التاريخ يستقيل لأن العالم يفتقر إلى الحالمين؟!
I ليس الامر كما يبدو للذين هجروا اصولهم والتحقوا بالمهجنين الذين يحكمون العالم ويتحكمون ببشره الآن: لم ينته التاريخ. لقد قدم التاريخ استقالته. وآن ان يقرف من »صنّاعه« كما من ضحاياهم!
اذا كان هؤلاء الذين نعرف »صورهم« ونسمع »احاديثهم« ونقرأ عن »افكارهم« هم هم صنّاع »التاريخ« فمن حق »التاريخ« ان يستقيل… بل ان ينتحر!
التاريخ اكثر جدية من ان يترك امره لجورج بوش وبرلسكوني وطوني بلير وأرييل شارون وسلاطين العرب المعروفين!
***
II بسحر ساحر، وكأنما بأمر كوني لا رادّ له، سحبت من التداول حتى اختفت تماما كلمات مثل: الثورة، الاشتراكية، التقدم ومشتقاتها، الاحتكارات ناهبة ثروات الشعوب، الامبريالية الاميركية، الاستعمار الاستيطاني. الكيان الصهيوني الخ.
تمت مصادرة احلام التغيير. وفي حين يستمر احراق العلم الاميركي في شوارع الغضب فإن الذين يحرقونه »يتفاهمون« في ما بينهم بتعابير انكليزية اميركية الركاكة، ويلبسون الثياب المجردة من الذوق التي تحمل الدمغة الاميركية، ويزدردون انواع الطعام الاميركي البلا اسم، ويرقصون على وقع موسيقى الصخب الاميركي.
الاحلام ارهاب، والحالمون إرهابيون لانهم يطمحون الى ويرغبون في تغيير الواقع. أن تحلم يعني انك تفكر بالتغيير. يعني انك ضد »الاستقرار«. انت اذاً معاد لاميركا وللاميركيين. انت اذاً من أتباع بن لادن. لا تقل انك من اتباع كارل ماركس او لينين او ماوتسي كونغ. كل اولئك سحبوا من التداول. حتى سان سيمون بات نسيا منسيا، تماماً مثل أبي ذر الغفاري وأشباهه من السذج الذين احتقروا السلطة والذهب ومضوا الى قبورهم ملتحفين مثالياتهم التي لا تشتري رغيف خبز.
* * *
الصورة المتكاملة لمأساة التاريخ تتبدى في فلسطين.
من زمان كانت فلسطين هي الثورة. من انتمى إليها حمل حلم التغيير ومضى يقاتل الاحتلال والاقتلاع والتهجين والظلم.
ولأن فلسطين كانت الثورة فقد انتمى إليها أجيال العرب ما بعد 1948، وأحرار العالم، وكل حالم بالتغيير وكل عامل أو مطالب بالحق والعدل والخير للإنسان في كل أرض.
وجاء المال، الكثير من المال، والسلاح، الكثير من السلاح، والرجال، الكثير الكثير من الرجال، فاختنقت الافكار او هي أُغرقت في طوفان »السلطة«. وكان الشرط ان تقتل السلطة الثورة، فقتلتها، وضاعت منها فلسطين!
طبيعي إذاً، الآن، ان تطالب الامبريالية الاميركية »السلطة« قاتلة الثورة بأن تطهر نفسها من الفاسدين!! وان تطالبها الصهيونية بممارسة الديموقراطية عبر انتخابات تأتي الى القيادة برجال بلا ماض وبلا ذاكرة من ايام الثورة، وجهلة بتاريخ ما قبل النظام العالمي الجديد، وان يطالبها السلاطين العرب بمكافحة »الارهاب« وتطهير صفوفها من »الارهابيين« الذين حق عليهم العقاب الاسرائيلي ولو كانوا اطفالا ايتاماً للشهداء الذين اغتالتهم الحوامات الاسرائيلية، ومشردين لان الدبابات الاسرائيلية دمرت عليهم اكواخ اللجوء.
الاخطر: ان الامبريالية الاميركية والعنصرية الصهيونية وسلاطين الهزيمة العربية يطالبون »السلطة« بان تقتل فلسطين، لكي يقروا بشرعيتها ويمنحوها فرصة الدخول الى التاريخ!
كأن لا مكان في التاريخ الا للقتلة، اما الضحايا فهم الشهود على نهايته.
واكثرية شعوب الارض هم بين الشهود!
ربما لهذا قدم التاريخ استقالته، في انتظار ان يظهر من يعرف كيف يكتبه بقراره.
