طلال سلمان

هوامش

من المهدي بن بركة الى الباهي محمد وبينهما الفقيه البصري

فقدت الأمة العربية، قبل ثلاثة ايام، واحدا من فرسان نضالها القومي التحرري التقدمي هو القائد المغربي محمد البصري، الذي طالما عرفناه ب»الفقيه«.
… ولقد فقدت، بغيابه، صديقا كبيرا. بل لعلني لا أبالغ ان قلت انني وكثيراً غيري قد فقدنا »استاذاً كبيراً« في السياسة فضلاً عن تاريخه الطويل في الجهاد.
هل من المبالغة ان أقول ان عروبة المغرب قد فقدت داعية ومبشراً مستنيراً لطالما حمل روحه على كفه وقاتل من اجل وحدة المغرب العربي، بأقطاره جميعاً من تونس الى موريتانيا، كمرحلة تأسيسية للوحدة العربية التي ظل على إيمانه بها بوصفها طريق التقدم والمنعة والديمقراطية لمجموع هذه الملايين المضيعة والممزقة الأواصر من العرب؟
… خصوصاً وقد تعزز هذا الايمان بالعروبة التي صنعت في مصر ثورة عبد الناصر وجعلتها الرابط العضوي بين المشرق والمغرب.
كان اول من عرفت من المغاربة، في اوائل الستينيات، القائد الشهيد المهدي بن بركة، الذي اغتالته المخابرات الملكية بالتواطؤ مع المخابرات الفرنسية في باريس.
ومن المهدي بن بركة سمعت كثيراً عن الفقيه البصري… ثم سمعت عنه اكثر من الباهي محمد، حتى إنني عندما التقيته اول مرة، بعد ذلك بسنوات، وفي باريس، تصرفت وتصرف! وكأننا صديقان حميمان منذ قديم الزمان.
ثم كان ثاني المغاربة الكبار صديقي وزميلي الذي تعلمت منه الكثير، في اللغة شعراً ونثراً، وفي المهنة كتابة وتحليلاً، وفي التعامل مع الحياة وسحرها الذي لا يحد: الباهي محمد… وهو الذي جمعني بالكبير الثالث الفقيه البصري.
ولقد تعددت لقاءاتنا الثلاثية، في باريس: الفقيه وأمير الصعاليك وطالب العلم…
كنت اسعد بكل لقاء جديد، خصوصا أن حوار »المغربيين« اللذين لا يخفيان هواهما المشرقي، كان مشوّقاً وممتعاً، بالأخبار فيه والتحليلات التي تصدر عن معرفة بالناس ملوكاً وكبراء وخفراء والارض، وسياسات الدول، ثم بذلك العبق الثقافي، فضلاً عن الرقي الذي كثيراً ما نفتقده في سياسيينا ومثقفينا في المشرق العربي.
أمتع حوار استمعت إليه كان حول العرض الملكي الذي تلقاه الفقيه البصري من الملك الحسن الثاني يبلغه العفو عنه وإسقاط احكام الاعدام الغيابية (وهي بالجملة)، والترحيب به في بلاده!
ولقد انتهى الحوار المشوّق بجملة ترن في اذني دائماً: ليس من حق احد، بمن في ذلك الملك، ان يحرم مواطناً من وطنه. لن أعود بعفو خاص، ولن اقبل منة ملكية تعترف بمغربيتي التي لا يستطيع ان ينزعها عني احد، بمن في ذلك امير المؤمنين. لي في المغرب اكثر مما له، فلن اقبل تفضله عليّ بحقي البديهي!
وعند الباب، التفت الفقيه الى الباهي وقال بلهجة الآمر: أما أنت فاسمع كلام طلال، وعد بأسرع وقت.
… بعد وقت عاد الباهي فعلاً، فترجل في المغرب، بين اهله.
… وها هو الفارس العربي »الفقيه« يترجل، أخيراً، في المغرب، بين اهله.
هل مقدر على المناضلين في بلادي ان يعيشوا تحت سيف الارهاب او في السجون الملكية في الوطن، او ان تقتلهم الغربة في المنافي، فيعودوا إلى الوطن ليموتوا فيه، وكأنه »مقبرتهم« وليس شرف حياتهم الباقي؟!
لماذا كلما غاب مناضل تعاظمت ظلال جمال عبد الناصر في أفق دنيانا؟

ميشال عفلق… يعود إلى البعث!

