طلال سلمان

هوامش

»مقدمة« عن مؤتمر العرب الأميركيين وعن الأمل »المستورد«! من واشنطن!
قصدت واشنطن متثاقلا ومدفوعا بالحرج من الاعتذار الى الاصدقاء في »اللجنة الاميركية العربية لمكافحة التمييز A.D.C.« وعلى رأسهم »خيمة قضيتنا« السيدة هالة مقصود، وعدت منها مفعما بالامل وقد استعدت كثيرا من الثقة بالنفس والاعتزاز بالهوية العربية.
ولقد ساءلت نفسي وأنا اقارن بين حالتي في الذهاب ثم حالتي في الاياب من هذه الرحلة الطويلة والمنهكة: ترى هل بات علينا ان »نستورد« الامل من الخارج، وبالتحديد من الجهات المخاصمة او المعادية والتي تمتد من واشنطن الى تل ابيب؟!.
ذلك ان القول الشائع، الآن، انه: ما التقى عربيان الا وكان اليأس ثالثهما!. يستوي في ذلك ان يكونوا من »المشارقة« او من »المغاربة« او حتى من الديار المنسية كالسودان والصومال وجيبوتي وصولا الى جزر التمر!
الاستثناء المحدد واللافت معاً يتصل بالمنخرطين، حتى الساعة، في مواجهة اسرائيل بالموقف او بالسلاح، او بكليهما، وعلى الارض المروية بدماء المجاهدين والشهداء، وبالتحديد لبنان وفلسطين الانتفاضة.
… لبنان المهدد في حاضره وفي مستقبله بسبب من ازمته الاقتصادية الخانقة التي يبدو وكأن لا مجال لمحاصرتها ووقف التدهور وتوفير »مخرج نجدة« منها، وبالتالي من مفاعيلها الاجتماعية التي يحولها تجار الازمات الى »انشقاق« من حول الثوابت الوطنية، والى »عراك« حول الوجود السوري، والى تجديد الخلاف على البديهيات كمثل توحيد الجامعة الوطنية او الاحتكام الى الدستور عندما يحتدم الصراع على الصلاحيات بين الرؤساء فنكشف جميعا ان »المؤسسات« اسم على غير مسمى وشكل ثقيل الكلفة ولكن من دون مضمون!
… وفلسطين التي يكاد شعبها الأبي لا يجد قوت يومه ومع ذلك يندفع الى مواجهة »الامبراطورية الاسرائيلية« الهائلة القوة فيمرّغ ادعاءاتها حول كونها »واحة الديموقراطية« بين المتوحشين العرب بوحل ممارساتها العنصرية ويقدمها الى العالم بصورتها الاصلية: حاكمها سفاح وجيشها قاتل لاطفال الحجارة ولأطفال ما زالوا رضّعا ولكنهم قد يحملون او يحملن ذات يوم الحجارة او ما هو اثقل منها لرمي الاحتلال الاستيطاني بها طلبا للحد الادنى من الادنى من حقوق الانسان.
كان موضوع الندوة متعددة الاصوات التي نظمتها اللجنة العربية الاميركية لمقاومة التمييز وجعلتها عنوانا لمؤتمرها الوطني الثامن عشر، هذه السنة: »العلاقات العربية الاميركية«، وقد دعت اليها فأشركت في مناقشتها ثلاثة وسبعين »خبيرا« »وخبيرة«، معظمهم من »العرب الاميركيين«، وبينهم نخبة كبيرة من الاساتذة اللامعين العاملين في الجامعات الاميركية الكبرى، وقلة من الكتاب والباحثين والمحللين الذين جاءوا من بعض اقطار المشرق على وجه الخصوص (فلسطينيين من الداخل ومن داخل الداخل (1948) وسورية هي الدكتورة بثينة شعبان، ومصري هو الكاتب المعروف محمد سيد أحمد، وعراقي لاجئ الى هولندا يدرس في بعض جامعاتها ولبناني هو كاتب هذه السطور).