***
كان المفكرون، من قبل، يفتحون باب التقدم الانساني بالعقل.
كانوا يرسمون الطريق الى تحقيق الاحلام، بالعمل والتعب والعرق.
لا يصنع التاريخ بالاحلام، ولكنه لا يصنع من دونها.
عالم اليوم يكاد يكون تحت وطأة الاحتلال وتهمة الارهاب بلا حالمين.
لكن الانسان لا يعيش بلا حلم. وستعود الاحلام فيستأنف التاريخ مسيرته.
في حضرة الشعر.. مع غلاظ الوجوه ورقّتهم البالغة!
خلال اسبوع واحد كان عليّ ان اكون »الشاهد« على »الولادة المكتملة« لشاعرين من بلدتي البقاعية التي يحتضنها صنين وينفتح امامها السهل لترمق من عل بعلبك وما خلفها حتى حدود الشفق فوق سنام سلسلة جبال لبنان الشرقية.
فأما الاحتفال الاول فكان »اهليا« مزركشا ببعض الكلمات التي تركزت حول التعريف بالشاعرة وديوانها الجديد وبيئتها التي علمتها السحر، مع مقتطفات معطرة من قصائد غير منشورة حاولت سحب الجمهور خارج همومه اليومية.
اما الاحتفال الثاني فقد تم في اطار شبه حزبي قرّبه من التظاهرة السياسية وأبعده قليلا عن الشعر… وكان على الشاعر ان يبذل مجهودا اضافيا حتى لا يأخذه الشعار بعيدا عن »ديوانه« الجديد الذي تزدحم فيه الشعارات.
لا أنكر ان شعورا بالزهو كان يرفرف من حولي، فهذه الارض الفقيرة التربة المقتولة بالعطش، المسقطة من الذاكرة الرسمية، والتي تأخذ من اهلها اكثر مما تعطيهم تنبت الشعراء لانها طافحة بالحب المستعصي على الاعتراف حتى لا تلحق صاحبه شبهة… الرقة.
لا مجاملة في الشعر: يقرأ الشعر نفسه فتسمعه خلايا الروح وينسرب مع الدم في شعيرات شرايينك فإذا قلبك ينبض نشوة.
… جاء الجمهور الى »الثانوية« مرتديا ملابس العيد. يستحق الشعر ان نخرج له الملابس الجديدة… ان تتبرج له النساء وأن يعقد الرجال حول أعناقهم الربطات الملونة.
تسري الصورة عبر الكلمات المغزولة بالندى فتلتقطها المشاعر قبل الآذان، وتند عن الصدور المجرحة بحكايات الحب آهات حرى، في حين يندفع بعض المتحمسين فيصفقون وقد ادركوا المعنى من قبل ان تصلهم القافية الرنانة.
لعلها المرة الاولى، هنا، يقام للشعر حفل بخطباء وتواقيع وصور.
لعلهم، هؤلاء الذين يشبهون صخورهم، لا يعرفون الكثير عن الشعر والشعراء الذين هجروا المعلقات والمتنبي وأحمد شوقي والأخطل الصغير الى عالم من الضباب تختلط فيه الرؤى ويصعب تقدير المراد الكامن خلف الاستعارة والمجاز.
لكن اللغة تفتح قلبها لهم فيفهمون، ويلتقطون الصورة ويقدرون المعنى. هم يفضلون الابسط والأقرب الى مشاعرهم المباشرة، لكن الصعوبة تجعلهم يبذلون مجهودا اكبر من اجل ان يفهموا ابناءهم وبناتهم الذين تتباعد المسافات معهم كل يوم، ومع كل ابتكار علمي او فني جديد.
هؤلاء الغلاظ الوجوه، القساة الملامح، المدببة اصابعهم لكثرة ما تختزن من تعب معالجة الحديد والصخر والارض المتصلبة بالجفاف، يذوبون رقة وهم يطلقون الآه طربا لما يفهمونه بقلوبهم وان لم يعرفوا مواقع الكلمات في الاعراب.
ليس الشعر بحاجة الى اعلان. يكون شعرا فيصل الى الناس بغير وسيط، او لا يكون فلا تنفع مكبرات الصوت ولا الورق الصقيل ولا الطباعة الانيقة في اغراء الناس على قبوله، فكيف بحفظه في وجدانهم لاستعادته في لحظات الصفاء.
