أوراق عراقية: على الحافة بين الحب والموت!
يترقرق العراق في الوجدان شعرا حتى البكاء. يتقطر العراق دما حتى الانتحار. تتهاوى القسوة على العراق ندما يستدر النحيب فتتهاطل الفواجع مطرا أسود، ولكنها تظل مفتوحة على الجحيم.
يسري دجلة مخترقا بغداد كأوتار رباب تروي حكاية حب موؤود، مداراة لعيون أولئك الذين إذا سمعوا كلمة الحب شهروا بلطاتهم المطهمة والمستنفرة لمكافحة »الانحراف«.
ينام العراق في قلب الخوف ويصحو على نقص في الأنفس وفي الأرزاق. ينهض العراق من قلقه مذعورا، يلجمه شبح »السفاح« الذي كلما أميت استولد من جديد، أقسى وأعتى وأعظم خبرة وأغنى تجهيزا.
يحفر الشاعر قبره في القصيدة ثم يتوسده ماضيا إلى حلمه المحرم!
أما كاتب الرواية فيشطب ثلاثة سطور كلما كتب سطرا لكي تبقى الحكاية بيضاء النوايا.
إنسَ صبري…
… قبل أربعين سنة قال لي صبري، سائق سيارة الأجرة العتيقة الممنوعة من عبور الرزق في شارع الرشيد حتى لا تشوه المشهد السياحي: »أعظم أماني العراقي، أستاذ، الأمن والأمان.. لا أطلب من ربي، مساء كل تعب، غير أن أصحو في بيتي ورأسي على جسدي، وأهلي معي.. والله على كل شيء قدير!«.
مطلوب تدخل الله يوميا، لتحقيق هذه الأمنية العزيزة. أحيانا تأخذه مشاغل أخرى، فتقع الفأس في الرأس!
بعد سنوات خمس عرفني »صبري« في قلب العتمة، منتصف الليل، في بيروت. فرحت لأنه حي…
قال إنه عائد من أميركا حيث جرب أن يعيش ويعمل مع صهره وأخته وأولادهما: ما قدرت، أستاذ، والله الموت في العراق أزين من العيش في أميركا. بلادنا زينه، أستاذ، كلش زينه. بس الأمن والأمان. راجع إلى بغداد، عيني. والله بغداد تسوى الدنيا. نحن ما نسوى، أستاذ. بغداد درة الكون… بس لو »يكونون« شوية ألطف. الحياة من الله، أستاذ، لو يتركون له الموت.
وبعد عام، قادني عملي إلى بغداد. كانت أمنيتي أن أجد »صبري« ورأسه على كتفيه، فنصحني الصديق بأن أحتفظ بلساني في فمي: السؤال تهمة، عيني! غدوة يقولون شنو العلاقة بين الأستاذ والسواق؟.. أنت راجع على بلادك، يا حبيّب، »صبري« قاعد وهم قاعدون. انساه، أسلم!
العيش خارج الفرح
في الشتاء الثاني للثورة الولود التي لا تكاد تتعرف إلى ملامحها حتى يبدلها »الانقلاب« فيقطع رأسها، أخذني »حامد… « إلى »سليمان الشكر« لنسمع نبضات قلب العراق. كان سليمان يعيش بذاكرته، خارج السياسة: سياسة هذه الأيام تريد همّه، وأنا شِخت… البركة في الشباب. صحيح هم يتغيرون بسرعة، ما تفتهم ليش، بس اللي يجون بدلهم هم شباب. آني شيبت، ما ألحق اتعرف عليهم… ومالي شغل بيهم، شغلي هذا.
احتضن سليمان الشكر عوده وهوّم بنا في أفياء الوجدان.
عندما عاد إلينا وعدنا إلى وعينا بما حولنا، قال سليمان الشكر: لمن سيبدع أهل النغم؟! هؤلاء الذين تطربهم المارشات العسكرية والأناشيد الحزبية لا يعرفون الموسيقى. هؤلاء يطربون للراقصات والمنافقين. أهل زمان كانوا يتذوقون ويندمجون مع الموسيقى ويطربون. من لا يعرف الشعر لا يتذوق الموسيقى. من لا يستل من قلب الحزن الفرح بالحياة لا يطرب. الحزن نبيل، والفرح نبيل. نحن نعيش خارج الفرح، وقد فقدنا القدرة على تذوق الحزن. صرنا خلفه، في سديم من مشاعر الرعب وتوقع الأقسى والأبشع.