أعادت دبابات الاحتلال الاميركي للعراق الاعتبار الى ميشال عفلق. لقد تعاملت معه كأنه »قلعة معادية« فدكت ضريحه دكاً حتى أزالته عن وجه الارض التي دفن فيها قهراً.
وهكذا اكتملت في الغياب الصورة التي لما تكتمل في الحضور.
وربما كان من حظنا ان تُواجه افكار البعث والتغيير والطموح الى الغد الافضل بدبابات الاحتلال، اميركياً كان او اسرائيلياً، بدل ان تنقض عليها قوى الطغيان المحلي بادعاء رفعها الى سدة السلطة!
لقد عاد ميشال عفلق »مبشراً بالبعث«، لا مقتولاً بسلطته المدعاة! … واستعاد »مبعوث العناية الالهية« وجه »الاميركي البشع«.. أما صدام حسين الذي قتل ميشال عفلق »بحبه« فقد تبدى كأنه قد وفر للاحتلال الاميركي الذريعة، في حين لم يقدم للبعث إلا ضريحاً!.

بياعو الأفكار في عصر دبي…

إنه عصر دبي! إنها المدينة المن ذهب. هي السوق المفتوح على أربع رياح الدنيا: كل من حضر باع او اشترى، وللفقراء شرف الفرجة، وهو يكفيهم وزيادة!
.. ولأنها سوق فالوقت فيها استثمار، إن لم تفد منه ضاع منك وربما ضيعك!
لا هي تسألك عن »موقفك«، ولا تعنيها آراؤك في السياسة، دولية او عربية، أما محلياتها فلا. لا تشغلها الشعارات، ويضيق وقتها عن النقاش العقائدي، ذلك كله ترف، ثم انها بضاعة كاسدة لا تحدث رواجاً في السوق ولا تحقق لصاحبها أرباحاً.. والشعارات السياسية هدر للوقت، والوقت مال.. لذا يضيق عنها النهار، ولا يتسع لها الليل الذي تذوب عتمته في بحار النور، فلا يتبقى منها الا ما يستر رغبة او يقيم خيمة لعاشقين لا يفهمان من قواعد الربح إلا التلاقي!
لأهل الثقافة والأدب والفن الرفيع تلك »الجزر« المتبقية في أبي ظبي، وأولها وأخطرها »المجمع الثقافي« الذي تتهدده قواعد الربح والخسارة، ثم هناك الدواوين المتناثرة في بعض أنحاء الإمارات الفقيرة… فالثقافة اليوم، كما كانت دائما، جلابة الإفلاس!
العروبة علامة فارقة في دبي، كما الكوفية والعقال في الشوارع والأسواق، ليست هي الهوية تماما، وإن كانت امتيازا لأهل البلاد الاصليين تؤكد أنهم أصحاب القرار حتى لو لم يكونوا الأكثرية العددية… ولن يجرؤ أحد على أن يعيّر أهل دبي بأن عديدهم قليل!
»البضاعة« الجديدة في سوق دبي هي: الأفكار!
هات فكرة استثمارية جديدة وخذ من المال ما يرضيك او ربما ما يغنيك إلى ولد الولد!
وليس أكثر ممن لديهم أفكار، قد تبدو مجنونة وقد تكون ساذجة، ولكنها أيضا قد تكون جلابة للربح، فما المانع من تخصيص ركن لشراء الأفكار ومن ثم تصنيعها وإعادة تصديرها، او تحقيقها على الارض وإضافة أصناف جديدة (مفتقدة) الى السوق الذي يبيع بالجملة، ويبيع بالمفرق، يبيع للدول، ويبيع للشركات، ويبيع للأفراد: كل بسعر، والتجارة أم الحلال، أفلم يكن النبي محمد تاجراً؟!
* * *
… ولقد قصدنا دبي، كالعادة في كل عام، لنشارك في تقديم جائزة الصحافة العربية، باسم مجلسها الذي يرأسه رئيس اتحاد الصحافيين العرب ابراهيم نافع ومعه الأمين العام صلاح الدين حافظ، ويضم نحو عشرة من رؤساء تحرير الصحف العربية في المشرق والمغرب، وهيئة أركان نادي دبي للصحافة بقيادة »النجم الساطع« منى المري.
هي السنة الثالثة لهذه الجائزة التي تبرّع بها، كاستثمار ناجح بطبيعة الحال، ولي عهد دبي وباني أسطورتها الحديثة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
فأما الاحتفال الأول فكان مهرجاناً للنجاح والفرح. جاء شباب الصحافة من مختلف أنحاء الوطن العربي، وجاء الضيوف أيضاً، ليشاركوا في التظاهرة التي أنعشت الاعلاميين جميعاً، خصوصاً أن أهل الاعلام المرئي (والمسموع) كانوا مشمولين بها.
كان مناخ »الانتفاضة« في فلسطين يلفنا وكانت في ذروتها نقاءً، تتوهج بالدم، وتخترق دياجير اليأس والاحباط بالحجر المبارك، لتستولد الأمل الجديد: إذن فالأمة لما تمت بعد.. وقد جاء من يمثل فدائيي الصحافة في فلسطين مكتوبة بالدم، ومرئية بنصاعة الجرح.
كذلك كان المهرجان الثاني في العام الماضي، وقد اختير أستاذنا الكبير كامل زهيري لتكرّم به الصحافة والفكرة الذكية والكلمة الشفافة، فضلاً عن كونه دائرة معارف الماضي والحاضر والمستقبل وقاموس الظرف الناطق.
أما هذا العام فقد سبقت الحرب الاميركية على العرب الاحتفال، فأحرقت الأعياد جميعاً، وكان على النادي أن يرجئه بضعة شهور… ومن الطبيعي أن الفرح كان قد سقط شهيداً في مكان ما بين فلسطين وأرض الرافدين.
… ولقد سبق الاحتفال المنتدى الاعلامي الذي اختير له هذا العام عنوان مبهم إلى حد الاستفزاز: »الإعلام والحرب«.. كأن الحرب فعل مطلق مجهول المصدر، لا قاتل فيها ولا مقتول، لا جان فيها ولا مجني عليه، لا جيش احتلال أجنبي الهوية والغرض ولا الأرض التي احتلها عربية منذ ما قبل قحطان وعدنان ومعهما يعرب الذي أضاع أرضه فأضاع يومه ويكاد يضيع غده.
.. وكان طبيعياً في ظل هذا الابهام المقصود أن يقف، في إحدى الندوات، رجل مصفح الوجه أميركي اللكنة، ليقول بعربية فصحى: أنا فلان الفلاني، عراقي المولد، أميركي الجنسية وأعمل في البنتاغون، ثم »ترجم« المعنى لمن لم يفهم، فأوضح أنه في وزارة الدفاع الأميركية، وأنه يطلب الحق في الكلام…
وثارت ثائرة بعض من جاؤوا ومعهم حماستهم، وبعض من حضروا من داخل عروبتهم لا من خارجها، فاعترضوا على وجوده.. برغم أن »المنتدى« بلا حدود، وديمقراطيته تتسع لجميع الأجناس والجنسيات والمهن مدنية كانت أو عسكرية!