هم هنا ليقولوا انهم ليسوا أغرابا في دنيا الشعر. جدودهم وآباؤهم كانوا يدبكون وهم يغنون. وقد يضيف شاعرهم، ارتجالا، ابياتا ارق واجمل الى الشعر الموروث. وكانوا يسهرون مع العتابا والشروقي واللالا تؤرجحهم اصواتهم الغليظة بحنانها على ظهر احصنة الفخر ثم تأخذهم الى البكاء.
في القاعة عدد من النسوة للاحتفاء بهذه الشاعرة التي جاء اليها الرجال ليصغوا ويصفقوا، وقد تعودن ان يكن بين جمهور الحفاوة لا موضوعه.
لكنه الشعر… هذا السحر الذي ينبثق كالضوء، كالماء، كالفرح، يشيع في اجوائنا النشوة ويرفعنا الى الاسمى والارق والاندى. يخترقنا ليعيد صياغة وجداننا اصفى، ويغرقنا في الحب… يا ما أحلى الغرق.
(تحية الى الشاعرة ربيعة النعيمي، التي اطلقت ديوانها الثاني، والى ابراهيم زين الذي يحاول استخلاص الشاعر فيه من العقائدي… المناقبي).
العيد على باب السفر
وقف »العيد« على باب السفر فأمسكت صاحبته بيده وأدخلته قلبها بغير كلام.
قال الأب: يستحق »العيد« ان نذهب الى البعيد البعيد كي نحميه. صار العيد يتيما في بلاده.. ودول الجبروت تمنع تصدير الاعياد الى الفقراء. لا بد من القوة ايضا لكي يكون للفقراء اعيادهم.
قالت الأم: نحن اقوياء لنتحمل البعد، نحن اقوياء لنستحق الاعياد.
قالت الطفلة التي كبرت الف عام فجأة: اعرف طريق العيد… فلا تخافوا. هيا نشعل شمعة الفرح بالحياة. لن يكون العيد يتيما، ولن يبقى خارجنا. هيا ندخله.
تهويمات
مدت اليه كفها بذوب الليل فشرب وما ارتوى، وتقطر وجهها في عينيه فرأى ما لا يُرى.
اندفع يجوس داخل الغابة المكتظة بحضورها ولا يتوه. وحتى حين ظللته العتمة تمدد مرتاحاً وشرع يقرأ لها افكارها لكي تعرفه اكثر.
***
تهاوت الكلمات عند جدار الشبق، واحترق الصدر بالانفاس التي حبسها الشوق الى الاعتراف.
خرجت من الحكاية، فجأة، لتقول انها عطشى. دخل الحكاية ليرتوي.
استذكر فصولا من طفولته فأخذ يرويها بمتعة المزهو بأنه كان صغيراً ذات يوم.
كلما جلس إليها احتلت طفولته الحضن واتخذ الرجل موقع الراوية.
نبرت فجأة: تعال الى صدر امك.
تداخلت الادوار: كيف تكون اما لأبيها؟!
شاغبت الطفلة على ام ابيها حتى بلغت حضن الرجل. هدهدها ليبعد عنها النوم، فأخذها الصحو إليه.
معكِ تجيء اليّ طفولتي. وتحضر أمي لتشهد ولادتي الثانية وتطمئن الى انني قد بلغت مبلغ الرجال.
***
انفجر الليل فاحترقت الغابة الظليلة حتى لم يتبق منها الا امرأة عارية الظنون.
قالت: انت مأواي.
قال: تأكل النار مأواها.
قالت: لا تقبلني مطفأة، وتخاف من اشتعالي، وأنت الماء والحجر.
قال: كانت الغابة وكنا… فلماذا استعجلت الهبوط؟
قالت: لم اعرف فيك الحدود بين الجنة والجحيم، ولست ملاكا لأُمضي العمر أرى ولا أرى، تمر بي العواطف فلا اميز بين الغضب والرضا، بين الكراهية والحب، بين الاحتراق بالثلج والانطفاء بالصد. الجحيم ان يستقوي الرجل بحاجة امرأة اليه.
قال وهو على حافة البكاء: تتسع امرأة واحدة للنعيم والجحيم والمطهر أيضا!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
علمتني امي ان الاعتراف بالحب ضعف. علمني ابي ان المكابرة في الحب غباء. اما حبيبي فقد علمني ان الحياة اجمل من ان نضيعها بين محاولة قهر الضعف او محاولة تخطي الكبرياء… الحب لا يقع تحت وصف. انه مصدر الاوصاف. ومن يفلسفه هو ذلك المحروم منه. كيف تخرج من الحياة لتصفها. عليك فقط ان تعيشه فيها او تعيشها به.