عن مهرجانات الهجانة و»غربة« الشعر والموسيقى والغناء و.. الأقدام!
عاما بعد عام »تتغرب« المهرجانات الفنية (ذات الطابع الوطني وشبه الرسمي) التي تنظمها لجان من الذواقة وسيدات الرقي الاجتماعي وخواجات الثقافة، فيتضاءل الهامش المحلي ومعه العربي فيها، حتى كادت مشاركة الناطقين بالضاد فصحى او عامية تصبح رمزية في هذا الموسم متعدد الانشطة.
ومع الترحيب بهذه الفرصة الصيفية للتعرف الى إبداعات اهل الفرنجة، رقصا وموسيقى (ومسرحا في حالات محدودة) وغناء متعدد النغمات والاصوات، الا ان »الوطنية« او »العروبة« تفرض طرح بعض الاسئلة المشروعة عن السر في الغياب المتصل لأي انتاج محلي او عربي، او لكليهما معا.
صحيح ان المسرح العربي في محنة، وان الغناء العربي بات أثرا من الماضي، ومثله الموسيقى التي كانت تطربنا فتشجينا، وان الرقص بأنواعه كافة، وأخطرها الدبكة، قد تُرك للفتية من الهواة و»الشوفينيين« المتمسكين بتراثهم المتهالك تحت وطأة السنين،
وصحيح ان الشعر صار عصيا على الفهم، في الغالب الأعم، وان الزجل الى انقراض،
وصحيح ان السينما العربية تترنح تحت ضربات الافلام الهابطة، ويكاد يعجزها ارفضاض الجمهور (الواسع) عن الاشرطة المكلفة، والتي لا تجد المنتج المستعد للمغامرة بتمويلها، لان المنتجين عموما ليسوا اعضاء في الجمعيات الخيرية ولا هم من أنصار التبرعات..
لكن، رغم هذا كله، فان المهرجانات، التي يفترض فيها ان تكون مواسم للفرح وغسل الروح المتعبة بأعباء التردي السياسي وضيق الرزق واشتداد الحصار من حول الارادة الوطنية وانطفاء الاحلام بالتحرر واللحاق بركب التقدم، قد تشكل فرصة طيبة لقدر من إنعاش الحياة الثقافية والفنية في مختلف مجالات الابداع.
ولقد كانت مهرجانات بعلبك في الماضي »مباراة« ولو محصورة امام المحظوظين من المبدعين في مجالات فنية متعددة: الغناء والموسيقى والرقص والمسرح، بغير ان ننسى الشعر والزجل.
ولعل كثيرا من نجوم الغناء ومبدعي تنويعات الدبكة كرقص فني جميل، قد اطلوا على الدنيا من باب بعلبك، بل ان بعضهم ما زال يعيش حتى اليوم على أمجاد مشاركاته القديمة في مهرجانات بعلبك.
وقد يتوجب علينا التوجه بالشكر الى ولي عهد دبي الذي أتاح لنا ان نحظى بعملين فنيين كبيرين ومكلفين في السنة المنصرمة أولهما من إعداد منصور الرحباني والثاني من إعداد عبد الحليم كركلا..
أما فيروز ومعها زياد الرحباني فشكرا لمحاولتهما تجديد الماضي بالاضافة او بالحذف او بإعادة الصياغة، لنستطيع من ثم الادعاء بأن ثمة مشاركة لبنانية في المهرجانات الدولية التي تقام في صيف بلاد الارز.
ان الدولة ترعى هذه المهرجانات بصيغة او بأخرى، ان لم يكن بالتمويل (كله) فأقله بالرعاية والحضور والامن والتسهيلات متعددة الاشكال والانماط..
ألا مجال لان تساعد هذه الدولة، ومعها القطاع الخاص، في رعاية مهرجان ذي طابع وطني، يكون مناسبة لتشجيع المبدعين في مختلف المجالات، مسرحيين وشعراء وروائيين ومخرجين ومطربين ومدربي رقص وراقصين وراقصات (خصوصا بعدما ثبت ان الانتقال سهل جدا من الدبكة الى مختلف أنماط الباليه والعكس بالعكس..).
ان الجمهور جاهز، والمواقع التاريخية جاهزة. وما زال ثمة من يقرض الشعر، ومن ينظم الزجل، ومن يكتب مسرحيات جيدة المستوى، ومن يدرب ابناءه على الدبكة ليس فقط بوصفها من تراث الاجداد بل بوصفها عملا فنيا متميزا يحمل طابع البلاد ويهز مشاعر أبنائها، بدليل ان دقيقة دبكة من عمر كركلا في بعلبك استدرت من التصفيق أكثر من ساعة من الرقص المهجن على تنويعات من العمل الخالد لريمسكي كورساكوف »ألف ليلة وليلة«.