مهرجان اليتيمة…

بعد اختتام المنتدى، وانفضاض السامرين، »وقعت« حفلة توزيع جوائز الصحافة العربية، في غياب من أنشأها الشيخ محمد، لانشغاله بفكرة جديدة تضيف إلى دبي إنجازا استثماريا جديدا.
ومؤسف أن حفل الختام لم يكن موفقا لا في الشكل ولا في المضمون، لا في القاعة التي حصرنا فيها، ولا في »الجو« الدرامي الذي أحاط بها، ولا في »الفراغ« الذي احتل نصف المقاعد لغياب من كان يفترض أن يشغلوها.
كان هناك ضيفا شرف لكل منهما موقعه المميز: المناضل العربي الاستثنائي بموقعه وبحيويته وبثقافته عزمي بشارة، وزميلنا الكبير غسان تويني.
ولولا الوجود الطارئ، ومن خارج جدول الأعمال، لأرملة الزميل طارق أيوب، الذي استشهد بالقصف الأميركي لبغداد، عشية احتلالها، لكان توزيع الجوائز على النابهين من الصحافيين قد تم وكأنه حفل اختتام الموسم الدراسي لدار أيتام.
وحدها تلك الطفلة التي فقدت أباها قبل أن تستمتع بحنان الأبوة حركت المهج والقلوب والدمع في العيون.
كانت في طفلة طارق أيوب بعض ملامح أيامنا الآتية.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب يضيف الى العمر عمراً بل أعماراً. تصير ساعتك يوماً ويومك شهراً وشهرك سنة.. والأهم ان شبابك يمتد متخطياً حاجز السنين، يتغذى بالحب ويغذيه فيدومان ويديمان عليك الفرح بالحياة. هل أيقنت الآن ان من يقول لحبيبه »يا عمري« لا يبالغ… ان حبه يمنحه اجمل الاعمار واكثرها امتلاءً وخصباً وفرحاً. حبي هو العمر، والباقي ايام متراكمة.

Exit mobile version