المخابرات المركزية في خدمة تحرير فلسطين!
الحمدلله ان »المتنبي« قد رحل عن دنيانا منذ زمن بعيد وإلا لكانت كل قصائده تبدأ بالمطلع الناضح بالمرارة ذاتها: »ما كنت احسبني احيا الى زمن..«!
… وها نحن نحيا في زمن صارت فيه المخابرات المركزية الاميركية هي الضمانة الاساسية المطلوبة لحماية الشعب الفلسطيني في جهده من اجل تحرير أرضه وإقامة دولته المستقلة فوق بعض البعض من ترابها الوطني!
ولاننا من جيل تربّى على شعار مناهضة الامبريالية والعداء لمشروع ايزنهاور ونظريته في »الفراغ« الذي احدثه اندثار الاستعمار الغربي القديم (البريطاني الفرنسي، الهولندي البرتغالي الخ)، وضرورة تعويضه بحلف تتولى قيادته الولايات المتحدة الاميركية وتسوق إليه عددا من المستعمرات السابقة، او من الأقطار التي لم تطأها أقدام الاجنبي وإن ذهبت كل ثرواتها للأجنبي.
ولاننا من ذلك الجيل الذي كان زخم الحركة الثورية العربية، في الخمسينات والستينات، يصوّر له انه قادر على إنجاز مهمات التحرر السياسي والاقتصادي وإسقاط التبعية الثقافية.
ولاننا من ذلك الجيل الذي صدّق شعار »الكفاح المسلح« باعتباره الطريق الى تحرير فلسطين، فانتمى وانتسب وتدرّب ثم درّب رفاقه المؤمنين، وواجه أعقاب البنادق ثم رصاصها، وهو في الشارع مناصرة »للفدائيين« ودفاعا عن حقهم (الذي لا يجوز ان يكون موضع نقاش) في »العبور« من حدود مختلف الكيانات السياسية القائمة من حول فلسطين لكي يقاتل الكيان الصهيوني ويؤكد حقه بالعودة شهيدا بعدما تعذرت عليه العودة كمواطن طبيعي في وطن طبيعي له الحق المطلق في أرضه.
ولاننا من ذلك الجيل الذي عرف بالملموس ان الولايات المتحدة الاميركية أخطر كقوة استعمارية »شابة« من ذلك الاستعمار القديم، وخصوصا انها أغنى وأفتى، ثم انها »أمم شتى« تمازجت فيها حتى الانصهار عناصر وأرومات متعددة لمختلف الشعوب من القارات والقوميات والاديان والاثنيات جميعا، وبالتالي فالموقف منها ملتبس: لا يمكن ان تكون ضد أهلها بالمطلق، اذ قد يكون فيهم بعض اهلك، ولكنك بالقطع ضد تطلعاتها السياسية للهيمنة على الكون وللسيطرة على مصادر الثروة، ولاستدراج افضل العقول وتوظيفها لخدمتها.
ولأننا من ذلك الجيل الذي كان يرى في الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي وبغض النظر عن الملاحظات العديدة والمتنوعة حول مظاهر الخلل والقصور والتي تشمل مختلف جوانب الحياة، ولا سيما الحريات، أملا للشعوب وسندا وحاضنة لحركات التحرر ومختلف أشكال المقاومة (السلمية او المسلحة) للاستعمار القديم او للامبريالية الاميركية الجديدة.
ثم: لأن المخابرات المركزية الاميركية كانت هي الوسيلة الفعّالة والأداة القوية في تنفيذ المهمات القذرة لتلك البلاد »النظيفة«، فهي التي تطارد الثوار وتقتلهم في كل ارض، وهي التي تدبّر الانقلابات العسكرية والمجازر الجماعية في اي دولة قد ينهض فيها حكم وطني ويحاول ان يقودها على طريق التحرر والتقدم والعدل الاجتماعي، وهي التي كانت تحوك المؤامرات في الظلام لتخريب اقتصاديات الدول العاصية.
ولان المخابرات المركزية الاميركية كانت، بكلمة، هي الوجه المجسِّم »للاميركي البشع«، في مختلف ارجاء الارض، لا تهتم امام تحقيق اهدافها بعدد القتلى وكم بينهم من الاطفال والنساء، وبعدد البيوت التي ستسقط على رؤوس اهلها، او بمدى اهمية المنشآت التي تنسفها او تدمرها في سياق جهدها للتخريب على النظام المعادي، وبمعزل عن حجم الأضرار التي ستتسبب فيها للبلد المعني (والذي كان دائما فقيرا)..
