الصحافة العربية تدخل مرحلة الشيخوخة قبل أن تكتمل ولادتها
هل هرمت »الصحافة العربية« الجامعة لهموم هذه الأرض الفسيحة المحكومة بالعجز والفقر والصمت حيث الذهب الأسود المخزون إرثاً هائلاً كان يمكن أن يغيّر المصائر والمقادير، وقد غيّرها فعلاً الى غير ما يريد أهلها؟!
هل هي الشيخوخة قد أصابت المحاولات لاستيلاد صحافة عربية، بمعنى الشمول في التغطية والاهتمام بحياة عشرات الملايين الذين آمنوا، ذات يوم، بأنهم ينتمون الى أمة واحدة، ولهم أحلام واحدة ومصالح واحدة في الحرية والديموقراطية والتقدم، ولهم هموم واحدة وعدو »قومي« واحد، تدعمه وتحميه وتمده بأسباب الحياة القوى الدولية المعادية لهم في أحلامهم ومصالحهم المشتركة؟!
هل هي الشيخوخة قد ضربت مشروع »الصحافة العربية«، أم أنه مرض »السياسة العربية« قد ضرب الصحافة، في جملة ما ضرب من »مؤسسات« وليدة كانت تسعى لتجسيد الحلم المشترك بين هؤلاء الذين زرع في قلبهم جغرافياً وسياسياً العدو الذي سيضعفهم جميعا وسيبعثر صفوفهم وسيكشف أسباب الفرقة الكامنة، وسيخرج الى السطح أمراضهم الاجتماعية ومظاهر تخلفهم وانقساماتهم حول قشور الدين، وكلها معاً ستتفجر حروباً في ما بينهم أو حروباً أهلية داخل كل بلد عربي، لأسباب سياسية في جوهرها، ومنبعها العجز وان تلطت بذرائع طائفية أو مذهبية أو إيديولوجية (حتى لا ننسى اليمن الديموقراطي أو حرب الصحراء بين المغرب والجزائر على بدعة البوليزاريو)؟!
ما يعنينا هنا »الصحافة العربية«، وخطر اندثارها ولو كمشروع.
أول القول الإشارة الى عدد »الصحافيين العرب« الذين يعرفون الحد الأدنى من المعلومات الضرورية (التاريخية، الجغرافية، فضلاً عن الاقتصادية والاجتماعية بل والتركيبة البشرية) عن الأقطار العربية، القريبة من بلادهم أو البعيدة عنها، يكاد يعد على أصابع اليدين.
ليس في صحافة المغرب إلا نفر قليل من الزملاء يعرف أوليات الأوضاع في أقطار المشرق، وربما في بعض أقطار مغربه.
وليس في صحافة المشرق إلا عدد محدود من الزملاء الذين أتيحت لهم فرصة التعرف الى حقائق الأقطار العربية الأخرى، مشرقية كانت أم مغربية،
لكأنما »الصحافي العربي« في طريقه الى الانقراض من قبل ان تكتمل ولادته شرعاً.
لا صحافة عربية في الوطن العربي..
ثمة صحافة محلية في كل قطر، وهي في 99 في المئة من الحالات حكومية أو شبه حكومية، وبالتالي فهي معنية كما حكومتها بالشؤون المحلية.
الخبر العربي في الصحافة العربية هو، في الغالب الأعم، خبر »دولي«، تنقله وكالة أجنبية، وتنشره الصحف بغير تدقيق أو إضافة… ونادرا ما تعلق عليه، لأن من سيتصدى للتعليق لا يعرف ما يكفي عن البلد المعني، وان عرف فمعرفته لا تتجاوز الأوليات.
ان السياسة الرسمية لكل حكومة عربية هي سياسة محلية… والبعد القومي لسياستها هو آخر ما يعنيها. والذريعة انها تهتم بمواطنها، بحياته اليومية، بمعاشه وصحته وتعليمه وسكنه.
قال لي مجادل: ان حكومتنا من ثلاثين وزيراً، وللخارجية وزير واحد والباقون كلهم للمحليات. نسبة اهتمامنا إذن بالشؤون العربية هي واحد الى ثلاثين، ثم ان هذا »الواحد« يمضي معظم وقته ويصرف جل اهتمامه على الشؤون الدولية كمساعد للسلطان أو مترجم.
* * *
لا صحافة عربية ولا صحافيون عرب لأن لا سياسة عربية.
لقد تراجعت الأحزاب والتنظيمات والقوى السياسية ذات الشعار القومي حتى كادت تندثر. معظمها قضى شهيداً للسلطة التي أقيمت باسمه.
كذلك اندثرت المؤسسات النقابية ذات الطابع القومي: من يسمع الآن بالاتحاد العام للعمال العرب؟! من يسمع بالعمال العرب أصلاً، وهل للعمال في أي قطر نقابة جدية؟ وطالما لا نقابة جدية فكيف سيكون ثمة »اتحاد« يجمع الاتحادات »القطرية«؟!
الجديد الذي أطل على الدنيا العربية فأشاع مناخا من المعرفة والترابط ولو العاطفي هو التلفزيون، وبالتحديد الفضائيات العربية.
