عن النهايات المرجَأة والنخب المهمَّشة والسلطة والشارع!
طُلب إليّ أن أعدِّد التحديات والمخاطر، في حقبة ما بعد 11 أيلول… ولكنني لست من الخبراء في الإحصاء لكي أقدم كشفا إجماليا بالتحديات، وهي كالمخاطر لا تقع تحت حصر، لكنني سأعدّد منها ما يخطر في البال على الفور:
{ التحدي الأول: إننا أمام نهايات مرجَأة لأنظمة وقيم وأعراف وتقاليد وطقوس ومؤسسات، ماتت سريريا منذ زمن بعيد، ولكنها لم تجد من يعلن وفاتها ويتولى دفنها… ولذلك سببٌ موضوعي، فقد ألغى القائم بالأمر كل قوى التغيير المؤهلة أو المحتمل أن تتأهل لإسقاط منظومة حكمه نهائيا وإزاحتها من طريق الغد، فبقيت حاجزا دونه، أي أن الانظمة إنما تستمر بقتل بديلها، فتعوم في الخواء وتُغرقنا فيه.
{ التحدي الثاني: إننا لا نملك خطة أو تصورا واضحا لما نريده في غدنا. حتى ما تبقّى أو ما تم استيلاده، على عجل، من قوى التغيير، إنما هو يشبه مضطهده، وقد اكتسب فعلا الكثير من ملامحه واساليبه في العمل، أخطرها »اليأس من الشعب«… وعموما فإن هذه القوى تتحرك بردّ الفعل، وهي تبدو وكأنها مجرد امتداد للنظام في موقع المعارضة، أو أنها الصورة السلبية له، وهي في كل الحالات عاجزة عن صياغة برنامج للانقاذ.
وبعيدا عن أهل الحكم والسلطات والسياسة، فإن نخبنا التي تم تهميشها على امتداد عقود، قد فقدت قدرتها على التأثير، بل إنها فقدت الثقة بنفسها، بمنطلقاتها الفكرية وقيمها الاخلاقية، بتراثها الديني وباقتباساتها المعاصرة، فغدت مجموعات معزولة ومنعزلة عن بعضها البعض، تتذبذب بين الموروث الثقافي والديني الذي بات مصدرا للشبهة وعنوانا للتخلف، وبين استعارة ثوب لا يناسبها من ثقافة الخارج وقيمه، أي أنها تنفي نفسها الى ثقافة ليست لها، بل ان التوغل فيها تحقير للذات ومحاولة تزلّف الى من لا يعترف بك إلا كملحق هزيل وهجين ولا دور له في أي غد.
{ التحدي الثالث: هذا الشعور المتنامي بأن لا مكان لنا! نعيش على الغفران والإحسان والتجاهل القاتل!
صارت انتصاراتنا تتلخص في تأمين فترة سماح أو فترة عفو جديدة، ومؤقتة، من إبادة مقرَّرة… والأخطر أننا فقدنا الشعور بالجدارة، والأهلية للانتماء الى العصر.
ننتصر إذا ما نجحنا في استنقاذ الفلسطيني لندّعي نجاحا لقمة لا نملك قرارها، تاركين فلسطين تحت مقصلة ارييل شارون، وننتصر إذا ما نجحنا في تأجيل حرب أميركية معلنة ضد العراق، بينما كل قواعد انطلاقها في ارضنا (و»نا« هنا نظرية) وتمويلها من أرصدتنا المصادَرة، مبرراتها من سلوكنا »الارهابي« الذي يهدد العالم المتحضر.
أما أهم المخاطر فهي أننا لعجزنا بتنا نحقّر أمتنا ونمتهن انتماءنا اليها ونتنكر لمقدساتها، لا نعرف كيف نفتح أبواب ديننا لشمس العقل حتى لا يظل أداة قمع في أيدي المفسرين الذين يعينهم السلطان، تصوره مجافيا للديموقراطية والعدالة وحقوق الانسان.
إننا محكومون بأبناء الماضي الذين لا يجدون أمانهم إلا فيه.
إننا نهرب من المقاومة، التي تتقنها هذه الأمة كل الإتقان، كما أكدت المواجهات مع الاحتلال الاسرائيلي في حروب 1956 والاستنزاف و1973، وكما أكد النصر بالتحرير في لبنان، وكما يؤكد الوهج المقدس والواعد بالنصر في فلسطين اليوم، لو تيسر له من يرعاه ومن يوفر له الحد الأدنى من الدعم.
