سميح الصلح: إدارة السياسة كاختصاص لأبناء العائلات
لآل الصلح روايتهم الخاصة لتاريخ استقلال الكيان السياسي في لبنان.
لقد لعبوا بشخص رياض الصلح ومعه الأخوان تقي الدين وكاظم دوراً تأسيسياً في ابتداع المعادلة العبقرية »للصيغة الفريدة« التي تجسدت في »الميثاق الوطني« الذي لم يكتب أبدا.. والى هذا الميثاق ارتكز البيان الوزاري للحكومة الاستقلالية الأولى، وقد تضمن الفذلكة الشهيرة: »لن يكون لبنان للاستعمار مقراً أو لاستعمار أشقائه العرب ممراً«.. كما تضمّن الفذلكة الأخرى التي تنص على ان »لبنان ذو وجه عربي«، والتي اعتمدت في قبول الانتساب إلى جامعة الدول العربية (وقد تم تأسيسها في العام التالي لاستقلاله) مع الاصرار على استثنائه من أي دعوة أو مسعى إلى دمجه في أية وحدة عربية.
… وها هو صلحي آخر يقدم طلب الانتساب الى نادي القلم، بعد كاظم وتقي الدين والمفكر الكبير منح: انه سميح الصلح، الذي أمضى أكثر من نصف عمره في الإدارة، بداية من مجلس النواب إلى وزارة الداخلية التي كادت ترافقه الى بيته عند تقاعده وهو يشغل فيها منصب المدير العام ومعها كعمل إضافي محافظ جبل لبنان!
»كتاب سميح الصلح خمسون عاماً بين الإدارة والسياسة«.. ولو انه توخى الدقة لجعل العنوان »إدارة السياسة«… ذلك انه يروي في كتابه لمحات من تاريخ الكيان اللبناني وكيف تدرج من ملجأ للطوائف المهاجرة أو اللاجئة أو المقاتلة، إلى إمارة، ثم كيف تحول بالفتن إلى متصرفية، بالضغط الغربي على السلطان العثماني، إلى ان وسع الفرنسيون كيانه وجعلوه »دولة لبنان الكبير« ثم جمهورية لبنان تحت الانتداب، إلى ان وفرت الحرب العالمية الثانية الفرصة لاستقلاله السياسي.
وعبر تاريخ الكيان تتوالى الصفحات عن تاريخ العائلات السياسية، لا سيما بعد إقامة »الجمهورية« ثم في الحقبة الاستقلالية الأولى: آل الصلح، آل الخوري، آل إده، آل سلام، آل كرامي، آل الأسعد، آل الداعوق، آل بيهم، آل جنبلاط، آل أرسلان، آل عسيران، آل شمعون… الخ.
على ان رياض الصلح يظل »المحور« الأهم لتاريخ الاستقلال السياسي للكيان اللبناني…
أما فؤاد شهاب فهو قائد الاصلاح الإداري، فضلاً عن كونه رمز العودة إلى التوازن السياسي في الجمهورية المضطربة صيغتها بفعل الخلل الداخلي، كما بفعل التيارات التي عصفت بالاستقرار في المنطقة بعد اقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وعلى حساب شعبها.
ولأن سميح الصلح ينتسب إلى العائلة المتصالحة مع نفسها ومع الجميع، والتي أعطت أربعة رؤساء للحكومات اللبنانية على اختلاف العهود، فهو يستذكر جميع العهود وجميع الرؤساء وجميع الأقطاب، فلا ينسى منهم أحداً، ولا يسيء الى ذكرى أحد… بل إنه يعتمد قاعدة أن الصلحيين يتسعون للجميع، ويعرفون كيف يحفظون شعرة معاوية حتى مع من يتخذهم خصوما، كما يبتدعون الشعار البراق والمقنع لكل مرحلة ولكل الأطراف.
… وهو لتعزيز هذا الانتماء إلى مدرسة »كلهم أخوتي« قد اختار لتقديم كتابه هذا أحد فلاسفة التوازنات وأحد الناجحين في تطبيق سياسة »كن معهم ولا تكن منهم«: الرئيس الراحل شارل حلو.
إنها إطلالة شاهد على زمنه السياسي، من الباب الإداري، ومحاولة »متوازنة« لتفسير بعض ملامح ذلك الزمن حيث كان »أبناء العائلات« يشكلون قواعد الثبات أو ركائز الاستقرار للنظام.
