عبد العزيز الرنتيسي: المبعد العائد المجاهد بوجه الشهيد!
لم يكن القصد من الزيارة الأولى تسجيل سبق صحافي، ولم نذهب إلى واحد بالذات من الأربعمئة »مبعد« لسابق معرفة به، أو توكيداً لصداقة قديمة منع الاحتلال تواصلها بالقهر: كان الهدف، ببساطة، التبرك بمصافحة أولئك »المجاهدين« الذين قررت سلطات الاحتلال طردهم من أرضهم و»رميهم« داخل الحدود اللبنانية وبعد آخر حاجز لقوات الطوارئ الدولية، في مرج الزهور، مقابل قرية ميمس المحاذية لقرية الكفير عند النهايات الجنوبية للبقاع الغربي.
كان واضحاً، منذ اللحظة الأولى، أن »المبعدين« على قدر عال من التنظيم، يحسبون كل تصرف، ويختارون كلامهم بعناية فائقة وهم يواجهون، إضافة إلى الصحافة اللبنانية، أجهزة إعلام دولية كانوا يفترضون أنها تضم بين العاملين فيها ولها نسبة من »المخبرين« المرتبطين بشبكات مخابراتية يختلط فيها المحلي بالأميركي بالإسرائيلي بغير حدود.
ولقد لازمنا شعور محدد طوال الوقت الذي أمضيناه مع هؤلاء الرجال السمر الوجوه بأننا في صحبة شهداء يتعجلون موعدهم للانغراس في أرضهم المباركة.
كانوا نخبة من شباب فلسطين، الضفة الغربية وقطاع غزة، فيهم الطبيب والمهندس والمحامي وأستاذ الجامعة، وفي جمعهم عدد لا بأس به ممن اعتقلوا أكثر من مرة، وقدموا للمحاكمة في أكثر من قضية، وأمضوا في السجون والمعتقلات الإسرائيلية شهوراً أو سنوات… لأنهم فلسطينيون!
أما الكلام »الرسمي« فكان لواحد اختاروه من بينهم ناطقاً رسمياً: الدكتور عبد العزيز الرنتيسي.
انتقلنا من خيمة يحتشد فيها جمهور الآتين للتبرك أو للتضامن الى خيمة أخرى سرعان ما ازدحمت بالزوار، فاقترح الدكتور الرنتيسي أن نتمشى في »العريض« حتى نجد صخرتين متقاربتين نتخذ منهما دار حوار.
وأذكر أنني عدت من اللقاء الأول بانطباع غير مريح: كان الرجل شديد التهذيب دقيقاً في اختيار كلماته، حريصاً على عدم استخدام تعابير مستفزة، يتحاشى الخطاب الحماسي المألوف، حتى إنه قد تجنب الإشارة إلى إسرائيل كقوة احتلال، وإن كان المعنى واضحاً في كل ما قاله… ثم إن خطابه كان »إخوانياً« بالكامل.
في اللقاء الثاني تصرف الدكتور الرنتيسي كصديق قديم.
أما في اللقاء الثالث فقد تركز الحديث على المستقبل. وتحدث الرنتيسي بثقة: سنعود لنتابع الجهاد مع إخوتنا داخل الأرض المحتلة. لقد خدمنا الاحتلال بهذا الإبعاد الذي أراده عقوبة جماعية فأفدنا من مناخ لبنان لطرح قضيتنا على العرب والعالم. لقد ربحنا معركة الرأي العام، وهذا عامل ضاغط على العدو. سنعود، والأهم أنه سيضطر إلى إعادتنا بغير أن نقدم أي تنازل.
تكرّرت اللقاءات مسقطة التحفظات السياسية بين قيادي في الحركة الإسلامية، أي الفرع الفلسطيني لحركة الإخوان المسلمين، وبين صحافيين عروبيي الهوى والمعتقد. كانت فلسطين المقاومة أرض اجتماعنا. وبدلاً من الخلافات العقائدية ترسخ الإعجاب بصلابة هؤلاء المجاهدين، خصوصاً أن الرنتيسي كان يؤكد، في كل لقاء، أن الخلافات مع منظمة التحرير ومع قيادة »فتح« تحديداً لن تتفاقم دافعة »الشعب اللاجئ في بلاده إلى أتون الحرب الأهلية«.
وقبل أن يغادر »المبعدون« لبنان عائدين الى أرض جهادهم، تقصّد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي أن يخص »السفير« بلفتة عبر رسالة رقيقة أكد فيها على مبادئ حركته ومواقفها السياسية التي أظهرت الأيام أنها ما زالت تلتزم بها حتى اليوم، وأبرزها:
»لن تعتمد الحركة أسلوب العنف الذي يؤدي الى حرب أهلية بين الفلسطينيين تدفع الى تكريس الاحتلال، لأنه سيقال عندها: لا يصلح لهم سوى الاحتلال.
