طلال سلمان

هوامش

ثرثرة عن حضور الذي ضجر فغاب: يوسف سلامة
بعد الموت بعام يبقى الصديق طيفاً أنيساً ويكبر داخل وجدانك وتحس أن عليك ان تعوّضه. هذه محاولة لتعويض غياب ي. س.
لم أعرف يوسف سلامة الا في الفترة الفاصلة بين اختطافين كان فيهما النجم الضحية..
فاما الاختطاف الاول فقد وقع قبل ألف أو ألفين أو ثلاثة آلاف من السنين،
ففي ذلك الوقت السابق للوقت اعتمدت بعض التنظيمات الهجينة الاعلان عن »ولادتها« وعن مباشرة نشاطها الانساني بإخفاء بعض »المنظورين«، لتصير المساعي الحميدة والشفاعات وسيلة لتقديم الذات من باب الرعب فيستقر »التنظيم« في ذاكرة الناس لا ينساه منهم أحد وان نسوا ضحاياه.
اما الاختطاف الثاني فهذا الذي نشكل نحن المجتمعين هنا الآن والمثلنا من الغائبين، ضحيته اذ أُخذ، منا »يوسف« وأُلقينا نحن في الجبّ نتلمس آثاره ونستبقي منه ما لا يمكن ان يمسه الغياب..
ولانها لحظة استذكار واستعادة للذات عبر الذي التقيته غريبا ثم فارقنا حبيبا، تفرض التفاصيل نفسها فرضا لتوكيد صلة القربى والحق بالحديث عنه واليه..
* * *
دخلت نهاد عازار مولولة: مصيبة جديدة! عجِّل لعلنا نسبق قرارا وحشيا بتصفية هذين المقاومين للشر والفتنة والسوء والمرض والموت… لقد اختطفوا الدكتور منير شماعة ويوسف سلامة.
لماذا يريدون قتل الحب فينا؟!
بعدها دخل منير ابو فاضل وهو يظهر التماسك لكن قلبه يلتمع بالدمع في عينيه: لا بد انهم اخطأوا، لا يمكن ان يكونوا قد اختطفوا منير شماعة ويوسف سلامة، قصداً. لعلهم كانوا يريدون غيرهما والتبس الامر عليهم فاختاروا الضحية الاسهل.
لم اكن اعرف يوسف سلامة، وحين عرَّفت عليه من ساعدنا في البحث عنه اكتفيت بالقول: انه ابن اخت منير ابو فاضل.
اذن، فأنا ادين بإعتذار متأخر ليوسف سلامة اعلنه الآن واثقا من انه سيتخذ منه مادة جديدة للسخرية مني وللتشهير بي في روايته التي يعمل الآن على انجازها والتي ستنشرها »دار ينسون«.
اعرفه هذا الماكر الذي يهتم بجمع التفاصيل ثم يحملها كالنملة الى بيت الشتاء ليتسلى في لياليه البادرة بنسج الحكايات على مغزله.
ها هو يطل علينا الآن، من فوق ما، يتأملنا عبر نظرات السخرية، قبل ان يطلق لسانه فينا: اجتمع علي ملوك الكلام! صرت حكاية بعدما كنت الراوي والرواية.
اظنه يسمعنا كمن يمتحننا ليس في عاطفتنا، بل في مدى معرفتنا به، بعدما اتعبنا بأسمائه الحركية العديدة، وبإبداعاته التي كانت تفاجئنا وتجعلنا نعيد »قراءته« من جديد، بدءا من عينيه وانتهاء بأنامله التي كان مهيئاً لها ان توقِّع الشيكات فأختار ان توقع على وجوه الناس.
لا يقترن اسم يوسف سلامة بالموت، فهذا الفيض من الحياة، هذا الشبق الى الحياة، هذا الاستمتاع النادر بالحياة، هذا الامتصاص لرحيق الحياة حتى الثمالة، هذا الانتصار بالحياة ولها لا يمكن ان ينتهي بفعل ماض ناقص: كان… هذا الذي ظل يفيض ويفيض حتى نقل الينا عدواه فأحببنا الحياة اكثر، وأقبلنا عليها اكثر، وارتضيناها بحلوها ومرّها اكثر لأنه بين عناوينها الاكثر اشراقا.
حتى في الغياب نكاد نراه ونسمعه يحرضنا على ان نأخذ حياتنا أخذا، على ان نعيد صياغتها بقوة ارادتنا فلا نترك ايامها تفرض نفسها علينا فرضا ونقبلها على علاتها باعتبارها قدرنا ونصيبنا من دنيانا.
***
نكاد نغبطه وهو ميت، ويكاد يشفق علينا ونحن احياء!
