لو أن السلاطين اعتذروا فعلاً عن خطاياهم؟!
أما وقد سلّم سلطان عربي بمبدأ »الاعتذار«، ولو ملتبساً، عن »خطأ« اضطر للاعتراف بأنه وقع فيه، فإن هذه »السابقة« ستكون خطيرة بتداعياتها غير المحدودة، والتي قد تضطر السلاطين الى التنادي الى قمة طارئة للبحث في الامر… مع التنبيه بأن »الاعتذار« عن عدم حضورها مرفوض سلفاً!
وإذا ما بقينا مع سلطان بغداد، ذاته، باعتباره قد سجل السابقة، وتفحصنا كم من الاعتذارات عليه ان يقدم استغفاراً واستتابة عن خطايا مميتة ارتكبها داخل العراق بداية ثم مع الأمة، لوجدناها غير معدودة وغير محدودة:
من أين تكون البداية، من الشعب بمجمله؟ من الأُسر جميعاً تلك التي أطيح بأربابها؟ من الامهات والآباء؟ من المحافظات والجهات جميعاً، شمالها والجنوب، غربها والوسط، شرقها والعاصمة؟ من الاعراق جميعاً، عرباً وكرداً وتركماناً وأشوريين وكلداناً؟! من الاحزاب جميعاً وفي الطليعة منها البعث العربي الاشتراكي؟!
ثم، هل يعتذر فقط عن القتل العمد والاغتيال داخل البلاد وفي المنافي، وقد وصل الى الاصهار واركان الاسرة الحاكمة ذاتها؟! ام يشمل الاعتذار تغييب الديموقراطية وإلغاء »الشعب« باستفتاءات المئة في المئة، واغتيال الدستور والقوانين بل مبدأ العدالة نفسه؟
هنا نصل إلى سائر السلاطين واعتذاراتهم المطلوبة، وهي ايضاً غير محدودة: عن تحريم الديموقراطية؟ عن اغتيال العدالة؟ عن القتل العمد لمبدأ المساواة بين »عيال الله«؟ عن احتكار الثروة والسلطة والسلاح؟! عن شطب المرأة وتعطيل نصف المجتمع بل التسبب بإصابة المجتمع كله بالشلل؟! عن الفساد المستشري والقوانين الاستثنائية التي تُعلي مقام الفاسدين وتبيح اضطهاد المطالبين بالمساواة؟ عن تدمير مناهج التعليم، وإباحة البلاد امام الجامعات الاجنبية والبرامج الهجينة التي تمسخ شخصية اجيالنا الطالعة؟! عن النهب المنظّم لخيرات البلاد؟! عن القمع والعسف وتحقير المواطن وبيع الوطن للأجنبي؟ عن التخلي عن فلسطين وسائر القضايا القومية؟ عن ذبح روح المقاومة ورفض الهيمنة الاجنبية؟ عن الهرب من مواجهة اسرائيل والخضوع لكل شروطها المذلة واللاغية للأمة؟
بحسبة بسيطة، يمكن الافتراض ان على واحد من هؤلاء السلاطين ان يمضي ما تبقى من عمره في الاعتذار عما تقدم من خطاياه وذنوبه التي ستسد أمامه طريق السماء بعدما ملأ الارض جوراً وفساداً!
فكيف إذا كان »الاعتذار« كالذي قدمه صدام حسين ناقصاً ومبتوراً ومستفزاً حتى ليصح فيه أنه أشبه باعتذار أقبح من ذنب؟!
وليد مدفعي وغرباؤه الذين يتكاثرون!
وجدت الرواية على مكتبي بغير كلمة أو إشارة خاصة، لكن اسم الكاتب كان يكفي لاستذكار علاقة ود قديمة (وباقية) برغم انقطاع التواصل في السنوات الأخيرة: وليد مدفعي.
»لن أعد أحدا بالصدق في كل الحوادث التي سأقصها، ولو أني فعلت لكنت قد بدأت روايتي بكذبة كبيرة، لكنني سأعطي وعدا بنسبة ضئيلة من الكذب…«.
»غرباء في أوطاننا« هو العنوان، والطبعة الأولى صدرت قبل ثلاثين سنة تماما، وصدرت طبعتها الثانية قبل عشر سنوات، لكن »الواقع« الذي أمد كاتبها بمادتها ما زال قائما بجوهره وإن اختلفت بعض الشكليات والتفاصيل.
