لا بأس من الاعتراف بأن »الهجوم المضاد« الذي نظمته الحكومة الإسرائيلية لتغطية الهزيمة في لبنان قد أعد بدقة، وبحذق سياسي، وبتوظيف ناجح لبعض ما طرأ من تحولات على الساحة الدولية، لا سيما بعد الإفشال المتعمد لقمة جنيف.
إن النصر الذي حققه لبنان المقاوم استثنائي بكل المعايير، حتى ليكاد يكون نقطة تحول في سياق الأحداث في منطقتنا جميعا، ومن البديهي ألا تتقبّل إسرائيل هزيمتها مستكينة ومن دون محاولة للرد أو للتعويض أو لطمس الحقيقة بتبديل موضوع البحث وعنوانه، مفيدة من المتغيرات في مواقف بعض عواصم القرار، وواشنطن بالذات، لأسباب هي بمجملها انتخابية، أي تتصل بأحد معاقل النفوذ والتأثير الإسرائيلي.
لكن ما نشهده الآن ليس نهاية العالم، ولا يجوز أن يحجب دخان المناورة ونجاحاتها التكتيكية أن أساس الموضوع ما زال هو هو لم يتبدل: فالانسحاب من لبنان ما زال وعداً لم ينجز، و»الاعتراف« بالقرار 425 لا يعني بالضرورة تنفيذه، فإذا ما فرضنا جدلاً ان إسرائيل التزمت بهذا وذاك ونفذت ما تعلنه الآن على الأرض، فعلينا ألا ننسى أنها لم تكن لتقدم على الأمرين إلا مضطرة… ونتيجة هزيمتها!
ومضحك هو الافتراض ان تنفيذ القرار 425 هو نصر لإسرائيل،
مضحك أيضاً الافتراض أن الانسحاب من الأرض اللبنانية المحتلة هو هزيمة للمقاومة الباسلة المعززة بصمود لبنان الرسمي والشعبي والدعم السوري المفتوح.
أما المخجل فهو أن يتعامل أي منا، في الداخل أو في الخارج العربي، وكأن الانسحاب قد تمّ فعلاً، وأن إسرائيل أكدت »صدقها« في إنجاز ما تلتزم به، واحترامها للشرعية الدولية، والتزامها ب»السلام« هدفا وغاية، وبات علينا تقديم البرهان على »صدقنا« والوفاء بالتزاماتنا ازاءها وازاء مطلب »السلام« الغالي جدا على قلوب هؤلاء المقهورين الممتهنة كراماتهم المنهوبة ثرواتهم والمحتلة أرضهم!
لقد اندفع بعض اللبنانيين، وقبلهم بعض المسؤولين العرب، إلى التهليل لهذه »المبادرة« الإسرائيلية »الطيبة«، بأكثر مما فعل الإسرائيليون الذين تسود لغة مسؤوليهم وكتّابهم ومعلقيهم لهجة متحفظة جداً، بل ومتخوّفة من انقلاب المناورة على بطلها!
للتوكيد، نقتطف مقاطع من مقالات ظهرت في الصحف الإسرائيلية أمس تحديداً:
} في هآرتس »مع انتهاء الانسحاب من لبنان المزمع بعد أسابيع عدة، ينتهي الوقود السياسي لهذه الحكومة التي ستسير متأرجحة عن موعد الانتخابات،
»خطة السلام الأخير التي وضعها باراك والتي وعدت بإنهاء الصراع قبل الخريف المقبل فقدت روح الحياة، ورئيس الحكومة فقد مكانته كزعيم قوي وريادي، وبدا يظهر الآن كمحلل للرأي العام، يفضل الانسحاب من لبنان على إعادة الجولان للسوريين وتقسيم الضفة الغربية بين إسرائيل والفلسطينيين..
»… صورة الناجح التي كانت لباراك تصدعت وفرّ رؤساء مجالس الأمن الوطني ولم يرغبوا أن يبقوا دون صلاحيات في هذه الحكومة ذات السياسة الضحلة..«.
»الآن يحتاج رئيس الحكومة لاستخدام رصيده السياسي الذي حصل عليه لشق درب الخروج من لبنان وتحويل الانسحاب من جانب واحد من عملية فرار مذعورة إلى انسحاب بالاتفاق.
2 »تتوجه إسرائيل بقيادة باراك لاستخدام ورقة »الشرعية الدولية« التي طالما كانت تستخدم بشكل تقليدي لتبرير المواقف العربية.. وهكذا تمّ إخراج قرار مجلس الأمن 425 من الأرشيف واستخدامه كرافعة لحشد التأييد من لبنان… باراك يتبنى للمرة الثانية قرارات حكومة نتنياهو التي لم تنفذ بسبب ضعفه وعزلته الدولية.
».. ومع أن هذا القرار لم يلق باللائمة على إسرائيل، في آذار 1978، فقد جرت قبل المصادقة عليه مفاوضات متوترة بين واشنطن ونيويورك والقدس. وضغط الأميركيون على إسرائيل حتى لا تعرقل تنفيذه… واتصل هيرتزوغ (وكان مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة) ثلاث مرات مع رئيس الحكومة آنذاك، مناحيم بيغن، خارقاً تقاليد يوم السبت لإقناعه بأن لا يعارض القرار«.
3 »الآن تحاول إسرائيل حشد جبهة دولية تعزل سوريا.
»الإدارة الأميركية التي تحفظت بشدة في البداية غيّرت موقفها بعد قمة جنيف..