مرميا على سرير فسيح، وحيدا الا من ذلك الخبيث الذي ينهش لحمه، يصارعه مبتسما ويسجل عليه نقاط الهزائم والتراجعات: هناك في دنيا التقدم اعطوني هذه الاربطة. انها تسحب عني الشعور بالألم. وطز بالسرطان!
لا يليق الموت بيوسف سلامة.
لقد تسلّى بالموت سنوات. أناخه وامتطاه. فتح دماغه وقرأ فيه المكتوب فمحا سطورا واضاف روايات وملامح. سخر منه وتحداه. جادله ففضحه. أتى بمرآة وجعله يرى نفسه فيها فيخجل من مهمته التي ينقصها غالبا نبل المواجهة،
تكركر السخرية في عينيه ثم تسيل على صفحة وجهه، على سن قلمه، على الورق، فإذا سطور هذا الهاوي الذي اقتحم الكتابة بعد الكهولة تسحبك الى دنياه وتجعلك تعيد التحديق في الحياة لتكتشف فيها عوالم لم تكن تتخيلها.
هذا الذي استولد من الحياة حياتين، ثلاثا، اربعا في اربع.. ربما اكثر! وحين اطمأن الى أننا صرنا اكثر فهما للحياة، اكثر رغبة فيها، اكثر احساسا بقيمتها، واقوى على الموت… تركنا وابتعد ليتفرج علينا من عل. اظنه الآن يصحح مسابقاتنا، يمنحنا العلامات.
الحياة ابهى من ان تضيع في التحدي، واعظم من ان تعيشها اجترارا، تعوّدا، تكرارا، تنهض كل صباح من نوم مسكون بالهواجس الى صحو مشحون بالكوابيس، تحتسب خلال ساعاته هزائمك الشخصية والوطنية والقومية حتى اذا تعبت نمت عياء ثم صحوت حياء.
كم عمرك: خمس روايات، ست روايات، ورواية جنين يكمن فيها السر الذي هممت بأن تعلنه ثم خفت علينا منه فحجبته داخل تلافيف الغياب.
كنا نذهب اليك بآلامنا فنعود من لدنك بآمالك فينا وفي الآخرين. كنا نقصدك بتثاقل من يكره اللقاء بالموت فنعود من عندك وقد امتلأنا شوقا الى الحياة.
ولطالما تعثرنا بالموت في ردهات منزلك الخالي الا منك، يكمن في هذه الزاوية او تلك، وكلما اطل عليك خاف منك انت المستنزف ايامه حتى ثمالتها الممتلئ بالحياة وقد عشتها بالثواني،
يقولون ان الانسان يخاف مما يجهل… ويوسف قد عرف من صروف الحياة ومن بقاع الدنيا ومن احوال الناس ما جعله يخسر خوفه.
آه نيويورك… وقد عشت فيها بالطول وبالعرض! عليّ ان استدرك فأخبرك ان نيويورك قد فقدت برجيها، اعرف انك تعرف. لكن لغتنا صارت قطعة مطاط ملوية حول الرقم 11.
لقد نجوت بنفسك. ايها الماكر.
انت الارهابي الاعظم: هل اكثر من ان ترهب الموت؟
استنزفته واستنزفك، ثم ضجرت فلطمته وسبقته الى مكمنه.
هنيئا لك. لن نؤرخ لغيابك بتاريخنا المذل الجديد: ما بعد 11 ايلول.
لقد اخترت موعد رحيلك كما اخترت عناوين كتبك وقمصانك واقلامك والوان الزهور في حديقتك وانواع الطيور التي كنت توظفها لتطربك فتهز قلمك فإذا بك تبدع حياتك فنا جميلا.
يا مثل البحر في حياتك ومثل النورس في الغياب.
كمثل النورس، انطلق ذات لحظة، ونحن نتابعه حتى كلَّ منا النظر وهو يرتفع ويرتفع، هاجرا ملعبه وصيده وبيته في الرذاذ، فاخترق فضاء الوجع وبياض الهباء مطاردا بالتحدي ذاك الذي يرى ولا يرى، يُنهي ولا ينتهي، يغتال الشعر ويئد الافكار ويكسر الاقلام قبل اكتمال المعنى،
ظل يرتفع ويرتفع ويرتفع حتى ذروة المدى، ومن حالق هوى ليكتب بكلِّه الخاتمة البسيطة للرحلة التي لم يكن له ان يختار منطلقها ولكنه تحكم باختيار مسارها فجعله عريضا بمدى الرغبة، وزركشه بكل ما استطابه ومال اليه/ وأحبه فامتلكه.
ثم لما ضجر غاب وتركنا نثرثر عن حضوره.
(كلمة الندوة في ذكراه)

عن جائزة الصحافة العربية والتسوق
الاعلام فتنة، على ما كان يقول الفقهاء.