ولان المخابرات المركزية الاميركية قتلت او حاولت ان تقتل من قادة العرب والمسلمين والعالم الثالث عموما، كل من كان يحاول تجسيد ارادة أمته في التحرر، وكل من كان يجتهد لشق طريق خاص لا يمر بواشنطن الى استكمال حريته السياسية بتحرره الاقتصادي، والى ضبط نفقاته ضمن نطاق ايراداته، فيستغني عن المساعدات المشروطة والمكبلة لإرادته ولحقّه في التقدم.
ولان المخابرات المركزية الاميركية كانت دائما في خدمة اسرائيل، تقدم لها ما ينقصها من المعلومات، وتساعدها في تنفيذ بعض المهمات الصعبة على أجهزتها، وتنوب عنها في اغتيال بعض الشخصيات المعطلة لخططها في الهيمنة على الدول (والاحزاب والتنظيمات الشعبية احيانا، وفي قوائم الموت تلك بعض القياديين الفلسطينيين بالتأكيد..).
لكل هذا، ولأكثر منه وأخطر بل وأفظع مما نخجل من مجرد التفكير فيه، لم تستطع عقولنا القاصرة ان تستوعب الواقع الجديد: اي ان تتحول المخابرات المركزية الاميركية الى درع حماية للثورة الفلسطينية، او لمنظمة التحرير الفلسطينية، او حتى للسلطة الفلسطينية.
لسنا نفهم كيف نستجير من الرمضاء بالنار، وكيف نستنخي المخابرات المركزية الاميركية لتحمينا من الموساد والشين بيت والشاباك وهذه الاجهزة واحدة موحدة في اهدافها وفي اساليبها وفي ادواتها التنفيذية، فضلا عن كونها تشترك في تحقيق استراتيجية موحدة للشريكين المتكاملين، الولايات المتحدة الاميركية وإسرائيل العظمى؟!
* * *
انها ذروة المأساة ان نلجأ الى الجلاّد ليحمي الانتفاضة من السفاح؟!
ثم، كيف ولماذا ومن هو المسؤول عن هذه النهاية البائسة للحركة الثورية الفلسطينية: مجرد لاجئ سياسي او رهينة لدى الرمز العالمي لعداء الشعوب و»مكافحة« التفكير بل الحلم الثوري؟!
هل قُضي الامر واستحال الحلم الى كابوس؟!
هل أُدخلت احلام الشعوب الى الاقفاص تمهيدا لمسخها وقلبها الى نقيضها على طريق الحرص على »سلطة« ما، اقل قدر من السلطة، ولو بوظيفة سجان لأجداث الشهداء؟!
عرفنا في الماضي نماذج متعددة لانقلاب بعض الثوّار الى قادة للردة والارتداد على الثورة، قفزاً الى السلطة ولو على اجساد رفاقهم والتراث المشرّف لأيام النضال؟!
اما في الحالة الفلسطينية فالحال أعظم بؤسا من أية سابقة: نبيع جلد الثورة قبل ان نحصل على الارض، ونرهن السلطة في قفص العداء المطلق لفلسطين بأمل ان نحمي الحق في اقامة دولة مستقلة؟!
إنه الضياع المطلق: وماذا لو انتصرت المخابرات المركزية على الشين بيت او الموساد، هل سنعتبر ذلك الإنجاز نصرا ثوريا لحق العودة؟!
ضاع الحلم، والآن يضيع الواقع.
حمى الله الانتفاضة… لم يتبقّ لها غير الله، ولعله لم يكن لها منذ يومها الاول الا الله!
سجى الليل
جلسا في حضن البحر. كان الشوق اوسع منه مدى، وله مثله طعم الملح المر.
هربت العيون من العيون فصار البحر مرجاً من الأقحوان، وهدأ الموج فتداخلت حركته مع أنفاسهما، لكن الافكار ازدادت اضطرابا حتى تعذّر على أي منهما ان يبدأ الكلام.
لمست كفه مصادفة فاكتشفا اللغة المفتقدة، وطالبت الذراع بنصيبها، ونهد الصدر، وشكا الحضن الفراغ، وعلا الموج صاخبا فكتب بزبده مطلع القصيدة.
