صورة العصر.. لقاتل كل العصور!
هي صورة العصر: رجل ضئيل الحجم، مطعون في سلامة تفكيره، مدان في سلوكه وسيرته الذاتية، مشكوك في سلامة العملية الانتخابية التي أوصلته الى مقعده الفخم فوق قمة الأزرار النووية الكفيلة بتدمير الكون تدميراً شاملاً.
.. رجل يقول أهله والمقربون منه إنه »يدار ولا يدير«، وقد سبق لأمه أن وصفته بأنه »جبان«، ولم يجد أبوه وسيلة للانتقام ممن خذله في انتخابه لولاية رئاسية ثانية »أقسى« من ترشيحه هو بالذات، وتأمين الفوز له بالسلاح القذر نفسه الذي استخدم لإلحاق الهزيمة به قبل عشر سنوات.
رجل يمضي فترة الاستعداد لمواجهة الدنيا بقراره غير المسبوق في خطورته وفي استهانته بشعوب الدنيا وبالسلام العالمي وبحلفائه وشركائه وأصدقاء بلاده الأقربين، وهو يلاعب كلبه في حديقة البيت الأبيض، يرمي له بطابة موجهة، فإذا ذهب إليها »باغته« بهجوم من الناحية المقابلة، عارضاً على العالم لياقته البدنية التي اكتسبها بممارسة الرياضة التي فرضها »كواجب وطني« على جميع موظفيه (مما يذكر بسياسة »الترشيق« التي فرضها صدام حسين على جميع العراقيين، وبالذات منهم قيادات الحزب العتيق وقيادات الجيوش التي ما ان تعود من حرب غير مقنعة وغير ضرورية بل وظالمة حتى يفرض عليها القتال في جبهة جديدة محكومة فيها بالخسارة والاندحار سلفاً) عدا هذه الحرب التي فرضها على العالم جورج.و.بوش.
رجل يقف في مواجهة الناس، كل الناس في أربع رياح الأرض، ليزف إليهم »بشراه« الفريدة في بابها: إعلان الحرب لتدمير شعب عريق في بلاد مؤسسة لتاريخ العالم وحضارته، بعيدا جدا جدا، في قلب »العالم القديم« الذي لا يعرف منه رئيس الأصوات الملغاة إلا فلسطين المحتلة، حين جاء به إلى »جولة طائرة« فيها صديقه الحميم السفاح ارييل شارون »ليعرّفه« إلى الرجال والنساء والفتيان والصبايا والأطفال والبيوت والأشجار والطيور والفراشات والأحلام والذكريات والشهداء الذين قتلوا مرة وسيعيد قتلهم مع أهلهم مرة أخرى.
رجل يقف كما لم يقف أي كاوبوي أو أي زعيم مافيا في التاريخ، أو أي طاغية في قديم الزمان أو في حديثه، ليعلن قراره بإعدام أهل أرض السواد، بلاد الرافدين، عاصمة بابل وهارون الرشيد، ودار الحكمة، ديوان الشعر، مكتبة الدنيا.
رجل يواجه أبناء الحياة، المليارات من الرجال والنساء والأولاد والتمنيات ومواعيد الحب وبطاقات الزفاف والصرخات الأولى للمواليد الآتين إلى »النعيم الأرضي«، حاملين معهم الآمال العريضة وبشائر الخير للناس الذين يكدون ويتعبون لكي يجعلوا الدنيا أجمل.
رجل بملامح جامدة، لا ترمش عيناه الباهتتا الحدقتين وجلاً، ولا تبدل كلماته حاملة الويل في سحنته، فتبقى عند زوايا شفتيه آثار تلك الابتسامة التي يمتزج فيها الغباء بالسخرية (ربما من المقادير التي رفعته إلى قمة القرار الدولي).
هي صورة العصر للرجل الذي سيدمغ العصر بالوحشية، والذي سيكتب بالدم التاريخ المضاد للتقدم الإنساني، ولحق البشر في أن يعيشوا (!!) بكرامة في أوطانهم، وبأن يفيدوا من الثورة العلمية المجيدة التي جعلت العالم قرية كونية… مهددة بالتدمير بالصواريخ العابرة للقارات، وبالقنابل الأسطورية (زنة الواحدة عشرة أطنان) إذا ما تحكم بأزرار إطلاقها مثل هذا الرجل المهووس بالقوة، الذي لا يفقه شيئاً في السياسة، ولا يعرف ماذا تعني الحرب للذين سيكونون اهدافها الحية.
هي صورة العصر: احد اغبى القادة السياسيين في التاريخ يصنع للإنسانية تاريخها الجديد بدم بشرها!
إنها صورة ذلك القاتل الذي اطلق وحوشه المصفحة فملأ بها الصحراء، وأطلق قلاعه العائمة فملأ بها البحار لتنطلق منها رسائل الموت، وأطلق طائراته الاسرع من الموت لتغتال الاطفال ولعبهم اللطيفة، وأطلق صواريخه لتغتال الشعر وترانيم الحب وصلوات الناس الطيبين!
