تهيّبت لحظة الدخول: كنت كمن يقتحم »الحلم« وقد استكان ليستوطن الذاكرة، مفتقدا زخم التحدي وعنفوان ادعاء القدرة على إسقاط المستحيل.
هل باتت احلامنا خلفنا، متلبدة تحت الشعر الابيض، او في ثنايا الملامح التي ذهبت بنضرتها التجعدات والغضون والهموم واخطرها تهاوي الابطال وشحوب التعبير عن القضية المتوهجة بالامس؟!
هل شاخت احلامنا كما شاخ هؤلاء الذين كبرنا بهم وأمدتنا مُثُلهم باليقين؟!.
أم اننا ضعفنا فرمينا الاحلام »القديمة« وهربنا من اعبائها واتهمناهم بأنهم السبب في انه لم يتبق لدينا احلام لكثرة ما استهلكوا في زمانهم الجميل؟!
ما أغنى هؤلاء الكهول بالتجربة ومراراتها التي طمست تلك النهارات البلا ليل، والليالي الممتدة عبر النهارات، لإنجاز المهمات التي لم تكن قداستها مطروحة للنقاش؟!
أقوى من الحدود، كانوا، ومن حرس الحدود.
أقوى من الطائفية والمذهبية، ومعها الكيانيات، كانوا، يمشون فوق هاماتها من دون ان يخافوا شبهة »التطرف« او تهمة »الارهاب«؟!
أقوى من الانظمة، ملكية وعسكرية و»ديموقراطية« مشوّهة، كانوا. تسعى اليهم نفاقاً فلا يمدون اليها اليد حتى لا يتهموا بالتعب او بالقصور!
آثار اقدامهم، بعد، فوق الطريق الطويل بين المحيط والخليج: حملوا اليها راياتهم ليسلموها للاخوة الذين كانوا في انتظارهم هناك،
أمامك هنا من كان مسؤول تنظيمه القومي، في اليمن، او عن منظمة الحزب في المغرب، لا هو كان يتجلبب بما يموّه طبيعة رسالته، ولا هناك كانوا يجبنون فينكرون صلتهم بأفكاره، ومن ثم بحقهم الطبيعي في تغيير يومهم وغدهم من اجل استنقاذ حياتهم ومستقبل اولادهم!
وأمامك هنا طابور من »الفدائيين« الذين اسقطوا اسطورة القوة الاسرائيلية التي لا تقهر، منذ نصف قرن، ومنذ اربعين سنة، ومنذ ثلاثين، ومنذ عشرين، ولذلك فهم يقاتلون القائلين بأسطورة ان لا حل إلا بالوقوع في فخ التوقيع، والتنازل عن الارض مقابل وهم »السلام«،
أمامك بعض تاريخك…
هل تلك صفحة في كتاب قديم، صار مكانه الرف او الذكريات؟!
هل الانقطاع صارم ووحشي الى هذا الحد بين الكهول المحتشدين في هذه القاعة الصغيرة، لدار الندوة، وبين الحياة التي تكمل انطلاقتها خارجهم وخارج القاعة، وخارج منتدى الفكر القومي؟!
أليسوا آباءنا واخوتنا الكبار ورفاق السلاح؟!
أليسوا نحن؟!
أليس العجز فينا اذا كنا قصرنا عن ان نكونهم؟!
وهل القطيعة حادة الى هذا الحد بيننا وبين ابنائنا؟!
ألا امتداد، ألا استلهام، ألا اتصال.. ولا استكمال للمهمات؟!
هل لكل جيل »تاريخه« بالتعارض مع »ذويه« و»أهله«؟!
* * *
متعبة هي الاسئلة، مضنية هي الذكريات..
لكننا نحن من عاش على اطراف ذلك الحلم الجميل. لم يحدثنا عنه احد، ولم نقرأ عنه في روايات جرجي زيدان.
لقد كنا هناك، على هدب الحلم، وكان انجازنا عملاقاً بهياً مشرقاً عفياً يزلزل الارض تحت اقدام »الاعداء« الخائفين…
الوحدة، أجل… لقد اكد الاستثناء القاعدة، ففي 22 شباط من العام 1958 كانت الأمة في الشارع تصنعها وتفرضها،
أين نحن اليوم من احلامنا؟!
أين نحن من الطريق الى احلامنا؟!
هؤلاء الشيوخ امامنا يقولون بصمتهم انهم قدروا فأنجزوا،
فماذا ترانا نقول نحن، وماذا يقول ابناؤنا؟!
ذلك هو التحدي الاخير الذي يطرحه علينا هؤلاء الذين نذروا انفسهم للفكرة، والحزب والحركة والراية القومية والنضال الوطني، فاستحقوا التكريم مرتين: حياتهم الاولى، ثم عجزنا عن إنجاز مثل ما انجزوا، برغم اخطائهم وبرغم انهم قد تسببوا بتهديم الكثير مما انجزوه، وانهم في لحظة ضياع او صحوة قد أكلوا العديد من »اصنام آلهتهم«.
طلال سلمان