إن التحديات في الداخل، ولا تجيء من الخارج، وأنظمتنا اليقطة ترى المخاطر في الداخل، أي في شعبها، في دينها، في لغتها، في إصرار شعبها على حقوقه في التعبير عن رأيه بحرية، عن ممارسة الانتخاب ديموقراطيا، وعلى أن يتولى بنفسه تحرير أرضه بعد تحرير إرادته.
من زمان خرج النظام العربي من دائرة المواجهة مع الخارج، سواء أكان هذا الخارج اسرائىل أو الولايات المتحدة الاميركية، وحصر همه بتطوير الداخل لأغراضه، ولانضباطه داخل المخططات الاميركية ومن ثم الاسرائيلية.
إنه منهمك ومشغول كلية في تحدياته مع الداخل: يخاف تزايد عدد المتعلمين فيفسد نظام التعليم، وارتفاعَ الأصوات المطالبة بحقوق الأجيال الجديدة في المشاركة في الحياة السياسية فيعيّن المطاوعة في مجالس الشورى، أو يفبرك مجالس تشريعية بانتخابات مزورة علنا، يغيب عنها الناس وكل مشكوك في ولائه… أي كل الناس!
لقد كشف رعب هذه الأنظمة من الغضب الأميركي وتنازلاتها المهينة أمامه، أن الحماية الخارجية شرط لوجودها… بل لعلها تطلب، يوميا، من اسرائيل، الشهادة بحسن سلوكها، عن طريق امتناعها عن مساعدة شعب فلسطين وتركه يواجه بلحمه الحي آلة الحرب الاسرائيلية الهائلة، معيبا على فصائله أن تقدم على تهريب السلاح، ومؤاخذاً بعض قوى المقاومة خارج فلسطين على محاولة توصيل السلاح إليه.
وفي العديد من الأقطار العربية يكفي حدث طبيعي أو حادث طارئ، فيضان، هزة، انقلاب قطار أو احتراقه بركابه، ليكشف أن السلطة في الشارع، ولكن ليس ثمة من هو قادر على أخذها.
*مقتطف من كلمة في »الأيام الثقافية« التي تنظمها »دار المدى« في دمشق
دكتوراه للحبيبين العابدين
لم تمر الأيام عبثاً، وها الصبية الندية التي عرفناها زميلة دراسة، ثم مدرِّسة فمديرة لمدرسة المختارة للصبيان قد غدت »دكتورة«، وبجدارة، فضلاً عن أنها أم لمجموعة من حملة الشهادات وعلامات النجاح!
ليس أمتع من أن تكون، من موقع التلميذ، شاهداً على قصة حب يعيشها أستاذك، وتنتعش بها مدرستك فتتوالد الحكايات ويتوزع الفتية والفتيات مهمات الرقابة والتلصص واستراق السمع وضبط اللفتات واصطياد النظرات الطائرة ولمسات المصادفة. ولأسابيع طويلة حافلة بالهمسات حاملة الشائعات والأخبار، عشنا فصولاً من قصة حب العابدين »حليم ومفيدة« في أرجاء المدرسة التي كانت قصراً للست شمس جنبلاط قبل أن تصير منهلاً للعلوم جميعاً بما فيها كيف يصير التلامذة، والأساتذة من قبلهم، محبين وكيف يرتقون معارج الحلم نحو الخاتمة السعيدة فيستولدون بيتاً للنجاح بل وللتفوق.
دار الدهر بالناس دورات كاملة، وبَعُد المزار، لكن الحب ظل يطرح أزاهيره متخطياً الحزن الذي دهم الأسرة مبكراً فغيّب عمادها الذي توجه إليه الإهداء، تاركاً لمفيدة أن تكمل الرسالة مع وفاء، ندى، عماد، سلام، وائل، هبة وعلاء.
… وها هي مفيدة عابد »دكتورة« وها رسالتها »التنوخيون في لبنان مواقفهم السياسية تحالفاتهم العسكرية، دورهم الديني والحضاري«، صارت »كتاباً من 440 صفحة، وقد صدرت بإشراف الدكتور جوزف لبكي، مدير كلية الآداب والعلوم الإنسانية الفرع الثاني.
الكتاب الأطروحة ليس مجرد دراسة في تاريخ التنوخيين، بل يكاد يكون »مرافعة« دفاع عن »الموحّدين«، الذين لا يمكن تجاهل دورهم في تاريخ لبنان العربي »كفئة متأثرة ومؤثرة، أسهمت إسهاماً فعالاً في التاريخ الوسيط والحديث ضد الأجنبي.
