مع »ثبوت الرؤية« لهلال رمضان المبارك من كل عام، وهي للمناسبة معضلة مأساوية عجز عن حلها العقل والعلم والمراصد والسفن والأقمار الفضائية التي بلغت القمر فعلا وأهبطت عليه رجالا ونساء وكلابا وحيوانات أخرى…
مع »ثبوت الرؤية« تنقلب الحياة اليومية العربية رأسا على عقب: في معظم الأقطار العربية يصير النهار لباسا والليل معاشا، وتتضاعف كلفة الحياة اليومية، ويستطيب الناس السهر والسمر و»الفرفشة« والتسرية عن النفس بعد يوم الصيام الطويل، واستعدادا للسحور الفاخر، داخل »الخيام الرمضانية« التي تنتشر في الشهر الفضيل كالفطر…
مع »ثبوت الرؤية« تتوقف الكرة الأرضية عن الدوران، ويصطنع الكتاب والمنتجون والممثلون وشركات الإنتاج ومحطات التلفزة، زمنا مختلفا عن زماننا، ويتبرعون بنقلنا على أجنحة الخيال أو المخطوطات أو الروايات المحفوظة في ذاكرة الأجداد، الى ما كان في سابق العصر والأوان من أمجاد وعز وفخار وكل ما نتمناه ونعجز عن تحقيقه في حاضرنا البائس.
فجأة، يخلع الممثلون أزياء أيامنا هذه، يطلقون لحاهم ويعقفون شنباتهم، وتغرق الممثلات أجسادهن في أكوام من العباءات والقفاطين والملاءات والمناديل حتى لا يبقى ظاهرا من »مفاتنهن« إلا ما حلله الشرع أي بعض الوجه والكفان فقط من اليدين.
فجأة، تستعيد المحطات المهجنة بمباذل المنتجات الأجنبية المدبلجة علاقتها باللغة العربية، وبالبرامج المنتجة بتمويل عربي، فإذا الجميع ينطق بالفصحى بغير أن يلحن، بل إن بعض النجوم الذين لم يشتهروا بالفصاحة، يتحولون الى التحدث بالشعر وحده، ويهملون النثر أو يتركونه لأولئك الذين لا يفقهون أو لا يدركون مرامي الخليل بن أحمد أو لا يحفظون »ألفية بن مالك«.
كأنما رمضان شهر التعويض عن بؤس الحاضر بأمجاد الماضي، أو كأنما ننسى تاريخنا التليد طوال أحد عشر شهرا ونستذكره في شهر واحد من السنة. ننبش الصفحات الصفراء في الكتب المهجورة بحثا عن أبطال يستمرون أحياءً في الذاكرة الشعبية وإن أهملتهم كتب التدريس في المدارس الرسمية، والخاصة من باب أولى.
بديهي أن كل المسلسلات تحتوي قدرا من الإسقاطات على الحاضر.
من لا يجرؤ أن يتحدث عن اليوم، بهزائمه والانتكاسات والفواجع، يستخدم الماضي، فيعيد استيلاد شخوصه، أو استنساخها، يلبسها لباس الأمس وينطقها بهموم اليوم، يبرز فضائلها ومحاسنها ليشهّر بعورات القائمين بالأمر، ولو تورية، يقدم السابقين كشخصيات متماسكة ولها أهداف وغايات غالبا ما تكون سامية، تاركا للمتفرج أن يجري المقارنة ولو ضمنا بين صناع التاريخ وصنائع مزوريه.
ليست هذه إدانة للمسلسلات، حتى لو كان هدفها تجاريا بحتا،
ولا يدخل هذا الكلام في خانة النقد الفني، في أي حال.
ومن الأمانة أن نقول إن بعض هذه المسلسلات لا ينقصها الإتقان، في النص أو في التمثيل، حتى إذا ما شطح قلم الكاتب أو مزاج المخرج أو بخل المنتج فابتسر بعض ما لا يجوز فيه الابتسار، أو تمادى في الإسقاط بما يخرج النص عن سياقه المنطقي ويتعامل مع عواطف المتفرج متجاهلا أو متجاوزا عقله.
… أو لعب بعض الممثلين ونتيجة لقلة العدد وتكاثر الأعمال وضيق الوقت والحرص على أعلى دخل ممكن، أدواراً متعددة في أعمال كثيرة، بعضها نقيض البعض الآخر، إذ يستحيل الملاك شيطاناً والعكس بالعكس..