وشكراً للانتفاضة انها »فرضت« موضوعاً عربياً مشتركاً على هذه الفضائيات التي كانت قبلها مشغولة إما بالمسلسلات المكسيكية وإما بالإنتاج المغرق في محلياته، وإما بأخبار الحكام العرب من صحتهم الى استقبالاتهم الى زياراتهم الدولية الفائقة الأهمية!
وعلى امتداد عقود ظل التلفزيون »العربي« في أي قطر، وهو رسمي بالضرورة، ينتقل بعد جرعة هائلة من المحليات المملة الى الأخبار الدولية، ومن ضمنها بعض »الرسميات« العربية.
أما بعد دخول القطاع الخاص عالم الفضائيات فقد صارت أخبارنا أميركية أساساً، مع جرعة اسرائيلية تزيد عن مجموع الاخبار العربية، وصار رؤساء الحكومة والوزراء الاسرائيليون فضلا عن »رئيس الدولة« و»رئيس الكنيست« و»الناطقين الرسميين« و»المحليين« ضيوفاً يوميين نسترشد بتعليماتهم وبتوصيفاتهم لنضالاتنا… وشهدائنا، والقضايا التي تحتل الصدارة في أفكارنا وعواطفنا.
***
بعد ايام ستنعقد القمة العربية في بيروت. وسيجيء حشد من الصحافيين العرب مع الملوك والرؤساء والامراء. لكن »الهم العربي« المشترك لدى العدد الاكبر من هؤلاء الصحافيين سيكون غائباً. انهم بأكثريتهم الساحقة أشبه بمندوبين للصحف او محطات التلفزة او وكالات الانباء الرسمية لكل ملك او رئيس او امير. جهودهم محصورة بمتابعة السلطان: لقاءاته، أحاديثه، شروحات وزرائه لأفكاره، خطورة موقعه والاهمية الفائقة لمداخلاته، ثم دوره العظيم في »إنقاذ« القمة.
أما الخسائر الناجمة عما قبل القمة ثم عن القمة ثم عما بعدها فالمسؤول عنها هو »العرب« الآخرون.
***
تبقى كلمة سريعة، دافعها الحرص على »الهوية« وعلى دور الصحافة العربية في هذه المرحلة العصيبة التي تتهدد فيها الاخطار المتكاثرة الامة في مصيرها:
فكلما تزايد عدد الصفحات في الصحف العربية تناقصت المدة اللازمة لقراءتها.
الآن وقد بلغت صفحات بعض الصحف حدود المئة فإن تقليبها يحتاج من الوقت أكثر من المدة التي تحتاجها لقراءتها. ومن أسف ان زيادة عدد الصفحات لم يزد من جرعة العروبة فيها، هذا دون إغفال بعض الجهد الطيب في استحداث »تمثيلية« عربية ما، عبر الاهتمام بالجاليات وأخبار الوطن.. البعيد.
والحقيقة التي نخجل من إعلانها انه لم يكن للعرب صحافة عربية في أي يوم، مع التقدير لبعض المحاولات المخلصة التي تصدت للقيام بها صحف في مصر وفي بيروت والتي تعثرت مع تعثر مشاريع العمل القومي… وان بقي الاصرار عليها، ولو في الطموح وفي التمني يبعث إشارات على ان الايمان بوحدة المصير ما زال يعمر الصدور، تحت، في القاعدة.
الفرح الشخصي الذي ولد لقاء »قومياً«
هذه التداعيات عن الصحافة العربية والصحافيين العرب سببها المباشر أن الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، قد حوّل مناسبة شخصية إلى حفل عربي الطابع، فكان زفافه فرصة للتلاقي بين متباعدين بالجغرافيا أو بالانهماكات أو بهجوم مهنة المتاعب التي لم تعد تحتاج إلى بحث، لأنها تفرض نفسها أناء الليل وأطراف النهار.
هي المرة الأولى تتلاقى فيها هذه المجموعة المتبقية ممن كان يعرف، أيام »العمل العربي، المشترك«، ب»الصحافيين العرب«، أي من يهتمون فيكلّفون بتغطية القمم أو اللقاءات العربية المهمة، ويجوبون أقطار الوطن العربي محاورين القادة من ملوك ورؤساء وزعماء سياسيين وزعماء أحزاب، أو مفكرين بارزين أو علماء وبحاثة من المجتهدين في الاقتصاد أو العلوم أو الشؤون الاجتماعية التي تتسع لما هو مشترك بين العرب.
وهي بالتالي أول مناسبة يظللها »الفرح«، بينما كان يظلل اللقاءات الأخرى شبح الخلافات أو المصادمات أو الهرب من الانقسام إلى البيانات الختامية المكتوبة بلغة بلاستيكية شاحبة، تفتقر إلى المعنى، وتعمق فعلياً حال الانقسام بل »وتؤدلجه« أحياناً بين من تجمعهم التعاسة وضيق الرزق وافتقاد النصير.