الدراسة تركّز على دور التنوخيين في أيام المماليك والعثمانيين بصورة خاصة، لا سيما »وقد اتهم البعض التنوخيين بالعمالة تارة للحاكم الداخلي (كالمماليك والأتابكة) وتارة للمحتل الغربي (كالصليبيين)… وهي تستخلص أن التنوخيين »قد علّمونا قبل كل شيء البُعد عن الانتماء السياسي الطائفي وكانوا حماة الأرض والشعب بل كان ارتباطهم بأرضهم مساوياً لحياتهم التي كثيراً ما بذلوها في مضمارين: الحفاظ على الكرامة والشرف، والحفاظ على الأرض«.
وقد يثير الكتاب ردوداً، وقد تثور من حوله المناقشات والمساجلات، لكن مفيدة عابد أدت واجبها تجاه الذكرى الحميمة وصاحبها الذي لا يغيب عنها… والذي يمكن اعتباره »المؤلف« الثاني المستتر لهذا الكتاب، بل لعله الكتاب الذي أوقفه دون إنجازه الغياب الذي جاء قبل أوانه بكثير!
الراقصة على أطراف ابتسامتها!
للارتجال إبداعاته، وبينها ان يتحول ذلك اللقاء الذي تم خارج التوقع الى هنيهات من النشوة والانطلاق التي استولدت ذاتها من ذاتها…
البداية غلط، والغلط مقصود. كأنك لا تريد ان تعترف بحقيقة ما حصل!
صحيح ان السهرة ارتُجلت ارتجالاً في قلب المصادفة، وانه كان على الساهرين ان يبتدعوا كل شيء: مواضيع الحديث بين متلاقين على غير موعد، في بيت صديق هو وحده من يعرف الجميع ويعرفونه، ومن ثم مباشرة التعارف بشيء من الحذر، البلد ثم الجهة ثم المدينة او القرية ثم العشيرة او العائلة (كتحايل لمعرفة الدين او الطائفة؟)…
عند منتصف الليل تقريباً، وكانت احاديث المناسبة والنكات المعادة قد جف ماؤها تماماً، صرخ احدهم: أليس في هذا البيت موسيقى؟!
عندئذ، وعندئذ فقط، حدثت المعجزة: انفرجت الاسارير، واكتشف احدهم ان له صوتاً مقبولاً، واكتشف آخر انه يحفظ الكثير من اغاني ايام شبابه، ثم اكتشف الجميع »المرأة« التي ستكون نجمة ليلهم الممتد الى اول خيوط الشمس!
قامت بغير طلب، فدارت في »الحلبة« برشاقة مفتتحة الرقص.
بعد دقائق تشجعت امرأة اخرى فقامت لتشاركها، مجاملة، في إدخال البهجة على الساهرين.
بعد ساعة كان الجميع يرقصون: تعددت الاساليب والخطوات والارتجاجات وانطلقت الانفعالات المكبوتة محتمية بشيء من الغربة التي تستر الفضيحة المحتملة.
لكنها ظلت »النجمة« بلا منازع: تعب من تعب فعاد الى مقعده يجرجر قدميه، واستمرت… تبدلت الاغاني والالحان من هادئ ناعم الى صاخب مدو، فكشفت حركاتها عن عمق إحساسها بالموسيقى.
رقصت فوق ظلال الساهرين، بعدما تبرع بعضهم بإخفات الضوء »لتسري النشوة في العروق حتى تبلغ النخاع«، كما قال فقيه السهرة.
رقصت على اطراف ابتسامتها.
رقصت فوق بساط من خدر الساهرين.
رقصت فرحاً، رقصت قهراً، رقصت حقداً، رقصت مرارة، رقصت بكاء، رقصت شهيقا، رقصت حرقة…
رقصت على وقع قهقهاتها التي تتجاوز البكاء وجعاً.
رقصت فوق بساط من خدر الساهرين.
راقصت الساهرين واحداً واحداً ثم رمتهم واحدا واحدا، واستمرت ترقص لنفسها حتى داخ الجميع وغاب كلٌّ مع من في باله او مع ما في خياله.
وحين اكتفت او اكتوت بما ارادت ان تنساه، فكت الشال من فوق خصرها، وقهقهت حتى بكت، ثم دخلت واحدة من الغرف واغلقت الباب على ضحكتها الاخيرة.
وقام الساهرون للانصراف وهم يمشون على اطراف اصابعهم حتى لا يفسدوا عليها الهدأة التي ما وصلت اليها إلا وقد شارفت على الانتحار!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة الا الحب:
أعط حبيبك كل ما عندك ولا تخف، سيجددك الحب، وسيجددك حبيبك فتجد كل يوم، كل ساعة، كل ثانية، ما تعطيه، ويجد ما يعطيكه فتتجددان. أكثر ما يجدد الحبَّ حبُّكما الآخرين. لكأنما هم مصدر المدد.