عفيف فرّاج يتعب ليريحكم من الأسئلة الصعبة!
كثيرة هي الكتابات او الكتب التي تطرح الاسئلة، وقليلة هي تلك التي تحمل الاجوبة على أسئلة قضايا معلقة.
عفيف فراج لا يكتفي بالاجوبة المبسطة ولا يقتنع بالمقولات التقليدية التي غالباً ما تستقر في التداول وكأنها مسلّمات لا تنقض، لذلك فهو يقرأ كثيراً، ينقب كثيراً، يفكر طويلاً، ثم يكتب قليلاً، فإذا كتاباته المكثفة والمركّزة تحمل جوابا او اجوبة على اسئلة معلقة منذ دهور.
ومنذ ان عرفت هذا الاستاذ في التعليم الثانوي، ثم الاستاذ الجامعي والباحث الجاد والمعني والمهتم والقلق دائما في رحلة البحث المضني عن الحقيقة، كنت أقرأ في عينيه الاسئلة والمزيد من الاسئلة، وكان يغيب طويلاً ويظهر قليلاً تسبقه فرحته بأنه قد عثر أخيراً على جواب او اكثر.
وبرغم الاغراءات ظل عفيف فراج »يهرب« من الكتابة الصحافية هربه من التسرع ومن التورط في الابتسار او في الاستنتاج غير الدقيق.. ولعل الحرب الاهلية بكل ما طرحته، قبل الجراح وبعدها، من إشكالات ومن مسائل تتجاوز »السياسي« الى »الثقافي« و»الوجداني«، جعلته اكثر حذراً، واكثر ميلا الى التدقيق والتمحيص والبعد عن »الراهن« و»اليومي« عائدا الى »الجذور التاريخية« وإلى التدقيق في الوقائع ودلالاتها الاصلية قبل ان يشوّهها الغرض او التوظيف في الصراعات متعددة الوجوه بما يخرجها من سياقها المنطقي ويجعلها مجرد وسيلة لتبرير مسلك او مجرد سلّم للوصول الى السلطة.
افضل نموذج على طبيعة النتاج الذي يستهوي عفيف فراج وينفعنا كتابه الجديد الممتاز: »اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية«، الذي زيّنت به دار الآداب نتاجها الجديد مع الجزء الاول من مذكرات مؤسسها الدكتور سهيل ادريس.
واضح، منذ الكلمة الاولى، ان هذا الكتاب قد استهلك بضع سنوات من عمر مؤلفه، وانه احتاج لوضعه الى اكثر من مئة وعشرة مراجع، ولكنه نجح عبره في تقديم مجموعة من الاجوبة عن اسئلة معلقة في الوجدان كما في العقل السياسي العربي عن »تشكل« اسرائيل في العقل كما في الواقع السياسي الغربي قبل اقامتها على الارض العربية وعلى حساب الكثير من المفاهيم ومن القيم ومن »الثوابت« في المنطق السياسي السائد عربيا.
لا يتسع المجال هنا لعرض الكتاب كله، ولا حتى لعرض كامل »الاجوبة« التي وُفّق المؤلف الى تحديدها وإسقاط الكثير من الالتباسات التي كانت تحجب الحقيقة او تموهها لا سيما في ما يتصل بالعلاقة الاستثنائية جداً والخاصة جداً بين بريطانيا واليهود ومن ثم إسرائيل، وبالاستطراد بين الولايات المتحدة الاميركية واليهود ومن ثم اسرائيل، وموقع البروتستانتية ومن ثم »التطهّرية« في هذا كله.
ف»اوروبا الغربية لم تكن تنظر الى اليهود قبل حركة الاصلاح الديني على انهم شعب الله المختار كما لم تكن تقول ان فلسطين هي ارضهم التي وعدهم بها الله«.
ويؤكد الكتاب على دور كالفن في مجانسة البروتستانتية باليهودية، وعلى تماهي »الطهريين« أو »المتطهرين« مع الإسرائيليين القدامى، حتى »وصفت بريطانيا في عهد كرمويل، الذي تسلم السلطة العام 1649، بأنها اسرائيل البريطانية وصهيون الانجليزية، ووصف الطهريون انفسهم بأنهم ابناء اسرائيل وطالبوا بجعل الشريعة الموسوية ملزمة للامراء المسيحيين«… ولقد قال لويس تيوما: »لو ان خطب البرلمان كانت تلقى بالعبرية لحسبت نفسك في فلسطين«، ودعا المستشار القانوني لملك انجلترا الى حملة صليبية جديدة لاستعادة الامبراطورية الأم اليهودية.