في الزيارة التالية لم أجد »حامد…«. قالوا لي إنهم قبلوا شفاعة »الكبار« الذين نسّبهم إلى الحزب، وكان قائدهم، فاكتفوا بعدما سجنوه فترة بإعادته إلى سلك التعليم، حيث كان: الحمد لله! صحيح أنهم نفوه إلى منطقة بعيدة، وأنهم صادروا كل ما لديه وهو قليل، لكنه بقي حيا، وهذه نعمة عظيمة. رجاءً لا تسأل أحدا من »الكبار« عنه فتكون »القاضية«.
حبي عراقي.. قاتل إذا اكتمل
في الشتاء الثالث جاءني الشعر مع شاذل (…) قال: لنا الليل لكي نغني الحب.
عرفت من الطريق مقصدنا: الى سليمان الشكر!
وفي المنزل الانيق والساكن كما دجلة، تدفق شاذل (…) شعرا ونثرا وحكايا حب. وعندما ذاب شاذل طاقة رقة وهو ينزف حكاية حبه الاول في جامعة بغداد، كان عود سليمان الشكر يرتفع بالنغم الى مستوى الابتهال.
كان شاذل (…) »دبلوماسيا« عتيقا لكنه في العشق اغرق. وكان يكتب تقاريره بلغة أدق من ان تنسجم مع »القرار« المتخذ »بالإلهام«. وكان بعثيا عريقا، لكنه سرعان ما اكتشف ان »حزبيته« هي من النوع »المباد«، فجرب ان يصير موظفا، فلم يقدر، وأن يتفرغ للهوى والشباب فعاد الى حبه القديم الجديد يحياه شعرا بعدما تعذر عليه ان يعيشه عمرا.
وكان بديهيا ان يصير ملجأه سليمان الشكر، حتى ذوى شهيدا لحبه المستحيل وضحية »لحزبه« الذي انكر آباءه، إلا من ارتضى ان يصير ابنه أباه، وأن يأخذه في حضانته ليعلمه ان الحكم اهم من الحزب والحزب اهم من الشعب و»القائد« اهم من هؤلاء جميعا.
بكى شاذل وأبكانا وأبكى العود. قال انها كانت تناديه »بطن عيني« وقال انه ما صار شاعراً إلا لكي يغني »الورد«… والورد إلى ذبول، وبطن العين غادرته نعمة الابصار فصار الشعر عينه وقلبه ويده وكتابه ويومه الآخر حيث »الورد« كثير كثير!
***
لهفي على »الحب العراقي« الذي يجتاحك صاعقاً، عاصفة من نار محمولة على اجنحة فراشات ملونة، وشوق الى العطاء مختزن منذ ملايين السنين ومدخر للحظة القدرية الموعودة حتى اذا جاءت صارت هي العمر.
ليس عند العراقي او العراقية »وسط« وهو هي عند التخم الاقصى. الحب مطلق، الغضب مطلق، الشرب مطلق، الاشتباه مطلق، الرغبة مطلقة، العنف لا سيما العنف مطلق. وانت دائماً محاصر بين المطلقين.
… هتفت »سميرة« بذلك الشاعر الذي يرى نفسه فارساً: اليّ، اليّ… انقذني من هذا الحب! وأخذت الحمية الشاعر الساذج فاندفع يرمي نفسه في بيت النار، حتى اذا استفاق وجد نفسه وحيداً في ظلال ابي الهول يتناجيان بالصمت ويحاولان اكمال القصيدة عن العاشقين اللذين تدحرجا في سفح الاهرام حتى انضما الى بناتها الذين ينتظرون البعث في عتمة المقر الاخير للعرش المذهب.
قالت »سميرة« لمعشوقها الفتى: لقد انذرتك! حبي عراقي، قاتل متى اكتمل، قاتل متى انتكس، قاتل بالفرح مع بلوغ ذروة النشوة، قاتل بالوجع اذا ناء به المعشوق! فانج بنفسك قبل ان أقتلك بحبي او تقتلني بسقوطك تحته!
أشجار الماء و»منّ السِما«!
للأمكنة في العراق ملامح البشر وشميم الحروب.
كلما صعّدت من بغداد شمالاً كنت تتوغل في مناخات الحروب التي ابادت أمماً وشعوباً، فلم تستبقِ منها غير »اقليات« عرقية ودينية، بينها ما اندثر إلا في العراق، وبينها ما لم يوجد اصلا الا في تلك الارض التي منها كانت البدايات، كل البدايات: فمن بين النهرين جاء كل الذين اصطنعوا تاريخ العالم القديم الذي لا يصلح ان يكون مستقبلا، ولا يجوز ان يكون مجرد اطلال دارسة.