لكن المحنة أن أحدا لا يجرؤ أو لا يستطيع الحديث عن الحاضر إلا بصيغة الماضي.
… ولا يجرؤ على إدانة ظلم القائم بالأمر إلا بالعودة الى سابق العصر والأوان ومن كان فيه من الطغاة، أو بالمقارنة البعيدة مع من كان فيه من الحكام المصلحين.
وفي بعض الحالات يفلت الزمام، بالرغبة أو بالسهو، من المخرج، فإذا به يظهر من بذخ حكام الأيام الغابرة ما يبرر لحكام أيامنا هذه بذخهم الى حد السفاهة، كما يظهر من الظلم يومذاك ما يبرر النقص في العدالة (أو ربما انعدامها) في زماننا.
رمضان كريم…
وبالتأكيد فإن بعض الكتاب، ومن ثم المخرجين والمنتجين، يقدمون خدمة ثقافية، ولو في قالب تجاري مربح، ويعيدون الاعتبار الى كثير من رجالات الماضي وصناع المجد الغابر، خلفاء وقادة وأمراء شعر وكتابا مبدعين.
ولكن… لماذا حصر هذه الأعمال في شهر رمضان من دون الشهور الأخرى؟!
ولماذا حصر الاختيار في الماضي وحده؟
إذا كان المسلسل جيدا في موضوعه، وفي إخراجه وتمثيله، فهو مطلوب في كل وقت.
وما دام بالإمكان تقديم أعمال متقنة، تشد إليها الجمهور وتعيد وصل ما انقطع بين العرب في مشرق أرضهم وفي مغربها،
وما دامت هذه الأعمال هي، بوجه الإجمال، رابحة تجاريا، إذ تجد لها سوقا يزدحم فيها نحو مئتي مليون مشاهد..
فلماذا إذن جعلها مربوطة بالصيام وحده؟
أوراق شخصية بين بعقلين ومختارة آل عابد وكمال جنبلاط
قبل ثمانية وأربعين عاما تقريبا، كتب لي فوزي عابد على هامش موضوع إنشاء كان مطلوبا منا، ملاحظة بالأحمر نصها بالحرف: »إذا ما ثابرت فلسوف تكون محاميا قديرا أو صحافيا كبيرا«.
من حظ المحامين، ربما، أنني لم أتمكن من الانتساب الى كلية الحقوق… ولعل زملائي الصحافيين لا يعتبرون تشرفي بالانتساب الى هذه المهنة، من سوء حظهم!
في أي حال فإن تلك الملاحظة على دفتر الإنشاء في المدرسة الرسمية بالمختارة قد أسهمت في توجيه خطاي نحو مستقبلي، وهكذا فإنني حين اضطررت الى البحث عن عمل لكي أخفف من أعباء الوالد الثقيلة، وجدتني أطرق أبواب الصحف باحثا عن فرصة ما تمكنني من إعالة نفسي وإكمال تعليمي إذا أمكن.
وكان أن بدأت في التصحيح وبريد القراء قبل أن أتسلل الى حقل الكتابة متهيباً، مستذكراً ما كان يؤكد عليه فوزي عابد من خطورة دور الكلمة في تنوير عقول الناس أو في تضليلهم بتزييف المعلومات أو بتحوير المواقف أو بأنصاف الحقائق، ونصف الحقيقة هو نقيضها، كما تعلمنا وكما نعرف بالتجربة واليقين.
في بعقلين تفتح وعيي، خصوصاً أننا كنا فيها عندما هدرت الانتفاضة الشعبية التي قادتها الجبهة الوطنية الاشتراكية بزعامة كمال جنبلاط، ضد »الذين جاء بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب«.. وشهدت بأم العين أحد أروع تجليات تلك الانتفاضة في مهرجان دير القمر، ثم شهدت حصادها في التبدلات التي طرأت على ساحة بيت الدين، حيث كان يقوم تمثال للرئيس الاستقلالي الأول الشيخ بشارة الخوري، الذي خلعه فساد حكمه واستغلال السلطة الذي نصب شقيقه سلطاناً مطلق الصلاحية على الدولة وعبادها الصالحين.
