اليمن الموحد: خارج جنة عدن، خارج مملكة سبأ!
لا أثر للجنة في عدن، وبالتالي فإن سقوط »بدو الشيوعية« فيها لا علاقة له بمدى قربهم أو بعدهم عن الإيمان وطقوسه والتزاماته العديدة.
ولا أثر لمملكة سبأ في صنعاء، ومع ذلك فإن علي عبد الله صالح يفترض انه من موقعه على رأس القوات المسلحة والتحالفات العشائرية يقارب دور »بلقيس« في خطوته.
والذكريات التاريخية لا تطعم خبزا ولا تصلح سندا لقيام دولة قوية وعادلة. ولعل الخبز كان أعظم دورا من السياسة في سقوط »الانفصال« الذي كان شطر اليمن يمنين، في مثل هذه الأيام لعشر سنوات خلت.
مع الخبز أو الوعد به كان لا بد من دعم أميركي لإنهاء المرحلة التي »تسلل« الاتحاد السوفياتي فيها الى جنوب اليمن، مستفيدا من التماهي الذي نشأ في أعقاب هزيمة 1967 بين الحركة القومية وبين الماركسية و»دولها«، في مواجهة الغرب عموما والاحتلال البريطاني الذي دام دهرا لذلك الميناء الملتقى بين البحار والمحيطات جميعاً، عدن.
وفي زيارة قصيرة لعدن قبل ثلاثة شهور حاولت أن أتلمس إنجازات »جمهورية اليمن الديموقراطي« والتي امتدت لأكثر من عقدين، فلم أكد ألمس ما يدل على ان »الرفاق« الذين حكموا هناك قليلا، واقتتلوا كثيرا، قد تركوا في الأرض ما يستدر الرحمة على عهد الرايات الحمراء والشعارات المستوردة والطرائف الهجينة كمثل ان يختم المذيع برنامج التلفزيون بالقول: »تصبحون على ماركسية لينينية«.
ما زالت الأرض البركانية المحروقة مجدبة عموما، إلا في بعض البقاع التي تختزن شيئا من الماء… أما المطار الذي بحجم بلاد، والذي كان أعظم قاعدة عسكرية بريطانية في المنطقة فضلا عن انه يقوم على أعظم ميناء، فقد بوشر بالإفادة منه »كمنطقة حرة«، جاءت مع الوحدة التي استدعت قتالاً ضارياً، مع شيء من الغطاء السياسي الأميركي وبالتالي التأييد العربي الواسع، بينما كان الاشتراكيون القدامى الذين عرفوا الطريق الى المملكة المذهبة الجارة قد غدوا أيتاماً بسقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره العظيم.
أما جمهورية اليمن، التي أسقطت بعد التوحيد كلمة »العربية« من اسمها الرسمي فقد اختلفت صورتها كثيرا عنها في التسعينيات، وأطلت ملامح التقدم عبر الكهرباء والطرقات والهاتف الخلوي ووسائل المواصلات، والارتفاع في مبيعات القات، ونسبة الرشوة، وأحاديث الفساد المستشري في الإدارات، وخطورة دور »الإسلاميين«في التربية ثم في السياسة، والهمس باحتمالات الوراثة على رأس السلطة.
***
في زمن الغلط واهتزاز اليقين، جاءت وحدة اليمن لتعيد الاعتبار الى البديهيات التي كانت الهزيمة قد انزلتها الى خانة المحرمات وكأنها من اعمال الارهاب!
كان حُكم على اليمن ان يعيش حالة انفصام، يصارع بعضه بعضا تحت ضغط مقتضيات الصراع الدولي وانعكاساته العربية، فوضعت الايديولوجيا في مواجهة الانتماء الوطني، وتم تقديم مصالح الاجنبي على الحق المشروع للشعب الواحد في ان يؤكد رفضه للانقسام على ذاته.
وعلى امتداد عشرين سنة او يزيد كان على الناس أن يعيشوا سلسلة من المفارقات غير المقبولة:
أبسطها ان »نتقبل« ان اليمني العائد الى التاريخ بعد غياب طويل هو »اثنان« فرأسه غير صدره، وكلما حاول المشي افترقت ساقاه فانحرفت اليمنى في اتجاه الصحراء، وأخذته اليسرى عبر البحر الشاسع الى البعيد البعيد.
كان اي تبرير للانفصال لا يؤدي الا الى ترسيخ الايمان بالوحدة، ومن ثم فقد كانت الشبهات تتحول الى اتهامات صريحة لهؤلاء الذين يفتدون مناصبهم بحق شعبهم في الحياة، والى إدانة لكل مسؤول يقدم مصلحة الاجنبي، ولو صديقا، على حقوق بلاده البديهية وأولها وحدة شعبها ووحدة ارضها وسيادتها مع تأمين مصالحها العليا.
وعبر التجربة اليمنية فُرض على الناس نمط من الانقسام المفتعل غير المبرر، اذ صورت الديموقراطية وكأنها نقيض الوحدة، وصورت العدالة الاجتماعية وكأنها الارتهان للارادة الخارجية، وصورت المذهبية وكأنها البديل الافضل من الوطنية، وصورت السلفية وكأنها بديل من الاسلام الحق.