***
في مطار دالاس (المسمى على ذكر طيب الذكر جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الاميركية في عهد الرئيس الاسبق دوايت ايزنهاور 1952 1960، وهو الوزير الذي لا تحمل له الذاكرة العربية الكثير من الود، اذ ان اسمه قد ارتبط بسحب العرض الاميركي لتمويل السد العالي في مصر، فكان السبب المباشر في يأس جمال عبد الناصر من الغرب كله، وخصوصا ان موقف كل من بريطانيا وفرنسا كان واضحا كل الوضوح و»يبشر« بالعدوان الثلاثي الذي لم يتأخر طويلا بعد اقدام ذلك الزعيم العربي التاريخي على تأميم »الشركة العالمية لقناة السويس« التي كانت تحرم مصر بعض اهم مصادر دخلها بالعملة الصعبة لحساب »اصحابها« الاجانب وهم بالأساس بريطانيون ومعهم الفرنسيون ، وتخصيص هذا الرافد المالي المهم للانجاز العظيم السد العالي الذي ضمن الحماية الدائمة لمصر وشعبها من فيضان النيل، كما ضمن لها النور وزيادة المساحة المروية من ارضها بمقدار الربع، او ما يزيد على ذلك، فضلا عن الجوانب المعنوية التي لا تقدر بمال..)
في مطار دالاس سألت الاصدقاء الذين تكرموا باستقبالي عند ضاحية »كريستال« التي سيعقد المؤتمر في فندق فيها »ماريوت كريستال ارلنغتون« فقالوا انها قريبة جدا لا يفصلها عن واشنطن الا نهر بوتوماك وأحد جسوره الكثيرة… لكنني وجدت في الامر »مغالطة« ما: فبين واشنطن وبين هذه الضاحية التي تقع اداريا داخل ولاية فرجينيا جسر ارلنغتون حيث تقع »المقبرة الوطنية« التي يدفن فيها الرؤساء والكبراء والابطال الوطنيون، وهي التي جعلت في الاصل، مقبرة »تأديبا« لاحد ابطال الحرب الاهلية الاميركية، الجنرال ايلي، اذ اقتطعت مساحتها من اصل خراج مزرعته الهائلة الامتداد من حول قصره المنيف الذي ما زال قائما حتى اليوم فوق رابية تطل على واشنطن عبر النهر، خلف جسر ارلنغتون.
ثم ان بين هذه الضاحية الانيقة والقائمة في وسط غابة تمتد الى البعيد البعيد، وبين فندقنا الضخم والمتواضع الخدمات، يقع ذلك المبنى الهائل للسر الذي ينجب قوافل لا تنتهي من »الاميركي البشع« اي »البنتاغون« اي مقر وزارة الدفاع وجهاز المخابرات المركزية الاميركية .
قال دليلي: هذا اكبر مبنى في الكون بمساحته وهو فريد في بابه، من حيث طراز بنائه المقفل من جهاته الاربع، اذ يعمل فيه، على مدار الساعة، جيش من الموظفين تعداده اربعون الفا، ثم ان تجهيزاته التقنية لا مثيل لها في اي مكان آخر!
في الفندق، ومع تسلمي المطبوعات الخاصة بالمؤتمر الوطني الثامن عشر للجنة الاميركية العربية لمكافحة التمييز، بعرضها الدقيق للوقائع والفقرات التي يتضمنها البرنامج الممتد على اربعة ايام (من الخميس في 7 حزيران وحتى الاحد في العاشر منه)، انطفأ تضجري من رحلتي الطويلة، وشعرت بشيء من الخجل لتوهمي انني انما دعيت الى »مكلمة« عربية اخرى، ولو في ارض اجنبية، سيردد فيها بعض محترفي الحديث من العرب، ولو باللغة الانكليزية، ما نعرفه (ونرفضه!!) من الوقائع والتقديرات والتخمينات والتحليلات ومن ثم الاحكام القاطعة حول اوضاعنا الممتازة، والتي بوسع واحدنا ان يقرأ او يكتب او يسمع عنها بغير ان يتجشم عناء رحلة يجتاز خلالها المحيط الاطلسي، الذي سماه العرب القدامى »بحر الظلمات«، مرتين في اسبوع واحد، بغير رفيق يؤنس وحشة مطاردة الشمس، ذهابا، بما يطيل نهارك نهارا او اقل قليلا، ومن ثم الاندفاع نحوها رجوعا بما يختصر الليل الى نصفه او اقل.
