طلال سلمان

حتى لا يعطل »الفيتو« طائفي اكثرية

يباشر المجلس النيابي الجديد أعماله، غداً، بانتخاب الرئيس »القديم« الذي أنجبه (من حيث المبدأ) اتفاق الطائف في نسخته الأولى التي صاحبها كثير من الارتجال والتعجل لطيّ صفحة ما قبله.
وإذا كانت المفاوضات والمساومات التي ظللت الانتخابات النيابية قد أعطت أولى ثمارها عبر التجديد للرئيس القديم، ولو »بشروط« تفرضها التوازنات الجديدة، فإن الطموح إلى »التغيير الشامل« في ما يشبه »الانقلاب« لتوكيد انتصار »ثورة الأرز« قد اصطدم، ولسوف يصطدم أكثر، بحقائق قاسية وصلبة تمنع اكتمال الحلم وتفرض التواضع في تقدير حجم الإنجاز الممكن في ظل معادلات تبدو كأنها من خارج السياسة، ولكنها في لبنان هذه اللحظة هي لب السياسة… بشهادة ممثلي الوصاية الدولية الذين »داخوا« واعترفوا بقصورهم عن فهم طبائع هذا الشعب العجيب وعلاقته بقياداته المختارة.
إن الطائفية آفة قاتلة للديموقراطية، فضلاً عن كونها معيقة لولادة »الوطن«.
والأكثرية في لبنان ليست حاصل جمع أصوات المؤيّدين لهذا البرنامج السياسي أو ذاك، بل هي تركيبة معقدة من ممثلي الطوائف الذين يكاد يستحيل جمعهم على »برنامج وطني للإنقاذ« كالذي يحتاج إليه لبنان، والذي تطمح إلى تحقيقه بعض القيادات الجديدة التي جاءت »من خارج النادي«، والتي ترى الآن أن شروط الانتساب إليه تؤذي طموحاتها وتهدد بتعطيل قدرتها على التغيير.
وفي المجلس النيابي الجديد عدد من الأكثريات، بعضها »طبيعي« بقوة الأصوات التي تجتمع في أفياء تكتل ما، وبعضها الآخر »استثنائي« لا يستمد قوته من عدد أصواته بل من صفته الطائفية التي تعطيه »شرعية غير شرعية«، بمعنى أنها »واقعية« وليست »دستورية« وليست في أي حال »ديموقراطية«، ومع ذلك فهي تملك القدرة على تعطيل إرادة الأكثرية الديموقراطية (العددية) ب»الفيتو« الطائفي.
على سبيل المثال: فإن من حق سعد الدين رفيق الحريري أن يعتبر نفسه الممثل الشرعي (والديموقراطي) للأكثرية في المجلس النيابي الجديد… وهو قد استحق هذا التوصيف بالتفويض الشعبي الواسع عبر الانتخابات النيابية التي تمت بحضور طوابير لا تحصى من المراقبين الدوليين والمحليين الذين شهدوا عليها.
لكن هذه الأكثرية العظمى التي استدعت شبكة واسعة من التحالفات العابرة للطوائف ستصطدم بعقبة »الفيتو« الذي قد تستخدمه كتلة صغرى ولكنها ذات لون طائفي فاقع يتيح ل»جنرالها« أن يستخدم حقه »الديموقراطي« بالمفهوم الطائفي لتعطيل إرادة الأكثرية التي بقي خارجها أو هي أبقته خارجها، لا فرق…
ثم إن هذه الأكثرية المركبة لن تستطيع التصدي، بالقوة الشرعية التي تملكها، لما بات متعارفاً على تسميته ب»الدولة الأمنية«، التي تحمّلها المسؤولية عن الانهيارات المفجعة والأوضاع المتردية التي تعيش البلاد في ظلها، والتي يمكن نسبتها بداية إلى »التمديد«، ومن ثم إلى مسلسل الاغتيالات الذي أطل مع محاولة اغتيال مروان حمادة، ثم بلغ ذروته القصوى بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والنائب باسل فليحان ورفاقهما، والذي لم يتوقف عند حد بل سرعان ما استؤنف فطاول مفكرين وقادة سياسيين مثل سمير قصير وجورج حاوي، والذي يتخوّف اللبنانيون من أن تكون »قائمة الموت« فيه مفتوحة بعد، أقله حتى إشعار آخر…
ففي مناخ مثقل بسموم الطائفية تستحيل المحاسبة السياسية.