ان الهبوط في مستوى الاعمال الفنية ليس قدرا، بل بالامكان علاجه، اذا ما تم الالتفات الى هذه المسألة المهمة لاتصالها بالوجدان وبالرصيد الثقافي لبلد مثل لبنان ثروته في انسانه وليس في باطن ارضه.
هل عم الظلام حتى لم يعد بوسعنا ان ننتج أغنية تخاطب العقل والقلب بدل ان تحرك السيقان والنهود والاذرع الملتوية بحركات السكارى؟!
هل نضب بئر الابداع، ام ان أموالنا حلال للاجنبي محرمة على المبدعين من ابناء أرضنا المحتلة الآن او التي برسم الاحتلال؟!
أم أنه اليأس يأخذنا الى مهاويه فننسى ما كنا نعرفه ونهرب الى شارع مونو او الى بارات المعاملتين نرمي فيها همومنا او ننساها ولو الى حين؟!
ومع الترحيب بمغنين خارج الطرب، ومطربات بلا صوت، وملحنين بلا سوابق فان اصواتا جميلة مثل سمية بعلبكي وجاهدة وهبي وعبد الكريم الشعار وخالد عبدالله وصبحي توفيق وهبة قواص وعشرات غيرهم ممن لا تحضرني اسماؤهم الآن. تستحق منا الرعاية والتشجيع، بل الاعتراف بشرعية غنائهم، أكثر مما تستحق أصوات برية مثل الشاب خالد والمؤدي الهجين حكيم والملفق الموسيقي زاد ملتقى وشريكته ذات الصوت الاوبرالي الطارئ على العربية والمنسية الا في المهرجانات..
لعلنا نقدم »طبقاً« بالعربية لأهل الفرنكوفية يا… وزير الثقافة، من خارج المعتمدين »رسمياً« من قبل لجان الاختيار الخاص ولو بتمويل القطاع العام!
خصوصاً وان »أقدامنا« ما زالت بخير.. وكذلك أصواتنا وهي تغني وجعنا الممتد بأبعد من مدى المهرجانات المهجنة!
حكاية امرأة لأربعة رجال!
بالمصادفة تلاقى الفرسان الاربعة فتشاكوا همومهم وشربوا حتى البكاء.
قال أولهم بنبرة أسى: انها تسكن روحي، لا تغادرني للحظة ولا تترك لي فرصة لكي أقرر أمري معها. انها ملاكي الحارس!
قال الثاني برصانته المعهودة: لقد بدأت أشك بعقلي، انها تخضعني بينما هي توهمني انها خليلتي وجاريتي..
تنهد الثالث بحرقة قبل ان يتفجر حنقه غضبا: لقد أعادتني صبيا مراهقا، أنتبه الى تسريحة شعري وأسرق قمصان أبنائي، وأستعيد محاولاتي البائسة لقرض الشعر. انها جنية، فمن يملك منكم فك طلاسم السحر؟!
ظل الرابع على صمته. اكتفى بأن دار بعينيه على وجوههم وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة. هتفوا به: ماذا عنك؟ هيا، أخبرنا عن أحوالك في حبك الجديد؟!
لم يكن به رغبة في الكلام. قال باقتضاب: لا جديد!
استفزه أقربهم اليه: وآخر قصة كتبتها؟! أليست لها وعنها؟!
هز رأسه بغير ان يعلق بحرف. فهتف به أبعدهم عنه: أنت أبرعنا! تستثمر حبك، فورا، في نتاجك الجديد. لعلك لا تحب الا لتكتب. بل لعلك تكتب الحب فقط ولا تعيشه، أما انا فإلى جهنم القلم والاوراق.. عن إذنك، أنا ذاهب الى جحيم لذتي!
حين انفضّ السامر قال النادل لصاحب الملهى:
أعرف رجلا تزوج أربع نساء، هذه أول مرة أرى أربعة رجال يتبارون في حب امرأة واحدة فلا هي تختار ولا هم ينتبهون…
ورد معلمه: لكننا نربح الشعر، وهو جميل حتى لو لم نفهمه تماما!
»سماوات« لمالك الحزين!
يبحر جودت فخر الدين في سويدائه، وحيدا، ويكاد يأخذ قارئه (وربما سامعه) الى »عبث يطوحنا معا«، وتكاد تخلو »سماوات« ديوانه الجديد من النجوم والقمر والنيازك والمجرات فضلا عن الشمس، مع استنتاج موجع: »الموت لا يكفي… ولا تكفي الحياة«!