»لن تشارك الحركة في انتخابات تؤدي الى إدارة ذاتية لا سيادة فيها على الأرض أو حتى على الإنسان، وتكون السلطة الفلسطينية مجرد إدارة تنفيذية.
»ثم إننا لن نشارك لسبب مبدئي: فدخول الانتخابات يعني الاعتراف بدولة إسرائيل، والحركة الإسلامية تؤمن بأن أرض فلسطين أرض إسلامية أو وقف إسلامي ولا يجوز لفرد أو منظمة أو دولة أو جيل مسلم أن يتنازل عنها لأنها ملك الأجيال المسلمة حتى قيام الساعة.
»لن تقوم دولة فلسطينية عن طريق المفاوضات… وأي مشروع يكون على حساب التنازل عن باقي الأرض الفلسطينية هو مشروع مرفوض من قبلنا«.
أما عن تمويل حركة »حماس« فقد قال الدكتور الرنتيسي: للحركة الإسلامية دور في ذلك، هي التي تدعم حركة »حماس«.
وغاب عنا هذا »المبعد« الذي له وجه الشهيد، لكنه ظل حاضراً دائماً بموقفه.
أمس والدكتور عبد العزيز الرنتيسي يتحدث من المستشفى، وإلى جانبه نجله الذي جرح معه في محاولة الاغتيال التي نفذتها طائرات الأباتشي الإسرائيلية، كان وجهه يضيء بإيمانه، وكانت كلماته أقوى من الصواريخ التي استهدفته لتقتله ومن معه ومن في الشارع من رجال ونساء وأطفال.
تحية الى هذا الذي نذر نفسه للشهادة، مثل عموم شعبه في الأرض الفلسطينية المحتلة، والذي يثبت اليوم كما أثبت بالأمس أن المجاهد أقوى من الموت، وأن إرادة التحرير أقوى من كل أسلحة الدمار الشامل التي يملكها ويستخدمها الاحتلال الإسرائيلي!
الملاك الإسرائيلي الحارس للولد الطايع وإخوانه…
يستطيع الحكام العرب الخائفون على عروشهم أن يطمئنوا الآن، وأن يهدئوا من روعهم، وأن يطردوا الوسواس الخناس الذي يكاد يحرمهم من نعمة النوم والاستمتاع بما بين أيديهم من سلطات مطلقة وثروات حرام لا تأكلها النيران، بل تأكلها نوادي القمار وبيوت اللذة والمضاربات بالأسهم و»الشرهات« التي يصنفها القانون رشى ويعاقب عليها المانح والمستفيد!
ومن غرائب المصادفات أن الطمأنينة قد جاءتهم من حيث لا يتوقعون: من موريتانيا التي يقول أهلها الشعر من قبل أن يعرفوا الكلام، والتي لم يترك حاكمها معصية (وطنية قومية) إلا ارتكبها بغير أن يرف له جفن: من مطاردة الوطنيين والعروبيين والإسلاميين ورميهم في السجون أو الى المنافي، الى احتكار الثروة والسلطة والسلاح، الى استبدال الهيمنة الفرنسية بهيمنة أميركية، الى تجاوز الحد بالاعتراف بالكيان الصهيوني وفتح البلاد الفقيرة والمفقرة أمام الإسرائيليين فضلا عن الأميركيين.
لقد حاول بعض »المتطرفين« و»قصار النظر« الذين يأخذهم طموحهم وشبقهم للسلطة الى الغلط، أن يخلعوا القائم بالأمر، لكن ولد الطايع أثبت أنه ليس ولدا وليس طائعا، وانه لا يعتمد في حماية عرشه على العناية الإلهية بل على المخابرات الإسرائيلية والحماية الأميركية.
وهكذا، وخلال ساعات، أمكن القضاء على المتمردين، وتدمير القوى العسكرية التي استطاعوا تجنيدها، وعاد ولد الطايع الى قصره، ومنه خاطب رعيته فطمأنها الى سلامته والى استمراره في موقعه الذي أمضى فيه حتى اليوم نحو عقدين من الزمن توكيدا لإيمانه الثابت بالديموقراطية وحق الشعب في حكم نفسه بنفسه، وتداول السلطة بين نخبه.
بعد اليوم يستطيع حكام الهزيمة والتنازلات المفتوحة أن يناموا هانئين: فالملاك الإسرائيلي الحارس يسهر على راحتهم، والقوات الأميركية المنتدبة نفسها للمهمة المقدسة، حماية الديموقراطية في البلدان المتخلفة، جاهزة للتدخل وقمع أعداء الديموقراطية الذين يريدون انتزاع السلطة بغير الأساليب الديموقراطية من الرجل الذي انتزعها من »أسلافه« بالدبابات.. أي بأرقى ما وصلت إليه تقاليد الديموقراطية!