***
مقدمة طويلة كانت تأخذنا بعيدا عن موضوعنا.. قاتل الله الاستطراد، لكنني ربما قصدت ان »أصور« الجو النفسي، او الجو المحيط، بهاته الكوكبة من المشاركين والمشاركات العرب الاميركيين في هذا المؤتمر السنوي للجنة الاميركية العربية لمكافحة التمييز، والذي اقر الآن بأنني قد شرفت بدعوتي للحديث في واحدة من ندواته متعددة الاصوات والمداخل والعناوين حول العلاقات العربية الاميركية.
كانت الفقرة الاولى في البرنامج الرسمي، ووفق التقليد السنوي، لقاء يعقبه او يتخلله عشاء في احد المباني »الرومانية« الطراز التابعة للكونغرس عند تلة »الكابيتول«، مع عدد من الشيوخ والنواب الاميركيين، قدر المتفائلون انه سيزيد قليلا على ثلاثين من اعضاء الكونغرس.
لكن الذين جاءوا فعلا كانوا نفرا قليلا جدا ممن يتأثرون اشد التأثير بحجم الناخبين المتحدرين من اصل عربي في دوائرهم الانتخابية.
… وكانت الفقرة الاخيرة في البرنامج الرسمي تنص على لقاء مفتوح مع وزير الخارجية في الادارة الجديدة كولن باول… لكن الجنرال الذي صار رأس الدبلوماسية الاميركية لم يأت ولم يوفد من يمثله وينوب عنه.
وكان التفسير، غير الرسمي، في الحالين واحدا: عملية تل ابيب الاستشهادية بما اثارته في الدوائر الغربية من »تعاطف« مع الضحايا الاسرائيليين، وهم جميعا »مدنيون«، وهو »تعاطف« كاد يغطي على تاريخ السفاح ارييل شارون والجرائم التي لا تقع تحت حصر والتي ارتكبها الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر ضد الاطفال الرضع والفتية الصغار والاغتيالات المنظمة ضد »الكوادر« الناشطة في الانتفاضة، فضلا عن قصف المخيمات وتهديم المنازل الفقيرة وتجريف الارض »واستئصال« الاشجار وقطع الطرقات وتقطيع اوصال غزة وعزل كل حي فيها عن الآخر، وكل مدينة وكل قرية في الضفة الغربية عن الاخرى بالدبابات والمستوطنين الذين لا يروي غليلهم الا الدم والمزيد من دم الابرياء.
اي »مدخل« افضل للحديث عن العلاقات العربية الاميركية، خصوصا في ظل انعدام التأثير العربي على القرار الاميركي، برغم الخنوع والخضوع وتلبية الاوامر قبل صدورها والتوقيع على الصفقات المدنية والعسكرية، وبالمليارات وعشرات المليارات، بغير السؤال عن الحاجة اليها او القدرة على سداد نفقاتها الهائلة وغير المبررة في الغالب الاعم، وغير المنتجة وغيرالمفيدة الا للشركات الاميركية المنتجة، ولتشغيل المصانع والايدي العاملة الاميركية، ولتعزيز الازدهار الاقتصادي الاميركي بما يمكن واشنطن من ان تكون »روما الجديدة« بالدولار اضافة الى السلاح، وبوفرة الانتاج وتعاظم معدلات النمو اضافة إلى الحجم الخرافي للاستثمارات. في الخارج قبل الداخل واحتكار الاسواق، بإغراقها كماً ونوعاً بكل مبتدعات نمط الحياة الاميركية الذي يسمى مجازا »العولمة«؟!