»الأمم المتحدة ستكون لاعبا أساسيا والتوجه للحصول على المساعدة منها يعبّر عن تغيير عميق في الثقافة الإسرائيلية. لم تعد الأمم المتحدة »منظمة خاوية« وإنما هي الآن شريك سياسي ذو قيمة كبيرة. والأمين العام كوفي أنان يعتبر في القدس طرفا وديا ومنفتحا.
4 »إسرائيل هي مملكة الأساطير. لا شيء يبحث من حيث الجوهر. الحقائق الجافة لا تلعب دورا، وكل تفكير عقلاني مرفوض من الأساس. مشاهدو التلفاز يريدون دراما، وقراء الصحف يريدون عناوين صارخة: »لنأكل الحمص في دمشق«، أو »الأسد يغطس رجليه في طبريا«.
5 وإلى أبعد من هذا كله، ذهبت »يديعوت أحرونوت«، إذ قالت بعض مقالاتها:
»مثلما حصل في فيتنام، الجزائر، وأماكن أخرى، وعلى غرار مقاتلي حرب العصابات الآخرين الذين تعاقبوا على مرّ التاريخ فإن »حزب الله« هو منظمة عصابات وليس منظمة إرهابية. لذلك يبدو انه الأوان للتوجه العلني نحو »حزب الله« للتفاوض معنا بصورة مباشرة حول الانسحاب من جنوب لبنان. ومثلما كان الحال مع منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، فإن »حزب الله« اليوم هو إطار سياسي لا يمكن تجاهله وفي ظل غياب سوريا كشريك في المفاوضات حول الانسحاب بتسوية فإن »حزب الله« هو العنوان لذلك«.
هذه عينات من تعليقات وتحليلات وآراء الكتّاب الاسرائيليين في يوم واحد، وهي لا تعكس الشعور بالانتصار الذي ينسبه بعضنا الى اسرائيل بسبب قرار انسحابها!
لماذا، اذن، ننسب الى عدونا نصراً لم (ولن) يحققه، ونلعن شهداءنا ونحقر نضالاتنا وعذابات أهلنا، ونظهر كل هذا الهلع من احتمال تطهير الجنوب من الاحتلال؟!
لماذا نرتبك فلا نعرف بماذا نرد، وماذا علينا ان نحضر، وكيف يتوجب علينا الاستعداد، وأين يجب ان نتحرك، ومن نسمح له بالكلام ومن نلزمه من بين المسؤولين ذوي المناصب بالصمت المطبق؟!
لماذا هذا »الرعب« الذي يكاد يصور ان الاحتلال الاسرائيلي كان عامل امان واستقرار وطمأنينة وازدهار، وان الانسحاب هو مصيبة تنزل بلبنان واللبنانيين؟!
لماذا هذا التباين في المواقف الرسمية الذي يظهر رئيس الجمهورية وكأنه متطرف، وبعض الحكومة وكأنه مذعور، وبعضها الآخر وكأنه يحاول التوفيق بين ما تراه بيروت وتراه دمشق؟!
بل لماذا نحمِّل دمشق هم توضيح او تحديد الموقف من الانسحاب، بينما الطبيعي ان نسبق الى اعلان الموقف، قاطعاً في وضوحه ومحدداً تماما في تبعاته، فتدعمنا دمشق من موقع الحليف الذي يفرح لانتصارنا المشترك في اجبار اسرائيل على الانسحاب، ثم نواصل معا معركتنا المشتركة من اجل مطالبنا المحقة الأخطر والمتصلة بأساس الصراع العربي الاسرائيلي وأبرزها حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، وهو مطلب وطني لبناني بقدر ما هو مطلب وطني فلسطيني ومطلب قومي ويأتي من داخل اطار الشرعية الدولية التي تحاول اسرائيل الآن وفي نقطة تفصيلية جدا استخدامها ضدنا، وبالطبع ضد الفلسطينيين وسوريا وسائر العرب؟!
لقد نجحت اسرائيل في ايهامنا وكأن الانسحاب قد تم، واطلت نذر خلافاتنا على ما بعده من قبل ان يتم، ونحن الآن مهددون باهتزاز التأييد الواسع الذي كان لقضيتنا، عربيا في البداية ومن ثم دوليا، ما لم نغادر ذعرنا الى العمل بوعي وبهدوء اعصاب وباستيعاب لحدود التحولات الدولية.
مع التذكير بأن اسرائيل لم تنفذ، منذ قيامها، قراراً واحداً من قرارات الشرعية الدولية، ولا يعقل ان تقدم الآن على تسجيل مثل هذه »السابقة« التي لا بد ستسحب نفسها على سائر القرارات، سواء تلك المتصلة بسوريا او بالفلسطينيين،
وبأن قوات الامم المتحدة ليست الآن ولن تكون »حرس حدود« لاسرائيل او مرتزقة تعمل بالاجر لحساب الاميركيين ومن ثم الاسرائيليين.
وان كوفي انان، وبمعزل عن ضعفه وجنوحه نحو الأقوى، لا يستطيع ان يتصرف بمجلس الأمن وكأنه »سيده«، متغافلاً عن طبيعة تكوين هذه المؤسسة الاممية ومواقع أطرافها الفاعلة (غير الاميركية) وأبرزها الصين وروسيا وفرنسا (على ترددها) ناهيك بالعرب والافارقة والآسيويين مسلمين وبوذيين وهندوساً وملونين اجمالاً!
قليلاً من الهدوء، قليلاً من الرصانة، وكثيراً من الوطنية، أيها السادة المتعجلون!.