وها هو رئيس الجمهورية ينتقل، بعدما وصله المدد الطائفي، من موقع المحاصَر باتهامات خطيرة جعلت التفكير بعزله بنداً على جدول الأعمال، قبل حين، إلى موقع محصّن برمزية تمثيله لطائفته، ومنه انطلق ليهاجم خصومه موجهاً إليهم اتهامات بالقتل والسرقة والتخريب إلخ…
أكثر من ذلك: لقد رد رئيس الجمهورية على واقع أن الأكثرية النيابية المطلقة تعارض استمراره في سدة الرئاسة بالمطالبة »بحقه« في الثلث المعطل في الحكومة الجديدة، التي من حق خصومه ديموقراطياً أن يشكلوها، ملوّحاً بذلك بتعريض البلاد لأزمة حكم مفتوحة… بينما دول الوصاية الأجنبية لا تفعل غير توجيه النصائح بالهدوء وضبط النفس واحترام القواعد الطائفية للعبة الديموقراطية!
إن الأعداد وحدها لا تحل المشكلة… فالأكثرية يجب أن تكون »متوازنة« بالمفهوم اللبناني للكلمة أي أن يلتقي في أفيائها »الرموز القيادية للطوائف« جميعاً، فإن غاب واحد أو غيّبته »الديموقراطية« اختلت »الوحدة الوطنية«، وتمّ تعطيل القرار »الديموقراطي« مهما كانت ضرورته حيوية وملحة.
فالتوازن، في الحياة السياسية اللبنانية، شرط طائفي وليس شرطاً ديموقراطياً.
على هذا فلا بد من طي صفحة تجمعات ما قبل الانتخابات النيابية، وهي قد طُويت واقعياً عشية تأليف اللوائح حيث ائتلف خصوم وتفرّق حلفاء، وحيث تمّ طي بعض الأعلام والشعارات لتأمين الفوز »ولو بأصوات مَن نكرههم«!
لقد فرضت العملية الانتخابية التي أصرت الوصاية الدولية على موعدها متجاهلة الآثار المحتملة لقانونها على »الديموقراطية«، هدنة غيّبت مطالب وشعارات كانت تبدو أساسية في الحشد السياسي العام… ولسوف تفرض المساومات المقبلة، وهي ضرورية وليست ترفاً أو تعبيراً عن نزوات وأمزجة، التخلي عن بعض ما كان يعتبر في منزلة »المقدس«.
ولسوف تفرض الحياة إعادة النظر في الكثير من الشعارات الانتخابية، خضوعاً للواقع الذي لا يمكن تجاوزه أو تغييره بالرغبة أو بالنوايا الحسنة.
وإذا كانت الانتخابات قد برّرت تحالفات كانت تبدو مستحيلة إلى ما قبل شهور، فجعلت مثلاً »حزب الله« يعطي أصواته لمرشحي »القوات اللبنانية«، محكوماً بقوة »الضرورات التي تبيح المحظورات«، فإن قضايا أساسية أعظم خطورة ستفرض لحظها في برنامج هذه الأكثرية المركبة التي قد تهتز عند مواجهتها: بدءاً بالمندرجات »اللبنانية« في القرار 1559، وصولاً إلى مسألة العلاقة مع سوريا، وهي معلقة حتى إشعار آخر، لكن تعليقها إلى أمد بعيد ينذر بمصاعب جدية يمكن أن تشل أي حكم في لبنان، بغض النظر عن أعداد المنتسبين إلى أكثريته الحاضنة.