في منطق سميح الصلح فإن »في لبنان أكثر من أي بلد آخر يرتبط العمل الإداري بالعمل السياسي من ناحية وبالتوازن الطائفي من جهة ثانية«.
من الطرائف التي استعاد المؤلف روايتها من بين الوقائع التاريخية المصاحبة لسعي الاستقلاليين إلى رفض الانتداب الفرنسي، أوائل العشرينيات، ما نقله عن لسان سليم علي سلام (أبو علي): »فاتحني بعض الأصدقاء في ولاية بيروت وأبدوا رغبتهم في طلب الانضمام إلى مصر تحت الحماية الإنكليزية«!
التوازن، التوازن، التوازن: في السياسات، في الإدارة، في حقوق الطوائف، تلك هي القاعدة الصلحية الدائمة… وسميح الصلح هو أحد أبنائها بقدر ما هو أحد المبشّرين بها.
حكمة سليمان… يوازن العشرة!
… وكتاب آخر لأحد التلامذة النجباء لمدرسة »التوازن« ولأسلوب الكتابة المميزة التي تعتمد »الكلمة الطيبة« وتجنب »السيئات«، هو الذي أنتجه أخيراً الزميل حكمة أبو زيد عن تجربته التي امتدت »31 سنة في السرايا«، والتي عمل فيها مع عشرة رؤساء للحكومة (بعضهم صار صاحب دولة أكثر من مرة)، والتي انتهت مع انتهاء دوام العمل يوم الثلاثاء 27/8/2000.
لقد وصفهم فأنصفهم: دولة الأفندي (رشيد كرامي)، دولة الزعيم (صائب سلام)، دولة من دون الثقة (الدكتور أمين الحافظ)، دولة الطربوش (تقي الدين الصلح)، دولة النمرود (رشيد الصلح)، دولة العسكري (نور الدين الرفاعي)، دولة الموقف (الدكتور سليم الحص)، دولة المظلوم (شفيق الوزان)، دولة الثالث (عمر كرامي)، وأخيراً دولة المشروع (رفيق الحريري).
بعد خمسين عاماً في الصحافة التي أخذها (مع أخوته) عن أبيه الراحل سليمان أبو زيد الذي أنشأ جريدة حفظت علاقات طيبة مع الجميع (حتى وهي تعبّر عن موقف محدد)، وبعد ثلاثين عاما ونيف مع رؤساء الحكومات في ظروف مضطربة وصلت الى حدود الزلازل، سمع رأيهم وكتب لهم وكتم أسرارهم، وكان لهم المستشار الذي لا يخون الأمانة، من الطبيعي أن يكتب حكمة أبو زيد بالقلم الذي لا يجرح ولا يسيل العتاب ولا »يشمّت العدا«!
العبقرية كانت أن حكمة أبو زيد احتفظ، هو بالذات، بتوازنه، وهو ينتقل وقد أغلق صدره على أسراره، من صاحب دولة إلى صاحب لها آخر ولكنه مخاصم لمن سبقه ولمن تبعه.
التوازنات تحتاج إلى حكمة… فكيف إذا كان الوالد سليمان؟
أمل جراح: انطفاء موال الشجن
لم أكد أستقر في مقعدي في الطائرة اللبنانية العائدة بنا من لندن، حتى اقترب مني ذلك الشاب في المقعد المقابل، وقدم نفسه: انت لا تعرفني ولكنني أعرفك من خلال أهلي، أنا ابن ياسين رفاعية وأمل جراح…
فرحت بلقاء ثمرة الحب الاسطوري النازف وجعاً والمتدفق شعراً.
سألته بلهفة: وما أخبار الوالدة..؟ أشار بيديه وبعينيه وبملامح وجهه قبل ان يرد بنبرة حزن: هي عند النهاية. ليس لها ولنا الا الله.
كنت انتبهت متأخرا الى استخدامي كلمة »الوالدة«، بينما لم نتعود ان نشفع اسم امل جراح بغير التأسي والاشفاق وتقدير الصمود في مواجهة المرض الدائم والتنقل بين الاطباء والمستشفيات واللقاءات الباكية مع ياسين رفاعية.
قال الفتى الآخذ سمرته من ابيه وابتسامته من أمه المقاومة بالشعر المرض الذي اعجز الاطباء شفاؤه: اريد ان اعرفك الى زوجتي…
شهقت: ولكننا نتعامل مع أمل وياسين كأنهما عاشقان ابديان عز عليهما الزواج في قلب الوجع..