تصرف الشيخ عبد الله بن زايد كوزير إعلام »عربي«، تتجاوز اهتماماته وعواطفه حدود دولة الإمارات.
وهو أتاح لنا فرصة نادرة، نحن من تبقى من »الصحافيين العرب«، لأن نتلاقى خارج إطار المنافسة على ما لا يستحق التعب، وان كانت الأصول المهنية تقضي بأن نتعب حتى نحصل على »السبق« المحزن غالباً، و»المؤسف« أحياناً، و»المرضي« في أحيان أخرى، بمعنى انه قد جنّبنا الأسوأ.
إنه أول لقاء بين »رفاق السلاح« خارج إطار المنافسة… وبالتالي فقد كان فرصة للتعارف، في ظلال الفرح، ولمحاولة توطيد أواصر الصداقة والتعاون كزملاء حكمت علينا ظروف أمتنا، بدولها المتنافرة السياسات، ان ننقل من الأخبار ما يطرد الفرح، وأحياناً ما يطرد النوم من العيون.
ان حالتنا تعكس الواقع الانقسامي المخيف، حيث صار »المشترك« في الغالب الأعم هو ما يقلق، او ما يخيف من الاخبار والمواقف،
أخطر ما تجسده حالتنا هي تلك الحقيقة البسيطة التي لا مجال لإخفائها والتي تظهر ان القرار العربي متى كان »مشتركا« لم يعد »عربيا«، وصار أقرب لأن يكون مساومة غير عادلة مع الاجنبي (الاميركي أساسا، والاسرائيلي مضمرا) تذهب بوحدة الموقف وتكاد تؤكد الانقسام كواقع لا مفر منه.
شكراً للشيخ عبد الله انه جمعنا في مناسبة »عائلية« أعادتنا الى صفائنا ليس في ما يتصل بعلاقاتنا الشخصية فحسب، بل في ما يكشف عمق انفصال السياسات وبالتالي الصحافة العربية عن… الشعارات الجليلة كوحدة الأمة، ووحدة المصالح فضلاً عن وحدة المشاعر.
الصحراء حيث لا امرأة!
الصحراء ونسيم السحر وضوء القمر الشاحب، الخافت كهمس رقيق، والشعر، وعود شجي الالحان، ومطرب صافي نبرات الصوت، لكن النشوة تظل بعيدة،
الصحراء بصمتها الأبدي، وبالصفاء الذي تمنحه، هي الأعظم حضوراً،
ليس في الأمر لغز، لكنها المرأة… ان غيابها يذهب ببهجة اللقاء، وبفرصة ان ينعشك الصوت الجميل، أو ينقلك صفاء الصمت إلى ازدهار الفكرة أو ارتعاشة القلم بكلمة تخفف عن صدرك أثقال الوجد.
يتهادى القمر مفرداً عبر الفضاء الفسيح مفتقداً جمهوره الذي عاش معه ملايين السنين. لقد أفسدت عليه الكهرباء مكانته وعلاقاته بالناس، وانفض عنه الشعراء إلى الغرف المكيفة التي يتحكمون بدرجة الاضاءة فيها.
انه هنا مجرد عابر سبيل لا ينتظره أحد ولا تحسب له المواعيد ليس خدين العاشقين ولا هو ينبوع الشعر ولا أرجوحة السهر.
الصحراء الحقيقية حيث لا توجد امرأة كأن غيابها يسحب المعنى، فيفتقد المطرب جمهوره، ويفتقد الجمهور ذائقته، ويدفن الرمل اللحن الرقيق، ولا تتفجر الصدور بالآهات والتأوهات.
لكأن الجمهور قد ترك، مع آذانه، القلوب والعواطف في الفنادق الطاردة للحب. أو لكأن الغناء في هذه البيداء من الجفاف مجرد تمارين صوتية.
كانت امرأة واحدة تكفي لأن تختلف الصورة، ولأن يتهاوى الشعور الثقيل بالوحدة وخشونة المكان.
قال واحد من رفاق السمر حين باشرت المطربة الغناء: ان صوتها يأخذ إلى السرير،
قال آخر: بل هو يأخذ إلى البكاء، لأنها فضحت تعاستنا في وحدتنا.
أما المطربة التي كانت تتعجل إنهاء وصلتها لتذهب إلى آخرين ينتظرونها فقد همهمت: ما أبشع الرجال حين يكونون بغير نساء أستثير غيرتهن فإذا النار تلسع الجميع، وإذا أنا نجمة تعلو فوق قمر الصحراء الذي أبهته حضوري.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
ليس صحيحا ان الحب يسكن السماء، وانه يتحدر إلينا من عل. انه فينا. منا يكتسب بهاءه. أعظم مزايا الحب انه »إنساني«. ليس الحب مطلقا. انه كالنار، كالهواء، كالضوء، كالماء: سبب للحياة، لكن الانسان يعطيه معناه، كما يعطيها معناها. يكتمل الانسان بالحب، فيصير المحبان واحدا.. لذلك فليس ثمة حب مفرد. الكلمة حرفان، وليس لأي حرف معنى من دون الآخر.