إن الافتراض بأن الأكثرية النيابية المركبة قد انتصرت بالديموقراطية سيصطدم كل لحظة بالواقع الطائفي الذي تحكّم في تكوينها، والذي سيضبط الإيقاع في مسيرتها نحو تسلم السلطة، بل هو قد يمنع تسلمها بالكامل، وقد يفرض عليها شراكة مع نقيضها، مما يحد القدرة على الإنجاز، هذا إن لم يعطله…
والوصاية الدولية ستظل أعجز من أن تبتدع صيغة للحكم بالتعايش بين خصمين، أحدهما متحصن بتمثيله لطائفته، والثاني يعتبر نفسه ممثل كل الطوائف لكن »فيتو الجنرال« (وربما آخرين) يُسقط ادعاءه هذا، كما أن المساومة فيه تعطل القدرة على التغيير المنشود.
بل ان هذه الوصاية الدولية ستزيد من أعداد القوى التي لها حق الفيتو، خصوصاً متى بدأ الحديث الجدي حول القرار 1559 بشقه اللبناني… ومن الطبيعي أن يكون من حق المستهدف في وجوده أن يسأل »حليفه« عن موقفه، وأن يطالبه بالتزام أصول التحالف وعدم الخروج عليه وإلا فإنه سيعتبره متواطئاً عليه مع من افترض أنه قد تحالف معه لمواجهته.
وبعد اليوم ستبدو الوصاية الدولية مصدراً للإشكالات والمتاعب، خصوصاً أن نصائحها بالتعامل مع الواقع ستبدو على افتراق مع الطموح إلى التغيير.
لقد حققت حرب التدخل الدولي في لبنان الأهداف التي تهمها، وأبرزها إجبار سوريا على الانسحاب من هذا البلد الذي لا يمكن حكمه من خارجه، كما لا يمكن حكمه عبر الحرب مع سوريا.
أما المسائل التي تعني الأكثريات التي حملتها الانتخابات إلى المجلس النيابي فلا تحتل مركز الاهتمام في جدول أعمال دول الوصاية الأجنبية، بل هي قد تتجاهلها تماماً إذا ما فرضت مصالحها ذلك التجاهل… فهي تستطيع الآن الادعاء أنها قد مكّنت اللبنانيين من انتخاب ممثليهم عبر انتخابات ديموقراطية، مع وعيها الكامل بأن هذا الادعاء غير صحيح بالمطلق، أما أي طريق يسلك اللبنانيون للوصول إلى غدهم المرتجى فمسألة فيها نظر.
ومن باب التذكير وليس من باب المقارنة يمكن الإشارة إلى ادعاءات الاحتلال الأميركي في العراق بأنه قد مكّن العراقيين من انتخاب ممثليهم ديموقراطياً، ومن اختيار رؤسائهم الكثيرين ومن المباشرة في وضع الدستور، ديموقراطياً، وما همّه أن يكون قد ذهب عشرات الألوف من الضحايا، وأن يكون العراق المحتل يغرق يومياً في المزيد من دماء أبنائه الذين توزعوا أيدي سبأ وفق طوائفهم ومذاهبهم وأعراقهم.
لقد منحهم »الديموقراطية«، ولكنهم خسروا عراقهم.
وبالعودة إلى لبنان يمكن استعارة تعبير ديني عن نهاية الجهاد الأصغر وبداية الجهاد الأكبر.
ومثل هذه المهمة التاريخية تحتاج إلى جهود أسطورية في قتال طواغيت الطوائف التي تتهدد البلاد في سلامتها.
ومن أسف فإن ترميم الحياة الوطنية في البلاد يحتاج إلى جهد حشد هائل من الجبابرة والقديسين، لا يعرف أحد إن كانت حروب الطوائف قد أبقت منهم من يستطيع إنجاز هذه المهمة المقدسة.

Exit mobile version