لم يتأخر خبر انكسار الناي وانطفاء موال الشجن الذي رافقنا ردحاً من زمن الحزن الذي يجرجرنا بين الآمال الموءودة والهزائم المدوية.
جاء زمن الصمت… وآن لياسين ان يقول ما كان يحبسه البكاء.
لا أريد الحكاية… أريد أن أكونها!
قصيراً كان اللقاء: بدأ مصادفة، وامتد بالقصد، ثم انتهى مبتوراً خلافاً للرغبتين. لا وقت للعواطف مع المهمات الجليلة لمؤتمرات مكافحة الإرهاب!
لم تكن المصادفة تتسع للهمس… والكلمات المقطعة باللهفة عند باب الخروج قد تدغدغ غرور الاسم لكنها أضيق من ان تحمل فتوصل كل تلك المشاعر المحبوسة منذ زمن بعيد في صدر الغربة والهجر والتقصد في تهجين الذات التزاماً بتأدب الغريب، »حتى بتُّ لا أعرفني«.
هي العودة في اتجاه الشمس؟ هي رائحة البحر؟ هي مساحة الاجازة والتخفف من اليوميات المتشابهة التي يضبط ايقاعها العمل لتأكيد »الاستقلال« و»الانسجام بغير تبعية«؟ هي متعة اكتشاف النفوس الضعيفة للاسماء الكبيرة؟ أم تراها فرصة استعادة الدور المنسي داخل شرط النجاح في مجتمع »الآخرين«… وفرصة التلاقي مجدداً مع الوجوه الأليفة التي تسكننا من قبل ان نعانقها؟!
هي، قبل ذلك كله، العودة باللغة إلى المعنى… هي العودة إلى صيغة الجمع والسباحة في دفء من ظلوا على البعد الأهل والوطن!
لا تنظرني في الاسود. جاء بي الفرح، ولكن الخوف من ان يكون بحر بيروت قد جف أو هاجر جعلني أخبئ لهفتي الموردة في صدري.
كان يسمع بعينيه فأكملت بشيء من التهيب:
كنت أتحسب لسقوط الصاعقة… أمشي بحذر، أنظر أمامي ولا ألتفت الى من حولي. كنت أتحسس طريقي بعطري فهو عنواني. كنت اعيد اكتشاف ذاتي والتثبت من ان الطفلة المشاغبة ما زالت تتنفس وعندها القدرة على الشغب.
غالب صمت الراغب في الاستزادة بترحيب تقليدي، أحسه بارداً، وكانت قد بلغت تخوم الاعتراف، فهربت الى المجاملة، وشيعها عند انصرافها، وهو يكاد يتعثر باعتذار كان يعرف انها لن تسمعه.
ليلة الوداع طال السهر… واتسع المدى أمام شيء من الاعتراف عبر الآهات استدرّها الصوت الجميل الذي امتد ارجوحة للنشوة، فنسيت غربتها ونسي اسمه. قالت: لا اريد الحكاية… اريد ان اكونها. قال: إنما أنا الراوية، وعليّ ان أبتر النص تاركاً لأبطالها ان يصنعوا خاتمة ابهى من قدرتي على التخيل. اجمل الخواتيم هي التي تعاش ولا تُحكى. العناق اجمل من وصفه، ومن يحب يَعِش حبه ويترك الرواية لغيره.
عبقت القاعة بالنغم الشجي والذكريات التي لن تعود، واللفتات التي ستغدو سطوراً في الحكايات الجديدة، وقرأ الصوت الجميل الافكار والتمنيات فشدا بها تاركاً عبقها لنسمات الفجر الباردة تحملها فتذروها وروداً فوق بحر بيروت بينما طيور الحزن تستعد لاستئناف الهجرة إلى ما خلف الثلج…
وعند باب الوداع أعول الصمت في القاعة التي كانت قد اشتعلت حتى الاحتراق بمسحوق الهمس الحميم… وضربت العيون موعداً جديداً في قلب الشعر.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
طريف أن يخترع التجار عيداً للعشاق. ولكن الحب لا يشترى من الدكاكين. حبيبي هو العيد، ولقاؤنا خميلة ورود. الدكاكين لا تبيع الحب والروزنامة لا تحدد مواعيده. موعدنا معلق بين همستين!