لست »مالك الحزين« أيها الوسيم المتعالي الذي يصبح خوفه فوق المحيط جميلا »اذا كان لي ان أمد رجلي«..
مع »وجوه علي« تبدأ الرحلة مع الحزن وسقوط الرسالة تحت سنابك اليأس من الناس الذين أخذتهم السلطة لأنها تمسك بالارض ورزق الارض تاركة السماوات للحالمين والواهمين وأهل السذاجة من الشعراء:
»كان علي يجترح الخطو على ارض الناس/ ليرفع أيام الناس/ فيجحده الناس
»وكان يضيء فيطفئه الناس/ هي الارض، الملأ الممسوس/ هي الارض الفتنة
»خانته الارض فسار وحيدا في الارض/
يقود سماء خرجت من ثوب محمد
… يبكي قتلاه ويمشي في ليل الكوفة/ والارض خوارج او أمويون«.
مع عنوان القصيدة التالية »شوق« نفترض ان موعدنا مع الفرح قد حان، لكن جودت لا يفرح:
»شوقي يطوف بأيامي وينشرها/ في الشمس حائرة تصفر كالورق«
اما في قصيدة »سماوات« فان الشوق »سهم« طائش مني الي… ولسنا واحدا لكننا لسنا بأكثر
»هو الشوق الذي سددته فأصابني.. هل نعيش اذن سوى عبث يطوّحنا معا؟«
ومع »انتظار« لا يرى جودت، الراحل العابر المنتظر، الا المحطات تنكره دائما، والظلال التي خيبته وضحكة العابرين التي تتقي خوفه المنهمر.
القفر ينهض في لهاث جودت، وهو يستقي من وحشته روح الشجر، ويلقي ظلاله في القفار… و»الشمس فيها توقنا نحو الجهات النائيات/ وتحتها الاشجار بعض همومنا«.
تعدو السماوات القريبة خلف اوهام جودت فخر الدين، ويمضي الى قاع صمته مفعما بسريرته »مستوحشا، كالانبياء اللائذين بصمتهم.. تلك السماوات القريبة لا أصدقها، ولكن السماوات البعيدة سوف تحملني«.
وفي قصيدة »نوافذ للصيف« ينظر جودت في نفسه الآن فماذا يرى:
»انت الغريق على شرفة لك فوق سطوح المدينة/ انك انت الغريق/ فكم أنت أعلى من البحر«؟ اما في »شموس للعزلة« فان »جميع الجهات تحاذرني/ وأنا مثل سهم أحاذرها.. و»اوغل مستوحشاً في اتجاهي«.
ويستبد جودت بنفسه فيلزمها، كالمعري، بما ليس يلزم:
»أبصر وجدي، فأخلو به، ثم أكتبه/ ويشرق حظي فأحجبه/ وتحين مواعيد لهوي فأرجئها/ وتداهمني الامنيات/ يراودني نزقي كل حين فأوقظ خوفي/ ألوذ بظلي«.
في ديوانه السادس، ما زال جودت فخر الدين، يقرأ في كتاب الشجر الذي ألقاه في المياه التي صوّرتها: »وها أنني أبحث الآن عنك وعن صورتي/ في المياه التي يتألق فيها كتاب الشجر«.
ماذا لو عرف جودت وأعطانا من الفرح بقدر ما في روحه التي يسكبها شعرا في الدواوين؟!
تهويمات
قال يصف حبيبته: انها ألف امرأة تزدحم في جلباب يتسع لأوزان الشعر والحب المنثور طعاما لليمام البري..
وقالت تصف حبيبها: إنه يبعثر النساء كلمة كلمة ويجمعني حرفا حرفا، انه ينبت زنبقا في البيداء ويزرع البحر شجيرات ياسمين.
كتبت في كراسة الورد:
جاءني الظل يسألني عن صاحبه.. فلما وجدني بلا ظل اصطفاني لأونسه. اليوم لا أعرف تماما من ظل من فينا!
وكتب في كراسة الورد:
أتنفسك أيتها التي تختزلين كل النساء. تطلين عبر عيوني فأسدل عليك ستار همومي. ولكن ما حيلتي مع الليل وأنت من قبل ان تغرب الشمس تشرقين فلا يتبقى منه ما يحتاجه الحالمون.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
العمر بلا حب زمن مهدور. من يمارس مثل هذا الترف أحمق يسيء الى نعمة الحياة. ليس العمر حاصل جمع الأيام المتراكمة التي تمتد بك نحو النهايات. العمر ما أعطيت. العمر ما أعطاك. إحم عمرك بحبك، وإلا أضاعك وأضعت نفسك.