صار للديموقراطية الأميركية المصدرة الى دنيا العرب ملاكان حارسان بدل الملاك الواحد؛ فقد انضمت المخابرات الإسرائيلية الى المخابرات المركزية الأميركية لأداء مثل هذه المهمة الجليلة، وبالقوة، متى تطلب الأمر ذلك: لماذا الطائرات والصواريخ عابرة القارات والحوامات والدبابات والمدفعية إن لم تستخدم في حماية »الأصدقاء« من قادة الديموقراطية في العالم العربي الذي ما زال قابعا في عتمة التخلف الديني والسياسي والاجتماعي؟!
في العراق كان صعبا إشراك إسرائيل علنا في حملة الاحتلال بأرقى وسائل الديموقراطية (صواريخ كروز وطائرات ب 52 والقنابل العنقودية وطوابير المارينز والقنابل الذرية الصغيرة والنظيفة جدا، بحيث لا تبقي دليلا ماديا على استخدامها الإنساني النبيل)…
أما في موريتانيا فمن حق إسرائيل أن تنقذ »رجلها«، و»قاعدتها« التي تمسك بمفتاحي الحركة في المغرب العربي وغرب أفريقيا جميعا.
لقد أحدثت محاولة الانقلاب في »نواق الشط« هزة عنيفة، كان يمكن أن تتحول الى زلزال يذهب بمعظم حكام الهزيمة الذين يعيشون في قلب الخوف المثلث: الخوف من شعوبهم، والخوف من جيوشهم إن هي انحازت الى قوى التغيير، والخوف من السيد الأميركي وحليفه الإسرائيلي الذي يدعي لنفسه قدرات أسطورية.
بعد اليوم يمكن لحكام الهزيمة أن يطمئنوا: سيقيمون على أبواب الثكنات حراسا من إسرائيل في حين يتكفل الأميركيون بكشف حركة النمل بواسطة أقمارهم الصناعية التي تملأ كبد السماء بالعيون التي لا تنام!
بوليصة التأمين الجديدة لحكام الهزيمة لها اسم محدد: ولد الطايع. ويمكن تجاوزاً أن نعتبرهم جميعاً من بطون هذه العشيرة المجيدة وأفخاذها، ولد طايع، وولد مطيع، والطايع ولد مطيع، والمطيع ولد المطيع ولد الطايع.
… وطاعة الله إرهاب، أما طاعة إسرائيل فحصن الأمان والقلعة التي لا يأخذها وطني أو قومي أو مسلم حنيف أو ساذج يفترض أن الدبابات سلاح غير ديموقراطي!
حكاية عن الحب والحرب
عبرت أفقه كالشهب. بالكاد التقطت عيناه ملامحها وهي تغادره وقد غرق في بحر عطرها.
جاء شتاء عظيم البرق، وبعده جاءت شموس كثيرة، ومع الخريف وجد نفسه ذات مغيب محاصَرا بالشهب.
قالت: في بلادي يندر المطر، لذا تتقصف شجيرات الحب قبل أن تسمق عيدانها معرّشة على حبال الضوء، وقبل أن تمد ظلالها وارفة لتحمي عاشقين من هجير الجاهلية. لا حياة للمفرد في بلادي.
وقالت: في البلاد البعيدة يندر ظهور الشمس، فيلجأ كل الى حضن الآخر طلبا للدفء. المفرد يصير اثنين… يصير عالما من البهجة.
وقالت: الحب في بلادي حكاية مبتور رأسها بالسيف. الحب يعني حرب الكل ضد العاشق الفرد. في البلاد البعيدة احتربوا طويلا، حتى صار الواحد لواحد. صاروا أكثر احتفاء بالحياة. لكأنهم يعوضون بطوفان العشق عن الذين قُتلوا قبل أن يعرفوا الحب ويتجملوا به.
وقالت: هل كُتب عليّ أن أنتظر الحرب لكي أعرف الحب؟! ما لك غارق في صمتك أيها الجبان.. هيا الى الحرب حتى لا نخسر زمنا آخر.
ونشرت خيمتها التي طالما انتظر مفردها الاكتمال.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
حين شكا حبيبي من أنني أعامله معاملة الطفل عرفت ان حبنا راسخ، ولن يتأثر بمرور الزمن. للعاشق قلب طفل، وهو يتوقع ان يلقى في معشوقه ذلك المزيج السحري الذي يبتدعه الحب: فإذا المحب أب جبار حيناً، وجد رقيق الحنو حيناً، وطفل يحبو أحياناً يخاف البرق ويطلب الحماية من صوت المطر.
لشد ما يمنعني أن يجذبني حبيبي من طوقي حتى لا يغرقني المطر!