ومع الايام صار الغلط، في الشطرين، يبرر نفسه بالمزيد من الغلط، فكان بديهيا ان تنتهي مسيرة الغلط بالحرب بين الاخوة ليكتسب الانفصال مبررا دمويا اخطر اثرا على المستقبل من مجرد الاختلاف السياسي.
من السهل الآن ادعاء الحكمة ومحاكمة الماضي بمفعول رجعي في ضوء ما ادى اليه انتصار الصح باستعادة اليمن وحدتها، وسقوط اوهام »الدولتين لشعب واحد«، لكن الأهم هو اعادة الاعتبار الى الشعار السياسي:
فلا الوحدة نقيض الديموقراطية، ولا مصدر لقوة الدولة الا مواطنها المؤمن بها كإطار لرفعته وتقدمه ووصوله الى حقوقه المشروعة، فلا جيشها يغني عن شعبها او يستقوي عليه، ولا اصحاب السلطة هم مصدر الشرعية ولا هم بطبيعة الحال اصحاب البلاد وخيراتها.
ليس في الوحدة منتصر الا الوطن، اما الهزيمة فللخطأ ولمن قاتل لحمايته.
واذا كانت الوحدة قد اطمأنت الى رسوخ دولتها فإن مسح آثار الماضي وأخطائه سيكون بالصفح والغفران، خصوصا وان »الانفصال« قد بات خارج ذاكرة اليمنيين، فإن استذكروه فمن باب التنبه لمخاطره، او لتوكيد مغايرته للطبيعة.
لقد مضى زمن الغلط، ودولة الوحدة هي الآن امام الامتحان. لا يكفي ان ننام على امجاد هزيمة الانفصال واندحار الانفصاليين. من حق المواطن اليمني ان يلمس الآثار الخيرة للوحدة المستعادة في حياته اليومية، والأهم في تأمين الطريق الى مستقبله الافضل.
ومع الأخذ بالاعتبار المصاعب الهائلة التي تواجهها دولة الوحدة الوليدة، وأبرزها الفقر والنقص في الموارد والكادرات المؤهلة، وغلبة الطابع العشائري على التوجه نحو المؤسسات، فإن الضرورة تقضي بالتخلص من روح المساومة وتغليب القانون وتثبيت قواعد المحاسبة على القصور (او الانجاز).
الدولة تقوى بشعبها لا عليه. ولا دولة قوية في مجتمع ضعيف تنخره العصبيات وترسبات التخلف الاجتماعي، ويخدره »القات«.
(*) »مساهمة في الاحتفال بذكرى توحيد اليمن«
»الجاليات العربية« تبحث عن جزر التلاقي في »الغربة«: تحية لتريم عمران
صار التلاقي بين »المواطنين« العرب فرصة نادرة كالعيد.
صارت »الحدود« بين الدول العربية سدودا من حديد، وأحيانا من نار، وتضاءلت حتى انعدمت اللقاءات بين »المواطنين« في قطرين متجاورين، تربط في ما بينهم عبر أسوار الجوازات والجمارك صلات القربى والمصاهرة والأنساب والعواطف والاشتراك في ملكية الأرض التي كانت عقارا واحدا فصارت دائرة عقارية كاملة!
صار التنقل بين الأقطار العربية أصعب بما لا يقاس من السفر الى الخارج، فتأشيرات الدخول ل»الرعايا العرب« تحتاج الى شفاعات ووساطات لتجاوز الريب والشكوك والتساؤل عن »الغرض من الزيارة«.
ممنوع على غير الأغنياء حتى »السياحة« للتعرف الى »بلادهم الجميلة«.
للمناسبة: الدخول الى شرم الشيخ، وبطائرة »تشارتر« غير نظامية، اسهل ألف مرة من دخول القاهرة في رحلة نظامية. فمن أجل تنشيط السياحة في ذلك المنتجع الجميل والمستقطع من بر مصر، يتم ختم الجوازات على الطائرة وتغادر المطار الصغير في دقائق، أما في مطار القاهرة فالإجراءات قد تستغرق اضعاف مدة السفر، وربما نصف مدة الإقامة لزوار الأعمال!
أمام الأغنياء القادمين للاستثمار تتهاوى الحدود، بمعزل عن طبيعة استثماراتهم ومجالاتها ومدى فائدتها للبلاد المعنية وطوابير فقرائها الذين لا يجدون فرصة عمل كريم.
كل مواطن عربي مشبوه في عين السلطات في القطر الاخر،(فضلا عن سلطات بلاده) حتى يثبت العكس ونادرا ما يثبت: لماذا يجيء إلينا؟ ماذا سيفعل هنا؟ هل يريدنا أن نصدق أنه سائح هذا الذي تكشف ضآلة دولاراته أنه »متسلل« جاءنا ليسرق واحدة من فرص العمل الضئيلة من أمام عمالنا؟! أم تراه مكلف بمهمة؟!
