الإعلام الرسمي ينشر غسيلنا على سطح العالم
أخذتني اللياقة الى مؤتمر وزراء الاعلام العرب الذي انعقدت دورته الرابعة والثلاثون في بيروت، في أجواء احتفالية، ربما للتشوق الى »الفرجة« على أي لقاء عربي، بالكوفية والعقال، في هذه العاصمة التي بات العديد من المسؤولين العرب يتجنبونها بعدما ارتبط اسمها بالمقاومة، منعا للحرج أو دفعا لشرط التورط في قول أو في فعل قد يصنَّف »ارهابا« أو »دعما للارهاب« والعياذ بالله!
في القاعة المحدودة المساحة ازدحمت الأعلام المزركشة التي تتبادل ألوان »العلم العربي« زواياها ومسطحاتها الأفقية والعمودية، الأخضر والأحمر والأبيض والأسود مثل »وقائعنا«، كما ازدحمت اللوحات الدالة على دول الوفود، وخلف كل لوحة احتشد كبار موظفي هذه الوزارات التي تتحكم الى حد كبير بعقول »العامة« في الوطن العربي الكبير، فتحاول حشوها بالمعلومات أجنبية المصدر، في الغالب الأعم، وبالأخبار المحلية الكثيفة التي لا تخبر شيئا، اللهم عدا طمأنة الرعية الى صحة حكامها وأنشطتهم المباركة.
على مقاعد الوزراء كان يجلس عدد من »الزملاء« السابقين الذين بلغوا من الدهاء حد إقناع الحكام الذين كانوا يعارضونهم، لأنهم الأدرى بكيفية »إقناع« الشعب بل و»إفحامه« بأنه هو المقصر والعاجز والمتهاون والمتخاذل عن النهوض بواجباته، وانه لو كان بمستوى حكامه لكان للعرب »الصدر دون العالمين«، في الدنيا والآخرة.
وحده عمرو موسى كان قلقا، يحاول التأقلم مع موقعه الجديد، كأمين عام لجامعة الدول العربية، فيبدأ كلامه بنبرة المعبر عن سياسة معتمدة، ثم ينتبه الى أنه »حصيلة الاجماع« وليس مخولا لوحده بتحديد الموقف النهائي وفق قناعاته، فيهدأ وإن ظل داخله يغلي.
فجأة انهالت الخطب الرسمية، فتناوب الوزراء على طرح مقترحاتهم المخيفة وأخطرها المطالبة أو السعي الى/ أو الدعوة الى اقامة فضائيات عربية ناطقة باللغات الأجنبية، لا سيما الانكليزية والعبرية.
لم أكن وحدي من أصيب بصدمة أو دهمه الخوف: ماذا، أتريدون فوق هذا الذي نحن فيه، وبعد هذا الذي نعانيه من إعلامنا الرسمي الباهر الذكاء والفائق القدرة على الاقناع، والمتميز بدقته وموضوعيته وصدقيته، والذي لا يأخذه الهوى الى الغلط ولا يجرفه النفاق الى تزوير الحقائق، ولا يخشى في الحق لومة لائم؟
أتريدون تعميم فضائحنا ونشر غسيلنا الوسخ على سطح العالم كله؟
أوتفترضون أن المشكلة في عدم وصول صوتكم الرسمي باللغات الأخرى الى عالم الأقوياء، وانه اذا ما بلغ مسامع عواصم القرار تلك فلسوف يقتنعون فورا ويظهرون الندم ويطلبون الصفح عما تقدم من ذنوبهم وما تأخر؟!
هل المشكلة في اللسان أم في الموقف؟!
هل هي الفصاحة أم السياسة؟
ما هذا التزوير المفضوح، والتدليس على »الرعية«، وخداعها بتقديم التبرير المسبق لإنفاق عشرات وربما مئات الملايين من الدولارات، يذهب أكثر من نصفها رشاوى وسمسرات وعمولات، ويرتزق بالباقي بعض »شركات العلاقات العامة« وبعض المنافقين الغربيين المتخصصين في الضحك على ذقون المسؤولين العرب، وبيعهم بعض الكلام الرخيص عن ظلم الغرب للعرب وعدم تفهمه لمصالحه عندهم، وغباء مسؤوليه، وعن تقصير العرب أنفسهم في شرح مواقفهم وايصال وجهات نظرهم التي لا يردها عقل، الى مراكز القرار، وهو تقصير سينتهي مع »تكليفهم« هم »الخبراء« في شرح عدالة القضية وفي تبيان المنافع العظيمة للتفهم الغربي للحق العربي؟!