قالت وهي توسده عينيها: هذا مقامك في الحضور وفي الغياب، احملك معي حيثما كنت، فأمنع عنك النوم وتمنع عني النسيان. احفظ حبك وانسى اسمي، احيانا. اتخيل لوجهي ملامحك حين يناديني صديق يعرفك.
قال وقد هده السفر في المدى المفتوح على الاستحالة: تركت كلماتي عند الضفة الاخرى، ونسيت السباحة، فصرت عييا.
وسمعها تدندن كلماته المهجورة، فزاد خوفه منها. قالت: تظنني خارجك، وتفزع كلما اكتشفت انني توغلت فيك بحيث بات يستحيل ان يكون لك داخل من دوني، ويستحيل علي ان اعثر على نفسي خارجك.
سجى الليل، وتثاءب البحر، واستيقظ الشوق، وانسجم الخادم مع »الجو« فسرح بخياله الى تلك التي تنتظره ويخترق الزمن ويصارع القروش للوصول اليها.
نهضت وهي تقول بصوت تحبسه الغصّة: ملعونة هي الامكنة! تستطيب جلوسك في المكان فاذا هو مفسد المتعة. تكسر حصار ملامحك فتحاصرك حواجز العناوين التي تعرّف بك، ويكون عليك ان تختار بين انكار ذاتك او الانتحار. أظنّها الرطوبة، أظنّه غياب القمر، أظنّها العتمة، أظنّه الشوق الذي فاض بي، أظنّ ان عليّ الانصراف. أظنّ ان عليّ ان أبكي. هل تسمح بأن تخرج من عينيّ لتتحرر دموعي!
صبراً أبا هوّاش
لطيفة هي »دواوين« الشعراء الشبان الذين تتلمذوا على قصيدة النثر التي ما زلت أجهد نفسي من اجل ان أتذوق نصوصا مبتورة يصعب عليّ وربما على جيلي ان يأتلف معها.
سامر أبو هوّاش واحد من هؤلاء الشبان المجتهدين: اقرأ له نثرا فيعجبني نصه، وقد وجدت جديدا في حواره المطول مع »سيرة« محمود درويش الذي لا يمنعه الحنين الى خبز أمه من البحث عن أفخر انواع »الكرواسان«!
ولقد قرأت مجموعته الجديدة في أقل من نصف ساعة، محتسبا وقت التأمل ومحاولة استشفاف المعنى، او محاولا اكمال الجمل الناقصة او وضع الكلمات المناسبة محل النقاط او في مساحة الفراغ المتروك في كل صفحة، ربما لكي يملأه قارئه بما يجب ان يضيفه مستكملا او مستدركا ما نسيه كاتب النص.
قلت في نفسي: لعل سامر أبو هواش يعاني ضيقا في وقته.
وقالت لي نفسي: لعل دار النشر تشكو من فائض في ورقها.
قلت في نفسي: لعل المدرسة الجديدة في قصيدة النثر تتقصد ان يشترك القارئ مع الكاتب في استكمال المعنى، فيكون لكل قارئ في القصيدة نصيب، ويتكامل وجدان المرسل مع المتلقي!
وقالت لي نفسي: ربما كان هؤلاء الشعراء الجدد يشكون من ضيق في التنفس، فلا يستطيعون ان يحبسوا في صدورهم اكثر من جملة او جملتين.
مع ذلك فأنا واثق من ان سامر أبو هواش قلم نظيف، وجملته مشرقة، ولديه الكثير ليقوله… ربما لو أعطى نفسه مزيدا من الوقت والجلد لاكتمال الرؤية، واكتمال الجملة، واكتمال المعنى.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
ليس صحيحا ان الحب تخيّل وأوهام وأحلام وتمنيات تذوب مع الهواء كالدخان. الحب »بشري«، يسكن أجساد الناس ولا يحلّق مع أرواحهم في الفضاء العالي.
انه يسمو بنا، ويجعل واحدنا شفافا، وهو يهذب غرائزنا، ويفتح لنا آفاق الاحلام ويشحذ إرادتنا لتحقيقها. لكنه في البداية والنهاية ينبع منا، كبشر، ويصب فينا، وإلا تحول الى مراهقة تبدأ في السراب وتنتهي فيه.