أما الأجنبي فيعبر مرفوع الرأس، تستقبله تحيات ضباط الأمن ولا يفتش رجال الجمرك حقائبه، ولا يسأله أحد كم يحمل من الدولارات ولماذا… لكأنه مصدر للأمان والخير الأكيد!
ما أريد الوصول إليه اننا، كعرب، في حالة غربة شنيعة، لا يعرف حتى »الخبراء« منا الحد الأدنى من المعلومات عن القطر الآخر، ولو كانت أرضه في مدى بصرك منذ الولادة، وكان النصف الثاني من عائلتك يتمتع بالمواطنية فيه.
… وها ان الموت يختطف بالتتابع جيل الذين كانوا يعرفون الحد الأدنى من الناس والمعلومات عن الأقطار العربية الأخرى.
ماذا يعرف يمني عن الجزائر، بل تونسي عن الجزائر، أو ليبي عن سوريا، أو مصري عن العراق، أو سوداني عن البحرين الخ؟!
تحكمت »السياسة«، أي العلاقات بين الحكام، بالروابط بين المواطنين حتى كادت تلغيها.
ولقد تابعت »المراثي« التي كتبت في مختلف ديار العرب لفقيد الصحافة العربية، بل العمل القومي العربي، تريم عمران، وأنا تحت وطأة الشعور الثقيل بأن الانفصال بات أثقل من أن نطيق حمله. لقد تباعدنا فصرنا أغرابا. بالكاد يعرف »المطلع« منا بضعة أسماء »عربية« من الأقطار الأخرى، بعيدُها والقريب.
ان الأجيال الجديدة لا تعرف عن العروبة والعرب، إلا ما ينفرهم منها ومنهم.
ومع رحيل من تبقى من »الجاليات العربية« في البلاد العربية ستنقطع نهائيا تلك الصلات التي كانت ترسخ اليقين.
ولن تكون الشارقة، مسقط رأس تريم عمران، ما كانته، وهو يقوم بدوره الريادي فيها… بل ان دولة الإمارات كلها قد أصابها نقص من الصعب تعويضه بعد غياب هذا العربي المصفى، المستنير بالاجتهاد، العميق الإيمان، بغير ان يقعده يقينه عن قبول الآخرين، رجالا وأفكارا، المنفتح للحوار مع كل المختلفين، فلا هو بالمنغلق ضيق الصدر رافض الآخرين، يخاف من المواجهة والمجادلة، ولا هو بالخفيف ضعيف الحجة، الذي يخشى على منطقه من المجابهة مع أصحاب الرأي الآخر.
على امتداد سنين طويلة كنا نواكب النجاح الباهر لتريم عمران و»الخليج« التي باتت قلعة عربية تؤدي دورا طليعيا في نشر الوعي، وتوكيد الهوية القومية، وتشكل مظلة حماية »للوافدين العرب« العاملين في أرض الثروة، ضمن جو من التزاحم غير الشرعي وغير المتكافئ مع الكثرة الغالبة من »العمالة الأجنبية«، التي كان »الحامي البريطاني« قد فتح لها أبواب أقطار الخليج على مصراعيه، ومكنها من ان تكون الأقرب الى مواقع القرار.
والأهم أن تريم عمران أقام دارا جامعة للعرب في »الخليج«، نتمنى ان تستمر بعد غيابه، لكي تظل أرض لقاء بين »الجاليات العربية« التي تعيش حالة غربة في أقطارها، وبالكاد تتلاقى في بعض جزر الأحلام خارجها!
حكايات مبتورة
لم يكن في السماء قمر، وكانت الغيوم الكثيفة تكتم أنفاس النجوم وتضفي على الطبيعة حالة من الوجوم الكئيب… مع ذلك فقد رأى على صفحة البحر الملامح الرقيقة لوجهها وقد شع بابتسامة فرح عريضة. حاول ان يقول شيئا فسقط منه الكلام، أما حين التفت الى الخلف فقد سحبه الموج بعيدا حتى أغرقه في زبد أحلام اليقظة!
وحمد الله، في سره، على ان الليل ستّار العيوب.
* * *
جلسا صامتين في المقهى الممتلئ حتى بابه بالزبائن. كان الحوار أصعب من المشي على حد السيف، والصمت طوق يشد على أعلى العنق. شعر بجفاف في ريقه، وفكر في أن يقول شيئا ثم بدّل رأيه: كلمة واحدة وتكون الحرب.
قام الى العازف يرجوه أن ينقذ الغريق… وعاد آملا ان يذهب الغناء بالتوتر ويفتح الباب لهدنة تسمح بأن يتعلم التهجئة الصحيحة للكلمات التي لا تحتمل فراغ المعنى.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا يهبط الحب عليك بالمظلة، إنما يرفعك إليه بجناحين من اللهفة والشوق الى التجدد… والفاشل في حبه هو ذلك الذي لا يستطيع أن يتخلص من خوف السقوط. هل تعرف عيادة لعلاج »مرضى الارتفاع«؟!