التفتّ الى من حولي فقرأت الرعب على وجوه من تبقى من رفاق السلاح في مهنة البحث عن المتاعب، والمتاعب للمناسبة لم تعد تحتاج الى البحث عنها فهي »الحاضر الأكبر« دائما وأبدا، عند المنتمين الى الصحافة بالقرار الذاتي الواعي وليس بالتعيين بانتدابهم من وظائف حكومية أخرى.
ماذا ستقول هذه الأبواق الرسمية التي احترفت تعميم الجهل وطمس الحقائق وتزوير الأرقام لأهل القرار والرأي في الغرب… ثم في اسرائيل! ويا للفضيحة!! يا للهول، بلغة عميد المسرح العربي يوسف وهبي!
إذا كان أطفالنا في القرى النائية لا يصدقون حرفا مما يقوله الإعلام العربي الرسمي أو شبه الرسمي أو الخاص المملوك من الأسر الحاكمة، أو الدائر في فلكها، فكيف سيصدقه »الراشدون« من الفرنجة وشعب الله المختار؟!
ثم إن الاشارة الى المغتربين والمهاجرين لا تقل خطورة، فهذا معناه أننا سنورط هؤلاء الذين ابتعدوا عن أرضهم مرغمين، وتحت وطأة الضغط السياسي أو الشح في مصادر الرزق، أو أننا وهذا هو الأدهى سنلحق بهم الى مغترباتهم لنعيد تقسيمهم وضرب تضامنهم وبث الفرقة في ما بينهم واعادة تصنيفهم »موالين« و»معارضين«، هذا اذا لم تلعب السلطات اللعبة الجهوية أو الطائفية أو المذهبية.
لقد بنى هؤلاء المغتربون والمهاجرون و»المهجرون« مؤسسات وأنشأوا شبكة جيدة من العلاقات المفيدة لأوطانهم، بعامة، لو أن حكوماتهم تفيد من خبراتهم وتحترم عقولهم، وتسمع منهم بدل أن تفرض عليهم ما يناسب مصالح بعض أطرافها ويتناقض مع مصالح بلادهم الأصلية كما مع مصالحهم هم في ديار الاغتراب.
… ورأيت نفسي أستعيد أجواء النقاش الموضوعي والحوار الراقي والعرض الدقيق الذي استمتعت وأفدت كثيرا بالاستماع اليه خلال الندوة متعددة الأصوات التي شاركتُ في بعض محاورها والتي نظمتها اللجنة الاميركية العربية لمكافحة التمييز في ضاحية من ضواحي واشنطن قبل أسبوعين.
لم يزيف هؤلاء العرب الاميركان أنفسهم ليقنعوا الادارة الاميركية أو الرأي العام الاميركي، ولكنهم كانوا يتحدثون من داخل القوانين والانظمة الاميركية، وكانوا يرفعون أصواتهم بوصفهم »مواطنين أميركيين« لهم حقوقهم »كأقلية من أصول عربية«، ولهم موقفهم من سياسة »ادارتهم«، بمعنى أن لهم الحق بنقدها واظهار تحيزها المضر بالمصالح الأميركية.
مساء يوم الجمعة في 8 حزيران كان الحديث »للضيف« رالف نادر: المرشح الرئاسي والمدافع المتميز عن المستهلك، والعدو البارز لأعمال الغش والتزييف وافساد البيئة، والذي تخلص أخيرا من عقدة الانتماء الى »أقلية عربية«، والذي اشتدت عليه حملة اليهود لأنهم رأوا فيه المتسبب المباشر في خسارة مرشحيهم آل غور ونائبه اليهودي ليبرمان، معركة الرئاسة الأميركية.
كانت القاعة تشتعل حماسة، لكن رالف نادر استمر يتحدث بمنطق هادئ، ويسرد الوقائع والأرقام التي تؤكد وجهة نظره وتبرر حملته الضارية على الشركات المخالفة، وعلى التصرفات المؤذية للبيئة.
وحين عرض الوضع في منطقتنا عموما، وفي فلسطين على وجه الخصوص، لم يعوض برفع الصوت عن الحجة وعن البرهان وعن الموقف القانوني، بل احتمى بالشرعية الدولية وهو يدين الارتكابات الاسرائيلية. وكانت حافظة أوراقه حافلة بالاستشهادات التي تعزز المنطق، سواء على شكل وقائع أو أقوال لمسؤولين اسرائيليين أو لمسؤولين أميركيين… ودائما بمنطق الحرص على المصالح الاميركية، أكثر مما بدافع عاطفته تجاه البلاد التي تحدر منها.