الغربة شاملة بحيث تثير الفزع: الأب غريب عن أبنائه، الأخوة غرباء واحدهم عن الآخر، الأخت تخاف أن تتمرد على واقع القهر فتخرج الى الغربة عن عائلتها، والأم تحاول أن تكون الإطار الحامي والحافظ لوحدة العائلة برغم الاختلافات في الآراء والأمزجة ومحاولات التمرد التي تمزقها… والسلطة تطارد الأمل بالتغيير، ولو كان شخصياً بحتاً.
ولا يعادل الغربة إلا الرغبة في التغيير، ولكنها تتخذ الطابع الفردي… والسقوط ذريع يمتد من الشاب العائد طبيبا ناجحا الى الولد الصغير الذي يحاول أبوه أن يتحكم بنوع اللعبة التي تستهويه.
»غرباء في أوطاننا« سيرة حلم قومي انهار تحت وطأة القمع والافتراق عن المعتقد تحت ضغط السلطة الساحرة، الآسرة، والمدمرة.
لكن وليد مدفعي ما زال مثل جيله حالماً يفترض أن هذا الواقع »آكل الأحلام« مؤقت مهما طال ومهما تفاقمت تداعيات العجز فيه.
ورواية 1972 »ولاّدة« لمسلسل لا ينتهي من الروايات والمسرحيات والقصص والكتابات السياسية التي حاولت أن تقول بهذا القدر أو ذاك من النجاح، ما سبق أن قاله وليد مدفعي بأعلى الصوت، وما زال يبشر من قلب اليأس بضرورة التغيير لينتهي عصر غربتنا عن أنفسنا كما عن أوطاننا.
كل ما حدث على امتداد الثلاثين سنة من عمر الرواية، أن الغرباء في أوطاننا قد صاروا الأكثرية الساحقة!
شوقي بزيع يجدد نفسه بسحر اللغة ولغز الأنوثة!
لسبب غامض، دهمني الإحساس بأنني أمام ولادة جديدة لشوقي بزيع وأنا أرتحل في »سراب المثنى«؛ ديوانه الجديد الذي يتدفق فيه عشقاً يكفي نساء الأرض جميعاً، وإن كان أشرك معهن ومن أجلهن »اللغة« عائداً بها وبهن الى »مثاله«، في هذه اللحظة، امرئ القيس و»صاحبيه« المجهولين المعروفين به ومنه ومعه ومثله.
للحظةٍ، تمثَّلَ لي هذا »الغاوي« المتباهي بلغته كما بوسامته، يتعامل مع حروف »العربية« وكأنها سرب من الجميلات المسحورات يرغب فيهن جميعاً ولكنه يضطر الى التمييز بينهن على قاعدة: الاصعب منالاً هي الأمتع صحبة!
على هذا، فقد غنى شوقي بزيع حروف العلة: الألف والواو والياء… وهي الحروف التي طالما أنهكت الواقفين على باب اللغة فدفعت الكثير منهم بعيدا عنها، في حين أنسَنَها هذا الشاعر المدنف بحبها، فإذا »الألف عكازة العميان في الصحراء«، و»الواو عجوز الأبجدية ومخلب الحسرات« في »ذهبوا وما عادوا«، وإذا الياء »رنة الإعجاز في الكثبان«، أما في »يا ليل« فقد باتت زفرة الروح الأخيرة وهي تتخذ الموسيقى سلّماً لصعود ربع الصوت الى الله.
شوقي بزيع المتفرغ للعشق يوزع »قلبه« المشطر بين سحر اللغة ولغز الأنوثة: هل من فاصل بين الاسم والمسمى، بين نداء امرئ القيس صاحبه الذي بكى وخلاه مع الدرب وحيدا، وبين تهيؤات عمر بن أبي ربيعة ونرجسيته: »وحينما حدقت في صباي لم يكن يروق لي سوى انعكاس صورتي كنرجس في الماء«
»حي على الجسد«…
والتغريد على تاء التأنيث يملأ الفضاء شبقاً: قبل عامين تماماً أنشبتني »تاء« كالشهقة في خاصرة الوقت… و»عاصفا جاءني الجميل/ خفيفاً مثل ذئب الفلاة/ كلما ملت هب نحو التياعي/ لهبوب التاءات نحو المؤنث/ … هل ينبع النهر من فرجة في الانامل«!
ولعروة بن الورد نفحات متأخرة صاغتها تباريحه: »عفراء ليست فتاة لأعشقها مثلما يعشق الفتية الفتيات/ هي مسراي في مرتقى الطين ومعراج قلبي الى سدة لا يضاء بها غير زيت الانوثة«
»النسوة الكلمات. ادل صيحة للأبجدية ضد موت الشعر/ النسوة العطرات مثل القمح إذ يهطلن من شرفاتهن هطول امواج من الذكرى على النسيان«.