وفي اللقاءات الجانبية مع الرئيس الطيف للجنة، السيدة هالة مقصود، التي قاومت مرضها بإيمانها وبالعمل الدؤوب وحققت نجاحات باهرة وهي تخطط الآن للمزيد، ومع اصدقاء قدامى بينهم خليل جهشان وادمون غريب وسميح فرسون، واصدقاء على البعد كثيرين وجلهم من الاساتذة المجلين في كبريات الجامعات الاميركية، قبل ان يصل الينا ادوار سعيد المقاتل الشجاع ضد السرطانين (المرض وإسرائيل) فضلا عن الانحرافات الفلسطينية خصوصا والعربية عموما، كانت الازمة في العلاقات العربية الاميركية تتبدى واضحة بحيث لا يمكن تمويهها: انها عربية المصدر والسياق والنتائج… فلو كان العرب عربا، كما هم الاميركيون اميركيين، لكان الحال قد اختلف اختلافا جذريا عما هو عليه الآن.
ولكن »لو« لا تعطي كنتاج ان هي زرعت اكثر »من يا ليت«،.
مع ذلك فالعرب يحبون »لو« كثيرا، ويحبون »يا ليت« الحب كله!
***
لا يمكن اختصار هذه الحرب الناجحة التي يخوضها العرب الاميركيون في عجالة كهذه، فالانجاز اكبر من ان يأتي ذكره عرضا، واعظم من ان يحصر الفضل فيه في شخص او اشخاص عدة، وان »البطل« هذه السنة وبغير منازع هو ذلك الفتى الذي يصارع التنين على ارض فلسطين وسلاحه ايمانه والحجر.
كانت الانتفاضة تظلل الجميع بانجازاتها الباهرة.
وكانت تجربة لبنان المقاوم تطل مشعة عبر الانتفاضة، لتؤكد كم هي وثيقة ومتينة وثابتة صلة الرحم بينهما.
وكان هذان الانجازان يضخان الامل في قاعات المؤتمر الناجح والغني بالافكار والطروحات والمناقشات، و»العائلي« الحميم، اذ ان الاعضاء المشاركين وهم بالمئات جاءوا اليها بكل افراد عائلاتهم، الآباء والامهات والابناء والبنات والاحفاد والحفيدات، خصوصا وقد لحظت للفتيان مساحة خاصة للترفيه، بعد العمل، اذ كان الليل يقصر بحفلات الرقص والغناء والاجتهاد في محاولة تطوير الدبكة او ابتداع »كوكتيل« من انماط الدبكة اللبنانية الفلسطينية المشتركة، وهي ارقى بكثير وأمتع بما لا يقاس من تلك »القيادة المشتركة« التي يحاول الكل نسيان تجربتها المرة قائلين: تنذكر ولا تنعاد.
… ولنا عودة الى حديث هذا المؤتمر العربي المميز الذي ارضه اميركية ولغته انكليزية ولكنه »قومي« المنحى والنتائج اكثر بما لا يقاس من مؤتمرات القمة العربية، واكثر جدية وتأثيرا وأعمق فهما وأعظم تنبها للمستقبل مما »تبشر« به السياسة الرسمية العربية في الحال وفي الاستقبال.
انه مؤتمر لمقاتلين لم يهربوا من الميدان، ولكنهم اختاروا بوعي سلاحهم الذي يمكنهم من خوض معركة ناجحة، والباقي علينا.
وعنا نحن الذين تخصصنا بالمعارك الخاسرة، والتي غالبا ما انتهت بالاستسلام، او باليأس، وهو ابشع، سيكون حديثنا في »هوامش« الاسبوع المقبل، فإلى اللقاء.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة الا الحب:
عندما يرحل فنان كبير أحس ان عالم الحب قد فقد نجما لامعا من نجومه. أغبط الفنان على قلبه البلا مدى. انه يتسع للعالم كله. أتمنى لو أنني أعطيت بعض قلب الفنان اكثر مما اتمنى لنفسي موهبته. الموهبة قد تكتسب لكن الحب يولد معك وبه تعيش وفيه يعيش اولئك الذين يعطونك لحياتك المعنى. اللهم امنحني قلب الفنان اما العقل فأمره هين!

Exit mobile version