لو تسنى لقصر الأمير بشير أن يروي تاريخه لسمعنا عمن اتخذ من القصر مصيفاً بعده، العجب العجاب…
ثم إنني عايشت وعاينت في المختارة تعاظم دور القيادة الشعبية للحزب التقدمي الاشتراكي وزعيمه كمال جنبلاط شخصياً… كما عايشت وعاينت كيف يتحول الحليف، بعد الوصول الى السدة، خصماً شرساً لا يتورع عن اضطهاد أصحاب الفضل في وصوله، لكي يحرر نفسه من التزاماته التي حكمت اختياره رئيساً.
وفي مدرسة المختارة الرسمية، تلك، شهدنا بعض فصول الاضطهاد، حين أمر كميل شمعون، ولما تمض سنة على تسلمه موقع الرئاسة، بنقل المعلمين الثلاثة عارف وفوزي وحليم عابد »تأديباً« لأنهم حولوا ابتدائية المختارة الى تكميلية بجهدهم وعلى حساب صحتهم، ولكن من دون إذن رسمي من المراجع العليا التي وحدها تقرر مستوى تعليم الشعب!
ولقد رفض الثلاثة، ومدير المدرسة المرحوم خليل سمعان، تنفيذ هذا القرار الهمايوني، واستمروا يدرسوننا حتى أيام الجمعة والأحد والعطل الرسمية، ليؤمنوا لنا فرصة النجاح.
وهكذا تعلمنا، عبر هذه التجربة، معنى أن تكون صاحب موقف، وأن تكون صاحب إرادة، وأن تكون صاحب قرار في شأن يومك وغدك.
لقد عرفت في بعقلين، بداية، ثم في المختارة، معنى الارتباط الطوعي والإرادي بالناس والأهم: بالأفكار الصانعة للمستقبل الأفضل.
كذلك تعلمت من بعقلين، ثم من المختارة، أهمية العيش المشترك، وخطورة الحوار في أن يعرف بعضنا بعضا وأن تتوحد صورة الوطن، بماضيه وحاضره ومستقبلنا، في عيوننا، وأن نتوحد بموقفنا لنبني غدنا الأفضل، خارجين من طوائفنا بدل أن نخرج منه ونخرج عليه الى الطوائف والمذاهب.. والحرب الأهلية.
(مقتطف من رثاء فوزي عابد في ذكراه)
هديل الشرفات المهجورة
امتد الهديل سقفاً من الشجن للمدينة التي يتدفق عليها المطر أنهاراً فيغسل حيطانها من صور المسوخ وتجرف سيوله من أزقتها الفزع، لكن روحها تظل هائمة في انتظار عشاقها الذين لا يتلاقون إلا فيها ولا يحبون الدنيا إلا عبرها.
تطاول الهديل حتى طال البحر فالتهمته النوارس وحوّلته إلى عويل، فضاع الشعر ولم ينبثق الموعد فجراً ليوم جديد.
ما بين سقف المدينة وشرفة العشق أرجوحة من النجوى تذهب بحكايات الليلة الفائتة وترجع بشخوص الرواية التي لما تكتمل.
يطير رفّ الحمام في التفافات دائرية تعيده من حيث انطلق: المدى مفتوح لكن الجناح قاصر، والحارس يطارده بصيحاته وبعينيه وبالغذاء الذي صار سجناً.
المدى مفتوح للهديل وليس للحمام. ويتهاطل عليك الشعر فلا تنتبه الى المطر يبلل عينيك ويغرق الأطياف أفقا لرؤياك.
للشجن كل الفضاء، أما الأجنحة فأضعف من أن تطوّع الريح.
والمطر يغسل العذاب ويعيد للروح صفاءها المفتقد.
يهدر الرعد مبشراً الجبال بليل الثلج الطويل، فتتلفّع المدينة بإزار الضباب، وتنطوي أضلعها على الشرفات المهجورة إلا من أصداء الهديل.
متجاورين جلسا كعينين في وجه واحد: مدى الرؤية يمتد أمامهما بلا حدود لكن الزاوية مختلفة، واللقاء بينهما مستحيل.
قالت: لو أننا متباعدان لالتقينا..
قال: لو التقينا لضاع أحدنا. وحده الهديل أرض التلاقي. مبارك أنت يا حمام.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أكره تلك التعبيرات المبتذلة التي يتبادلها محبو المصادفات: أموت حباً فيك، خذ حياتي لتعيش عمراً ثانياً، أتمنى أن تقبرني بيديك! لا أرغب أن يحبني أحد بعد الموت. ليس من الشعر في شيء أن يقول واحدنا: المرحوم حبيبي. إن كان في القلب متسع لي فليكن لي اليوم لا غداً.