في ضوء هذا التاريخ الخاص يمكن قراءة ما قاله هرتزل في مؤتمر بازل (سنة 1897): »لقد ولدت في هذا المؤتمر الدولة اليهودية، لكن الكنيسة البروتستانتية اطلقت الحركة الصهيونية كحركة سياسية قبل اكثر من ثلاثمئة سنة من انعقاد المؤتمر الصهيوني.
لقد اقامت »البروتستانتية الجديدة الرابط الزمني والنفسي بين اليهود المعاصرين في اوروبا، اي يهود القرن السادس عشر، والاسرائيليين القدماء، انبياء التوراة وشعبها«.
وكانت »حماسة بريطانيا الدينية في القرن التاسع عشر ردا على عقلانية الثورة الفرنسية الالحادية«.
في ضوء هذا السرد الموثق للوقائع التاريخية يمكن اعادة تفسير مسلك العديد من الساسة والقادة البريطانيين كفعل ايمان ديني وبنود في خطة سياسية وليست مجرد انفعالات او ردود فعل فورية، يستوي في ذلك بعض نتاج الشعراء (وليم هازليت وجورج اليوت وبايرون وبراوننغ)، والعلماء والسياسيين امثال نيوتن وبريستلي ولويد جورج ومارك سايكس واضع اتفاق 1916 مع بيكو الفرنسي (اتفاق سايكس بيكو المعروف).
ويجيء وعد بلفور في السياق المنطقي للسياسة البريطانية ذات الجذر الديني، بنسبة ما »في ما يتصل باليهود واسرائيل ودائما بالاتكاء على البروتستانتية الجديدة المتماهية مع اليهودية«.
يصبح منطقيا ان يقول دافيد بن غوريون سنة 1917: »ان وعد بلفور هو الاعجوبة التي اختصرت الطريق الذي كان في مخططاتنا مسارا طويلا موجعا وجعلتنا نقف على عتبة تحقيقه«.
ويصبح مفهوما ان تعين بريطانيا هربرت صموئيل اليهودي مندوبا ساميا في فلسطين ليباشر وضع الوعد موضع التنفيذ، وان تسمح لليهود بانشاء مصانع الذخيرة والاسلحة الخفيفة خلال الحرب العالمية الاولى (!!)، وان تنشئ الفيلق اليهودي من 11 ألف جندي وضابط الذي عمل بإمرة البريطانيين ودخل فلسطين سنة 1917 بقيادة الجنرال اللنبي، ثم تعود وتسمح بإنشاء الفيلق اليهودي للمساهمة في حملة ايطاليا في الحرب العالمية الثانية، والذي انخرط فيه على حد وصف ارييل شارون »عشرات الألوف من الشبان والشابات«.
يصبح مفهوما ايضا ان تستخدم بريطانيا 20 ألف جندي لقمع ثورة 1936 الفلسطينية، في الحملة التي قادها ضدها الجنرال مونتغمري والتي قتل فيها ستة آلاف فلسطيني، عدا عشرات الالوف ممن تعرضوا للسجن او للنفي.
اما الجواب الثاني الخطير فهو ما يتصل بعلاقة الاميركيين باليهود ومن ثم باسرائيل.
وحسب العرض التاريخي الموثق الذي يقدمه الكتاب فإن »اميركا شكلت للمتطهرين البريطانيين ارض الميعاد الجديدة«. اذ تغلب الاصول البريطانية على الفرق البروتستانتية الاميركية التي تهوّدت وتصهينت. ولقد بدأ المتطهرون الانجليز هجرتهم الى اميركا بدءا بالعام 1660. وتخيّلوا انفسهم في موقع العبريين الذين حملوا معتقدهم وشريعتهم بعد انهزامهم الى المهاجر، وتخيلوا انفسهم امة رسولية او نخبة مختارة لتقيم اسرائيل الجديدة على الارض الاميركية، وتماهوا بالكامل مع الاسرائيليين القدامى. فباتت اميركا هي اسرائيل المسيحية، وانجلترا هي ارض مصر والملك جيمس هو فرعون الذي طرد اليهود والمحيط الاطلسي هو البحر الاحمر، في الاسطورة التوراتية.
***
يحتاج الكتاب بكل »الاجوبة« التي يتضمنها الى اكثر من العرض السريع.
ابسط ما يمكن اقتراحه ان يدرج هذا الكتاب في منهاج التعليم الوطني: الثانوي والجامعي… وخصوصا ان الأمل معدوم في ان يقرأ السياسيون، حكاما ومعارضة، وان يعوا اذا ما قرأوا، وان يعملوا اذا ما وعوا.
في انتظار ان تتم هذه الاعجوبة، قد يكون مفيدا ان نستعيد »مصادفة تاريخية« ذات دلالة عميقة ندر ان توقف امامها احد.