اما اذا ما اتجهت جنوباً فلسوف تعزق في طوف دماء المأساة. في كل شبر من تلك الارض التي تشاطئ الفرات يمكن ان تتبين آثار اقدام السفاحين وملامح الشهداء الذين لا يكفون عن التوالد.
في الكوفة حوَّل الاغتيال المسجد الى مقبرة وأقفل باب »مدينة العلم« بالسيف المسموم: »هنا كان الإمام علي بن ابي طالب ساجداً، يصلي الفجر، حين باغته ابن ملجم بالضربة الغادرة«.
من الكوفة إلى النجف فكربلاء تطير محمولا على اجنحة الفواجع المرقشة بالشعر. يأخذك الفخر الى البكاء، وتأخذك الشهادة الى تقديس الموت، الى ان يستعيدك الشعر فتنخرط في ذلك الموكب البهي لشعراء الارض التي ارتوت بالدم اكثر مما ارتوت بالماء، والتي انبتت من زنابق الضحايا اكثر مما انبتت من القمح.
تخفف الوطء، وانت تتنقل بين الاسطورة الاقوى من حقيقة وبين الواقعة الابشع من كابوس، الى ان يأتيك مظفر النواب فيحشرك وسط ملايين الشعراء الذين جاؤوا ليقدموا العزاء فإذا هم في قائمة الضحايا فرثوا انفسهم وهم ينادون العراق فيناديهم العراق، لا هو يسمعهم ولا هم يسمعون، والشهداء يدورون فوق خيولهم المطهمة لنجدة من اضاع الطريق الى العراق: اتبع دمك يدلك.
وفي كربلاء استحالت مياه الفرات دماً، وتساقط الشهداء عطاشى والنهر على مدى ذراع، وحُملت الرؤوس فوق الرماح، الى الخائف على عرشه من صاحب الرسالة. والنواح متواصل، ولوم الذات سيدوم الى أبد الدهر، ولن ينفع »الحسين« أن يتفجع الذين خذلوه وهم يلطمون مرددين: يا ليتنا كنا معكم إذن لفزنا فوزاً عظيماً!
لا حوار بين القاتل والمقتول! السيف يحكم لا الرسالة. والسيف قتّال، والرسالة مهجورة، لا تستحضرها صلاة النادمين، ولا نفاق المكفّرين عن نصرهم بادعاء التوبة ومعها تزوير النسب ليتماهى القاتل بالشهيد.
لكأنما الشهداء في العراق أشجار الماء وثمار الواحات »ومنّ السِما« الذي يتقطر ندى على المفارش، كما الدموع، قبل أن يتحول الى حلوى في علب الهدايا.
الدمع والدم. القرآن والسيف. الاحتراق حباً، والقتل كرهاً. والسلطة دوارة يأخذها القوي من الضعيف المستقوي بحقه، ويأخذها الأقوى بالسيف والدينار والموت، الكثير من الموت. لا يهم عدد القتلى، المهم أن تبقى السلطة لسلطان الموت!
ينقص أرض السواد الكثير من الحب العراقي!
تهويمات
قالت: الحب يغري بالثرثرة، ما لك لا تنطق إلا بعينيك؟
قال: يحتاج الحب إلى من يراه، أيضاً.
÷ كتب إليها يقول: الحب أعظم معلم عرفه البشر. تصوري أنه أخذني معك الى الشعر، وقد كنت أخاف من قراءته. أحس الآن أنني أستطيع أن أنازل المتنبي، أما قيس فلا… أخاف أن يأخذك مني أو يأخذني معه إلى الجنون. ترى من يأخذ من؟!
÷ هبّ الصديقان يتنافسان على »الجميلة« التي اختارت موقعها الى جانبهما.
حين قاربتهما »الجميلة« توارت الصداقة لتترك المساحة للمبارزة، وبنظرة واحدة ألقيا السلاح. قال كل للآخر: لولاك لكنت فزت بها!
وبوغتا »بالجميلة« تخاطبهما: تعاليا إليّ. أريد من يسليني إلى أن يصل حبيبي!
وداس أولهما على قدم صديقه وهو يتقدم ليقول: أعرف ألف نكتة!
أما الثاني فقد ابتعد وهو يدمدم: طلبنا مغامرة وطلبت مهرجاً.. ولا لقاء!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب يبدل ذوقك ويتحكّم بكل تفاصيل حياتك. تعيد النظر في علاقتك بالألوان والموسيقى والسينما والمسرح والثياب وتسريحة الشعر. إنه يعيد »صياغتك« فيشعرك بأنك معه فقط قد ولدت، وأن ما سبق من عمرك إنما كان لحظة انتظار للميلاد. هنيئاً للذي يعيد حبه خلقه كل صباح.