صورة العصر: قاتل كل العصور!
… وتعليم الديموقراطية بجماجم الأهل المقتولين!
بين تفاصيل صورة العصر: رسل الحضارة الانسانية الذين اوفدهم رجل العصر!
مجاميع لا تنتهي من الرجال الآليين (الروبوت) ممن يتم التحكم بهم عن بعد: تفرغ البواخر شحنات منهم، وتفرغ الطائرات شحنات من هؤلاء الرجال المصفحين، والذين تختفي وجوههم تحت الاقنعة المن حديد!
مجاميع من العسكر يؤتى بهم من آخر الارض ليقتلوا نساءً وأطفالاً وفتية وشيوخاً ورجالاً لم يسبق لهم ان التقوهم او عرفوهم او دخلوا في منازعات او مخاصمات معهم.
لا تكفي الاقنعة لطمس الانسان في الانسان!
لا تكفي الاقنعة لتحويل الانسان الاعزل الى هدف عسكري.
كيف يمكن ان تشحن قلوب الرجال بالبغضاء والحقد والقسوة الوحشية وانعدام الاحساس بالاثم الى هذا الحد، الى حد تدمير البيوت على رؤوس اهلها، الى حد نسف المستشفيات والملاجئ بمن فيها من ناس طيبين، مرضى وعجزة، او اطفال بالكاد قد اطلوا على الدنيا عبر البراءة المطلقة في عيونهم التي بالكاد تميز الاخيلة؟!
كيف يمكن ان يفرض العمى على الابصار والبصائر بحيث يمكن توجيه الصواريخ والقذائف الى ابداعات الحضارة الانسانية قبل ألف، ألفين، ثلاثة آلاف، اربعة آلاف من السنين او يزيد؟
الى ما قبل شهرين او ثلاثة كان هؤلاء المجهزون الآن بوسائل التدمير والقتل الجماعي يعيشون حياة طبيعية في بلادهم البعيدة، يتابعون اعمالهم، يربون اطفالهم آمنين (مثل هؤلاء الذين سيكونون غداً اهدافاً لنيران مدافعهم!!)، ويحلمون بغد افضل.. يذهبون في ايام العطل إلى المطاعم ودور السينما والمراقص وحلبات الروديو والمصارعة او الى الملاعب الخاصة بكرتهم الناعمة حد القتل، على بعد آلاف الاميال.
كيف نبتت العداوة فجأة فتحول هؤلاء من بشر طبيعيين الى قتلة، بلا عقدة إحساس بالذنب، بافتراض أنهم لن يروا وجوه من سيقتلونهم…
كيف استعر الحقد بحيث يقطع واحدهم كل هذه المسافة فلا يبرد، ويوجه مدفعه الى البيوت والمساجد والكنائس والمكاتب فيدكها دكاً من دون ان يشعر بالذنب.
هل تستحق الغيرة على »الديموقراطية للعراقيين« حماسة القتل، وبهذه الضراوة؟!
هل باتت حاملات الطائرات والمدمرات والطائرات الاسرع من الصوت الركيزة الفكرية (المتحركة) لنقل الديموقراطية، فإن ابطأت قذفتها طائرات ال»بي 52« من بعيد، او اطلقت بالصوايخ عابرة القارات فتنزل على »اهدافها« برداً وسلاماً وحرية رأي… وأتمت بذلك للانسان حقوقه كاملة غير منقوصة!
لو انهم يقاتلون فيقتلون عدواً مجاوراً كان يحضر لغزوهم فسبقوه، لفهمنا.
لو انهم يردون على تحدي منافس خطير بتدميره، لكان ثمة ما يفسَّر وإن لم يبرر.
لو انهم يثأرون لضحاياهم او لكرامتهم او لمكانتهم ممن يهددها، لقيل العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم!
صحيح ان الديموقراطية غالية،
ولكن أين »تزرع« الديموقراطية ما داموا سيفجرون الصدور والرؤوس التي يفترض ان تحملها فترعاها وتتخذها منهجاً في الحياة وطريقاً الى التقدم.
ديموقراطية للقتلى وعبيد الاحتلال؟!
هل من هوية مسمومة أشد فتكاً من هذه الديموقراطية البوشية؟!
مسكين هولاكو: انه اضأل من ان يصل الى خصر جورج بوش!
ابن بين الحربين: سعد حاجو!
ذات يوم بين حربين جاء سعد حاجو إلى »السفير«…
ولأن »السفير« ولدت في الفاصل بين حربين فقد »تبنته« وفوجئت بأنه يسلك وكأنه قد ولد فيها.
