جميل أن يلتقي وزراء الخارجية العرب في جامعتهم اليتيمة اليوم. سيتاح لهم أن يتبادلوا التعازي: البعض سوف يعزي اللبنانيين، والبعض سوف يعزي العراقيين والكل سيحاول أن يعزي بفلسطين فلا يعرف إلى من يتوجه بالمواساة إلا في اللجوء إلى الله عز وجل، فهو الولي وهو الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير.
فارغة من المعنى كلمات التعزية. من منا يعزي من؟ كيف تكون التعزية بالوطن أو بالقضية وسائر المقدسات؟.. لا ينفع في التهوين من سقوط الثورة الدعوة للعودة إلى الله، تهرباً من المسؤولية عن الفشل في امتحان الأهلية والقدرة على حفظ الأرض والحق بمستقبل يليق بأهلها وتضحياتهم الجسيمة من أجل أن يكونوا جديرين بها.
لكأننا نعزي بعضنا البعض في أوطاننا التي لم نعرف كيف نصونها ونحميها ومن لا يصون الأرض يخسرها فتضيع منه ويضيع في غربته عنها.
لكأننا نبكي أحلامنا وأمانينا التي كنا نراها بأم العين في مدى الذراع.
نشأنا وفلسطين في حدقة العين وفي النبض، تحتل جدول أعمالنا اليومي، نفكر فيها أكثر مما نفكر في شؤون العائلة، ونهتم لما يمكننا، بعد، أن نقدمه لتقريب يوم التحرير والعودة. تمتلئ صدورنا بالفخر ونحن نتابع وقائع النضال المفتوح لشعبها الذي كنا نعتبره القدوة، في إيمانه بحقه وثباته على بذل الجهد لاستخلاصه من عدوه القوي والذي يحظى بدعم مفتوح من أعتى دول الأرض. وكنا نعتبره أيضاً طليعة للأمة، بثقافته الواسعة، بخبراته المتنوعة، بتضامنه الصلب، وكذلك بعروبته الصافية التي تجيز له أن يرى في نفسه النموذج و المثال ، خصوصاً وأن أخوانه العرب عاملوه، بداية، على هذا الأساس.
الشعر لفلسطين، الرواية عن فلسطين، بل كل ما خط القلم لفلسطين. نبضات القلب ترافق الفدائيين في تحركهم في اتجاه أرضهم المقدسة. نتجاوز الأخطاء، التي طالما شاركناهم فيها، وطالما أغويناهم بالإيغال فيها. نتخذهم مثالاً للرحابة والقبول بالآخر المختلف. ونفرح باكتشافنا أنهم طوّعوا الإيديولوجيات لتخدم قضية التحرير، فابتدعوا ماركسية إسلاموية ومسيحية اشتراكية، وناصرية ملكية، … ومعهم، وبفضلهم أخذنا نعرف ما كان يجب أن نعرفه منذ عقود عن إسرائيل بمشروعها الأصلي ومجتمعها المركّب ودولتها التي قاعدتها الجيش واقتصادها الذي مداه دول الدنيا جميعاً.
ها هي فلسطين تسقط مضرجة بدمائها، وليس من متهم إلا الذين تعهدوا بتحريرها.. تكاد تضيع من أهلها وليس من مُدان إلا مَن حمل السلاح من أجل استعادتها من العدو ثم تاه عن طريقه إليها. نتفرج على الفدائيين وقد تحوّلوا إلى قتلة رفاق سلاحهم. كانوا يخفون وجوههم حتى لا ينتقم العدو من أهاليهم. ها هم ينطلقون إلى عملية نحر الذات وهم مقنعون حتى لا يعرفهم أهلهم فيموتون كمداً.. بعد القتل!
صارت الرايات التي رُفعت ذات يوم باسم التحرير مجرد علامات فارقة تدل على الحدود داخل الشارع الواحد، داخل الحي الواحد، داخل البيت الواحد، الذي لم يعد يتسع لشقيقين فكيف بتنظيمين وكيف بشعارين كلاهما صار من الماضي.
صارت الشرطة عصابات. وصارت الجامعات والمدارس والمستشفيات أهدافاً عسكرية.
وصارت السلطة التي لا سلطة لها برأسين و جيشين مقتتلين في ظل مدافع العدو وطائراته ودباباته وهي تواصل دك البيوت وقتل الأطفال. صارت المنافسة شديدة في أعداد من يسقطون بالرصاص الإسرائيلي ومن يغتالهم أخوتهم الأشقاء.
ضاعت القضية. اجتمع الضالون والمضللون، الواهمون، وباعة الأوهام، المستسلمون للعدو والذين تأخذهم الضغينة على الأخ إلى خدمة العدو، فصاروا جميعاً ضد قضيتهم، ضد وطنهم، ضد أحلام التحرير والاستقلال والعودة إلى البيوت التي ما زال أشقاؤهم في اللجوء يحملون مفاتيحها.
صار الفلسطينيون مثالاً على الضياع وإضاعة الحق. صار بعضهم يصف البعض الآخر بالمجرمين والخارجين على القانون والشرعية. انقلب الفلسطينيون على فلسطين، فوفروا نصراً مجانياً لعدوهم عدو العرب عدو المسلمين والمسيحيين (ذات يوم): إسرائيل.
… والمنافسة شديدة، الآن، بين الفلسطينيين والعراقيين، ومن منهم يحوز جائزة السباق في إعادة بلاده إلى ما قبل الدولة، بل وما قبل القبيلة والعشيرة والحمولة، وربما أيضاً إلى ما قبل الإسلام (بل الأديان جميعاً) مهما خفقت الرايات بالشعارات الإسلامية التي طمست الشعارات الوطنية والعربية حتى جعلتها نسياً منسياً، إن لم نقل إنها حملتها خطاياها ورمتها بدائها وانسلت.
وكما في فلسطين كذلك في العراق: نسي المقتتلون بالشعارات المزورة الاحتلال الأميركي وجهده اليومي المتواصل لتشليع بلادهم وزرع أرضها بالعبوات الطائفية والمذهبية الناسفة للأوطان، وانشغلوا بإبادة بعضهم بعضاً.
وليس لنا ما نتمناه في هذه اللحظة غير أن يعتصم اللبنانيون بوحدتهم، برغم المصائب والمصاعب والخلافات التي تظل مقبولة مهما عنفت حدة في الطروحات السياسية، وتصبح مصدراً لخطر مدمر كلما اقتربت من الحساسيات الطائفية والمذهبية.
أما وأنه لم يتبق لنا إلا الدعاء فلنتوجه إلى العلي القدير بأن يحفظ في الفلسطينيين بقية من وعي تنقذ قضيتهم من الضياع، وفي العراق بقية من إيمان بوحدتهم يعصم وطنهم من التفتت، وفي لبنان بقية من الوعي والإيمان والإصرار على أن يبقوا موحدين حتى لا تضيع منهم وحدتهم ?فيضيع منهم وطنهم، ولا يعود ينفعهم الندم، ولو كانت تساندهم أكبر دول الأرض وأعتاها وأعظمها ربحاً من خلافاتهم التي برغم حدتها لها الحلول الناجعة عند قوم يعقلون!