على أن الطريف أنه حين استذكر »لبنانيته« واستعاد بعض الجمل العربية التي حفظها منذ طفولته عن والدته، فإن أبرز »الأقوال المأثورة« التي رواها هو ذلك المثل الشعبي الذي يدعو الى عدم توقع عجائب والى عدم الانتظار »حتى يطلع الحشيش«!
… ونعود الى وزراء الاعلام العرب الذين خرجوا على مألوف عاداتهم فلم يتبجحوا كثيرا وانما اعترفوا ببؤس الحال وبتفاهة الاعلام الرسمي وقصوره وتخلفه، ثم انطلقوا مباشرة لإنبات الحشيش بالانكليزية وبالعبرية، وكأنما العيب في »اللغة« وليس في المضمون، وفي المستمع العربي وليس في »الموجِّه« و»المقرِّر« و»المرشد« المسؤول عن حماية »الشعب القاصر« من سموم الدعاية المعادية، ومن تقاتل الأخبار والافكار لو تُركت بلا… ضابط!
اللباد: مئة ساذج وأكثر!
من الصعب أن تشرح الأفكار التي يلخصها ويكثفها ويقتحمك بها الرسم الكاريكاتوري، فهو »لغة قول« استثنائية لا تحتاج الى وسيط، بل إن »الوسيط« يفسدها مهما بلغ من البراعة في قراءة ما يغني النظر فيه عن القراءة.
ولأن فن الكاريكاتور يخاطب العقل مباشرة، عبر العين، فإنه قد ألغى الحاجة الى »اللغة«، ويمكنك أن تستمتع برسم في مطبوعة أميركية أو بريطانية حتى لو لم تكن تتقن الانكليزية، أو في صحيفة فرنسية وان كنت لا تعرف حرفا من لغة فيكتور هوغو أو جان بول سارتر أو بريجيت باردو.
وهكذا فلستُ أعرف كيف أقدم آخر نتاج للطفل العملاق محيي الدين اللباد الذي أصدره تحت عنوان »100 رسم وأكثر«.
لقد قال في بضعة خطوط تملأ عددا قليلا من الصفحات الصغيرة الحجم، ما يحتاج الكاتب الى مجلدات في شرحه وتوصيفه لكي يتمكن من استخلاص ما قدمته هذه الريشة العبقرية بضربات سريعة وبغير كلام!
من »… العراق مريضة« وضمنه »النفط مقابل الغذاء« الى »مدريد وبعدها أوسلو ثم واي ريفر وشرم الشيخ وطابا.. الخ«، الى »الأطلنط يضربون زوغلافيا بأمر طنط« الى »اللحى المعفاة« الى »تركيا: عسكر أفنظم« الى »استكراد زعيم الأكراد أوجلان وخطفه الى تركيا«، الى ».. المُلك لمن يشاء« الى »جنرال شيلي بينوشيه معتقل في مستشفى بريطاني« الى »بيئا، بيئا، بيئا« الى »الصحافة لا تقول« الى »كمبيوطر وانطرنط« حيث يستمتع اللباد باللعب الالكتروني بالسذاجة الطفولية المطلقة وصولا الى »فقر وعكننة« و»فلوس وتفاليس« مرورا ب »كوريا تصالح كوريا« و»ديانااااآه«! و»تربية وتعليم« الى »سي دي يا سي دي« وانتهاء ب »أميركا في النافوخ«، يقول هذا الفنان متعدد المواهب كل ما »في نفسه« قوله ببراءة لافتة يؤكدها غياب الكلام!.
على أن الرسم الأكثر تعبيرا من كل هذا الهذر يبقى صورة قفا الغلاف، حيث يطالعك محيي الدين اللباد بوجهه »البريء« الى حد أنك ستلتفت بعده الى نفسك لتتبين أين يكمن الخطأ فيك الذي يجعله يسخر منك بكل هذا الهدوء الطفولي الساذج!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا تسأل حبيبك كم مرة أحب، ولا تلحَّ عليه أن يؤكد لك حبه كل ساعة. الحب نهر متدفق متكرر الفيضان. من زمان أرحت نفسي واعتبرت أنني كنت في كل من أحبهن حبيبي وفي كل من سيحبهن بعد. يأخذني امتلائي بالحب الى الافتراض أنني البداية والنهاية، أنني كل المساحة الممتدة بين الحرفين السحريين!