ولدت »السفير« في »الفاصل الموسيقي« الأميركي (الكيسنجري) بين حرب تشرين التحريرية حرب العبور حرب رمضان حرب 6 أكتوبر المجيدة، وبين الحرب الأهلية اللبنانية التي سرعان ما انفتحت (بفعل تداعيات النتائج السياسية لإجهاض حرب العبور) لتغدو حرباً أهلية عربية، بل ولتتسع مع الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982 وما صحبها من تغطية »غربية« بالعسكر والسلاح، وليس فقط بمشاريع تصفية القضية الفلسطينية، لتصبح حرباً دولية.
وما بين نيسان 1975 وخلع التمرد في تشرين الأول 1990، عاشت »السفير« مع الناس في بلادي سلسلة حروب مخزية، مفجعة، مهينة حتى قيّض الله لنا أن نخرج منها »بتسوية« سياسية سمحت بأن تتوقف هذه جميعاً في حين استمرت الحرب المشرّفة الوحيدة متصلة، مع العدو الإسرائيلي ولم تنته بانتصار المقاومة إلا في أيار 2000.
كذلك عاشت »السفير« مع الناس في بلادي الحرب العراقية الإيرانية التي قصمت ظهر العرب والمسلمين، والتي امتدت طوال ثماني سنوات نزفت فيها الأمتان، الدم والثروة والقدرة، ثم كانت »الخاتمة السعيدة« باجتياح صدام حسين الكويت (آب 1990) وهي الحرب التي ولدت حروباً آخرها هذه التي تطل علينا لتلغي قدرتنا على الفعل، أقله في المدى المنظور، ولتهددنا في وجودنا ذاته.
على هذا الطريق كانت الحرب الإسرائيلية تستمر مفتوحة ضد شعب فلسطين في أرضه، هي ولما تزل، تحصد شبابه ونساءه وأطفاله وبيوته وشجره ومرافقه وأحلامه ونخبه الواعدة، علماً وكفاءة وقتالاً، ويواجهها بدمه فلا يتعب ولا يستسلم ولا ييأس من إلحاق الهزيمة بها!
وها نحن نواجه التلاقي بين الحربين العدوانيتين، وهما في النهايات واحدة: الحرب الإسرائيلية الأميركية على العراق في فلسطين، والحرب الأميركية الإسرائيلية على العرب في العراق.
سعد حاجو وحده يقاتل الحرب بالسخرية من أبطال الحروب (وليس البشر بين أبطالها، بل بين ضحاياها).
والمعرض الذي يقيمه الآن ليس حرباً على الحرب، بل هو دعوة متأخرة إلى الانخراط في الحرب المفروضة علينا في فلسطين كما في العراق.
ولا يمكن قبول عذر من نوع: لقد تأخرنا!
سعد حاجو يقاتل بريشته هؤلاء جميعاً، وحروبهم جميعاً، ولا يقبل الهزيمة.
سعد حاجو هنا يرسم الناس في بلادي و»يحشر« نفسه بينهم فإذا هم قادرون على أن يضحكوا من الهزيمة، وأن يستعدوا للحروب المقبلة التي ستفرض علينا، ولن نجد بعد هذه الحرب الأميركية على العراق ملجأ نهرب إليه من واجب المواجهة.
وسعد حاجو، مثله مثل أصدقائه وأساتذته الذين رعوا تجربته وشجعوه، محيي الدين اللباد وبهجت عثمان، وناجي العلي الذي يستمر في »تعليمنا« جميعاً، في غيابه كما كان في حضوره… طفل تستطيل قامته من دون أن تتضخم براءته فتفسد، ويزداد وعيه من غير أن يفقد سذاجته فيصيب الحول عينيه ويختل ميزان الأحكام. إنه ما زال رهينة المفاجأة: يفاجئه الغلط، ويفاجئنا بأن وعيه بالغلط أعلى من المعدل الذي نفترضه فيه… فالسذاجة كاشفة الفضائح في السياسات الدولية كما في السلوك المنزلي كما في ضرائب »ضارب النقد« في جمهورية السعادة اللبنانية.
سعد حاجو يخاطب عقولنا، ولذا فإن كثيرين يصنفونه »أهبل«، ولا يستسيغون رسومه لأنه يتوغل بعيداً في قلب السؤال، في حين يفضل الكثيرون »ان تكركرهم« ريشة الرسام بدل أن تستنفر الأسئلة القلقة التي يهربون منها ثم يجدونها أمامهم حيثما هربوا!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
في زمن القتل والتدمير والكراهية، لا أجد ملجأ إلا حبيبي، ألا تعرفون حبيبي؟! له وجه بلون القمح، وله عينان بلون النحل، وله كفان بلون التراب، وله جبين بشميم الياسمين، أما قلبه فيتسع للناس جميعاً… وفيهم أرى نفسي، فلا أغار!
اروع آيات الغزل ان حبيبي يناديني: يا أرضي!