وجائزة الصحافة العربية مهدَّدة في قيمتها ومعناها، اذا ما غلب الاعلان عنها الهدف المرجو منها، اي تكريم المبدعين او الواعدين بإبداعات او بمعالجات جدية لأمراضنا وهمومنا الثقيلة.
منذ اليوم الاول كان ثمة تياران داخل مجلس الجائزة: الاول يرى في الجائزة بحد ذاتها إنجازا تاريخيا عز نظيره، والتيار الثاني يحاول حماية »شرف« الجائزة بتغليب »التقييم« او »التقدير« على الاعلان، ويرى الجائزة مجرد وسيلة لتشجيع الاقلام ذات الوهج، والافكار الشجاعة المخترقة لليل الحظر والرقابة، والابداعات التي تحاور المستقبل، والاتقان المهني الذي يرقى بالاعلام صحافة مكتوبة او مرئية او مسموعة الى المستوى المنشود: خدمة الحقيقة وتوسيع دائرة الوعي وتحريض الجمهور على حماية حقوقه الوطنية وكرامته الانسانية.
ليست جائزة الصحافة العربية مكافأة نهاية خدمة للمتقاعدين او للقاعدين عن اي نشاط، ولا هي مناسبة لحفلة علاقات عامة واسعة الدوي، ولا يجوز ان تقرر بشكل متسرِّع او نتيجة لانطباع اولي تفرضه الرغبة في الانتهاء من فرز كوم »المختارات« التي يندر بينها المميّز او الممتاز.
في السنة الاولى تدخلت السياسة والمجاملات بأكثر مما يجب.
هذه السنة يفترض ان يعاد الاعتبار الى المهنة ذاتها ليكون للجائزة من القيمة الاعتبارية ما يفوق دولاراتها الكثيرة.
ليست جائزة الصحافة العربية صندوق تبرعات للمحتاجين، ولا هي فرصة لشراء السمعة »الفكرية«، او مكافأة علنية لبعض الدعاة الناجحين في تسويق ما لا يجوز تسويقه.
فلتُبعد جائزة الصحافة العربية عن شهر التسوق!
حكاية فرح مرجأ
باغتته بالخبر: سأتزوج! لقد حددنا الموعد، ولسوف تعجبك البطاقة..
قال ولم يسمع غير الكلمة الاولى: وحبك؟
أكملت وكأنها بلا أذنين: سيغني مطربك، قصدي مطربنا المفضل، ولقد أعددت له قائمة بالأغاني التي أحب، قصدي »نحب«، وطلبت إليه أن يباشر تدريب الموسيقيين عليها حتى لا يفسد النشاز متعتنا.
عاد يقول بصوت أعلى ولهجة أكثر حدة: وحبك؟
واصلت حديثها وكأنه شريط مسجل أفلت من زر الضبط الآمر بالتوقف: ولسوف نمضي شهر العسل في المغرب. لا أحب بلاد الفرنجة لمناسبة سعيدة. لا يجد العربي سعادته في بلاد غريبة يرطن أهلها بلغة لا يفهمها تماما، ويتحسسون مشاعره بغير كلام. أريد ان اقرأ فرحتي في عيون الآخرين من حولي، حيث أكون، سائق سيارة الاجرة، النادل ومدبرة الفندق وعامل الاستقبال وموزع المكالمات. أريد أن يبدأني كل منهم التحية: مبروك يا عروس. تعرف كم انتظرت وكم أنا متشوقة الى سماع التهنئة التي كاد يقتلها ويقتلني معها الارجاء.
لم يجد ما يقوله، فهتفت به: ألن تبارك لي؟ ألم تكن تحرضني دائما على الجهر بعواطفي كما بآرائي.
ظل على صمته، يحاول كبت غضبه، فعادت تلح عليه: أتضن علي بكلمة »مبروك«، وكنت أظنك ستزغرد فرحا؟؟
لم يجد بداً من التعبير عن رأيه فقام لينصرف وهو يقول بعينيه وبيديه وبلسانه: بل سأبارك للذي أنقذه حبه من السجن المؤبد. سأطير إليه لأهنئه بحريته التي استعادها وشبابه الذي سيزهر أفراحاً يوزعها على الآخرين.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
إياك والتسليم بالتعوّد باعتباره قاعدة للحياة لكل نهار شمسه، لكل ليلة قمرها. هل يكون القمر واحداً في ليلين؟! ان التعود يبلد الحس ويسقم الحب. جرّب ان تقرأ وجهك في المرآة مرة في الاسبوع. تأمله جيدا ولسوف تهرب به الى مزيد من الضوء والهواء النقي وتلك الدنيا المسحورة المنداحة على مدى حرفين من نار ونور.

Exit mobile version