير قرنفل واحد من جيل اولئك الدبلوماسيين الذين كانت تكبر بلادهم بثقافتهم العامة وبفهمهم لموازين القوى فلا يدخلون حيث لا يمكنهم الخروج إلا بهدم الهيكل. وهو قد أشعر الصحافيين اللبنانيين بأنهم يستطيعون ان يتصرفوا مع زملائهم وكأن سفارة لبنان لدى الأمم المتحدة هي سفارة كل العرب.
÷ اما يحيى محمصاني الذي يعرف الكثير عن الجميع، والذي يعتبر انه مطالب بأن يربح العالم كله بالرأسمال المعنوي القليل الذي يحمله (الجامعة العربية)، فهو عريق في خبراته. ولقد حذف من قاموسه الخصومات، وصار همه الدائم ان يجد الحل الوسط بين عربيين لا يتفقان إلا في الدار الآخرة.
÷ وأما الثنائي الجميل الذي سيّرت لنا الفرصة ان نتعرف اليه، فيتكون من قنصل لبنان في نيويورك رامي مرتضى وزوجته جمال (بنت كفركلا) وبنت ابيها الذي جمع في اسماء ابنائه امنياته جميعا… منذ ايام فتح مكة الى عبد الناصر والوحدة. أما »السيد« ابن بعلبك فقد جمع في بيته العالم من اقصى كلوفيس مقصود الى اقصى ريتشارد مورفي.
عمدة الأمم المتحدة: سمير صنبر
… وسمير صنبر، هو حامل مفاتيح نيويورك/عمدة الامم المتحدة، العاشق الذي تعبت منه النساء ولم يتعب، وهو يبحث عن الحب المستحيل.
من يوثانت الى فالدهايم، ومن دي كويار الى بطرس غالي، ومن كوفي انان الى كوفي انان: اكثر من ثلاثين سنة في عالم المئتي جنسية والمليون حلم والمحيطات من التمنيات والاماني.
عرف الكبار لكنه لم ينس كيف يتعامل مع »الزملاء الصغار« الآتين الى البحث عن المتاعب، وعرف اصحاب المواقف حتى نسي كيف يتعامل مع باعة الاصوات.
سمير صنبر الأممي في نسائه، العربي في انتمائه، الفلسطيني في ايمانه بالحق، اللبناني في استصغاره الكبار: تزدحم شقته بحكايات العشق وذكريات المواقف الحرجة، واسماء السياسيين الكبار الذين صنعوا تاريخ الثلث الاخير من القرن العشرين.
مشاريع كتب صفحاتها بيضاء لأن سمير صنبر لا يريد ان يترك الحياة الى الذكريات، ويفضل ان يروي شفاهة، مع تعليقاته الطريفة، وضحكاته المتقطعة، من ان يجمّد تلك الحوادث الكبرى والاحداث الجليلة في كلمات تعجز عن حملها.
البرج باسم همرشولد.. لكن الشقة تذكر ببابل اكثر مما تذكر بالسويد… وسمير هو الصديق الذي تسافر اليه فيجيئك بالمدنية العالم.
عرف الالوان البشرية جميعا: الابيض والاسود والاصفر والاسمر.. وعرف الدول عبر رموزها. وعرف السياسات عبر صانعيها لا صنائعها. شغلته نيويورك عن نفسه وغرق في غياهب الجمال الأممي فنسي ان يتزوج لحيرته بين النساء: ايهن الاجمل؟ ايهن الاذكى؟ ايهن التي تستحق ان تكون معها نهاية هذا الذي يبحث دائما عن البداية.
سمير صنبر: الدمث، الفائق التهذيب، حتى في خصومته، الذي يعرف اكثر مما يجب، عمن لا يجوز ان ينكشف سره للعامة او الدهماء من دول العالم الثالث… سمير هو الآن خارج عالم كوفي انان، لانه يعرف اكثر مما يجب، لكنه داخل المبنى الازرق الانيق من زجاج لأنه بعض ركائزه وبعض ماء النهر الذي يسري عند »جذوره«.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
اعظم الاعترافات هي التي تقال بكل اللغات ما عدا الكلام. اللمسة حب، الهمسة حب، النظرة حب، الاهتمام حب، العقاب احيانا حب، التجاهل المقصود احيانا حب. الحديث بلغة الجمع حب مفرد.
حبيبي يتقن اللغات جميعا… وانا في معهده أتعلم حروف الهجاء!