المصادفة تشير الى ان دخول المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل، وهو يهودي صهيوني، الى فلسطين في تموز سنة 1920 مع خروج فيصل الاول مدحورا مقهورا من دمشق (التي نادت به ملكا) في الشهر نفسه والعام نفسه، وتحت وابل القذائف الفرنسية في الحملة التي قادها الجنرال غورو…
شكرا عفيف فراج. لقد زودتنا باجوبة ممتازة زادت كثيرا من اسئلتنا لانفسنا.
غرين كارد لمليار وثلاثمئة مليون من مضيعي هويتهم!
مرة اخرى يخرج العرب (والمسلمون) مهزومين من حرب لم يدخلوها!
لم يكن للعرب كأمة، كشعوب، كأوطان، وحتى كقبائل مكان في هذه الحرب التي بدأت في نيويورك والتي لن تنتهي في كابول… ومع ذلك وجدوا انفسهم »متورطين« عاطفيا فيها، ومدانين سياسيا في بداياتها قليلا وفي النهايات كثيرا!
كان حكامهم يجتهدون على مدار الساعة في اثبات تنصلهم ممن اتهموا باطلاق شرارتها الاولى وتضامنهم مع من »انتصروا« في معركتها الاسطورية الفاصلة، والتي سقطت على الناس مثل كذبة!
اما المواطنون فلم يجدوا لهم موقعا حتى بين المهزومين: لقد ألغى حكامهم أي دور لهم، بمئات ملايينهم، فصاروا هباء، بلا قيمة في »الحرب« وبلا قيمة في »السلام«!
لم يكن »العرب« طرفا في الحرب، لكن القرار الدولي جعل اسامة بن لادن رمزهم وقائدهم ومرجعهم الديني والسياسي، وظل يضخمه ويفخمه ويعظمه حتى غطى على كل وقائع حياتهم اليومية وطموحاتهم المستقبلية، فصيّره عنوان جهادهم، وما هو بمجاهد، وبطل معارك التحرير وليس له بالبطولة علاقة ولا بالتحرير رابطة او ارتباط.
ولم تكن »طالبان« حكومتهم او حزبهم او »ولي الامر« فيهم… لكن القرار الدولي كاد يجعل »الشبح« محمد عمر امير المؤمنين فيهم!
التهمت »العدالة بلا حدود« قضيتهم في فلسطين، واختطف »النسر الاميركي النبيل« رايات نضالهم المشروع من اجل حقوقهم كمواطنين، كبشر، في اقطارهم.
لا موقع لهم حتى بين الضحايا.
وغداً حين يبدأ »مغاوير« تحالف الشمال انجازاتهم بسكاكين الغرب وسيوفه، سيكون »العرب الأفغان« الذريعة والتبرير.
بعد اليوم سيكون من الصعب على »العربي« ان يكون »عربيا«، فإن هو ألح على هويته أقر بأنه بنلادني ارهابي، فاستعدى العالم كله.
بعد اليوم سيكون للمسلم صورة واحدة وعليه ان يتبرأ منها على مدار الساعة!
بحرب وهمية ادارتها اميركا بين اجهزتها شطبت من التداول دين المليار وقومية ثلاثمئة مليون او يزيد… كل هؤلاء يبحثون الآن عن »غرين كارد«! لن يعطى لهم.
حكاية
قالت المرأة الشرهة للرجل الذي لا يأكل لحوما: كنت اتمنى ان احب مثلك، لكن لا وقت لدي…
لم يجب، فقدّرت انه لو تكلم فسيرد عليها بما لا يعجبها، فملأت صحنها من جديد ثم حدجته بنظرة عتاب قبل ان تقول: الحب يجيء بعد الشبع لا قبله، هيّا كل!
ظل على صمته، وإن اتسعت ابتسامته قليلا، فصار عتابها غضبا:
لا املك ترف ان أنفق عمري في الحب. حسناً انني ابيع عمري! اما انت فتريد ان تدّخر عمرك حتى يجيء الحب، لذا لا نلتقي الا في المحطة، ننتظر قطارين متعارضين في الوجهة والسرعة. أسعدني لقاؤك ايها الحالم. سآخذ منك ما ينفعني في اوقات الفراغ: صمتك الحزين على ما هدرت من وقتك معي!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب يمنحنا فرصة استعادة الطفولة ببراءتها وحقها في شيء من العبث. كثيرا ما تبدى لي حبيبي طفلاً، يضحك بفرح حقيقي، ويبتهج للفتة او حركة او تصرف ما كان ليبهجه خارج الهالة القدسية للحب. أتعرف، احيانا ألثغ ببعض الحروف. اكثر مما ألثغ باسم حبيبي! ما أطيب أن ألثغ باسمه!.