شوقي بزيع ما زال يبحث عن وجهه: اتراني أحدا غيري/ أم النهر الذي انجبني ضل عن المجرى ولم يجمع شتاتي/ كلما حالفت أرضا أنكرتني خطواتي/ كلما آنست من شعري يقينا راودتني عن جنوني لغة غير التي أعرفها…«.
على ان هذا العاملي الأصيل ينفض عنه الشعور بالغربة ويستعيد وجهه حين »يحتله« »عبد الأمير عبد الله« الشاعر الشفوي للضحك المراق على الموائد حين »يعاد« الى بنت جبيل التي لم تغادره أبدا: رأيت يدي شموسا لا تمس/ تدق أبوابا مهجرة البيوت وقد تناثر فجرها مثل الأرز على رؤوس العائدين/ لم يشتبه دمهم عليّ ولم يدل على ملامحهم دليل«.
أين امرؤ القيس، طالب الولاية الذي لا يولَّى، من هذا الصعلوك الذي أسكن الامارة اسمه وظل يهجوها من خارجها وينثر الرماد على وجوه الساعين إليها، يضحك منهم ويُضحك الناس عليهم، ويستولد من قلب حزنه الكربلائي المعتق أفراحاً ويشرب خمر الرفاق لينسى وجوههم ثم يسكب في كؤوسهم شعراً ولطائف وآهات وجع وسخرية من الموت قبل ان يقصده بقدميه.
أما شوقي بزيع الذي كلما عرف أكثر ووعي حقائق الحياة من حوله، يصير رأسه غريمه وتصير ظنونه جهنمه: »كل زيت يطفئه الشك… وما أرى لا يقال«.
»كم ذكرى النساء أشد سحراً في حساب العاشقين من النساء«.
شوقي بزيع في ولادته الجديدة مزيج من الأمير الذي لا يطال ملكه ونرجس الماء، ويستشعر أن كوكب الأرض أضيق من ذلك الحب الذي لا نعرف هل كان وانقضى أم هو آت أم أنه مثل قصيدة بدأ نَظمها في جنة حواء ثم ترك لأحفاده ان يكملوها في جحيم حواء ولا مطهر… حتى لتباريح عاشق صوته وصورته وعاشق معشوق النساء شوقي بزيع!
تهويمات
أنزلك المطر قطرة قطرة حتى جرفني سيلك، وحين أضعتك أعادك البرق الى عيوني. من يفزعه صوت الرعد الواعد بالعاصفة التي نسكن معها ليل النار؟
قالت: لا تتذكرني إلا حين نلتقي مصادفة…
كان مشغولاً بغيرها فاكتفى بأن قال: ولماذا تضيعين المصادفة؟!
ردت بسرعة: لن أضيعها هذه المرة… سأعرّفك بمن صار قدري…
تقدم الرجل مبتهجا فوجد نفسه يرحب به بحرارة وهو يقول ويعيد، كشريط تسجيل، جملة واحدة: أبهجتني المصادفة، أبهجتني المصادفة، أبهجتني المصادفة!
أطل من موقعه الممتاز فوق سطح المدينة على شرفة العشق، كانت أنوار المدينة مبتلة، ترعشها ريح باردة، وكانت الطرقات خالية يتمدد فيها ظلك كثيفا وكأنك لست فيه. وحين جلس ليقرأ فيك هربت منه الكلمات، حتى إذا قرر الكتابة لم يستطع ان يرسم غير حروف مقطعة بالغياب.
فوجئ به العاشقان حين فتح الباب بغير قصد، فوقف الثلاثة جامدين يحملق كل منهم في الآخرَين… ولم يعرف كيف يتخلص من ارتباكه إلا بأن يقول: عفواً… لعلّي قد منحتكما الفرصة لتبدآ من جديد وقد اشتعلت الرغبة بالتحدي!
وحين أغلق الباب خلفه تناهى اليه صوت العاشقة وهي تقول بشيء من الحدة: أتتحداني! بل أنا من يتحداك!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يأخذني الصوت الجميل الى حبيبي، وتجعله الموسيقى رفيقي الدائم، أحس عبرها بأنفاسه على عنقي وبأنامله تتغلغل في شعري فارتعش نشوة. أنظر الى الناس عبر الموسيقى التي يسمعونها فأرى العشاق قلة. اللهم احشرني ضمن هذه القلة التي يأخذها الشجن إلى الحب.os