كيف لنا أن نصدق ما أغدقه عظماء العالم الحر من صفات تفخيم وتبجيل على لبنان جنّة الديموقراطية في مشرق القمع والجهل والتخلف ، كما كنا نسمع منهم، بينما نراهم يتركونه جميعاً لأنياب الحصار الإسرائيلي، بغير أن يقلقوا أو يهتموا بانعكاس هذا الحصار الوحشي على نظامه وموقعه ودوره واحترامه لأصدقائه الكبار؟!
على امتداد شهور طويلة ظل لبنان وديموقراطيته عالقاً على لسان الرئيس الأميركي الرقيق المشاعر جورج .و. بوش، يردد اسمه كما الصلاة، ويتغنى ب ثورة الأرز فيه، ويشيد بصمود شعبه الصغير في وجه الإرهاب، الذي حصر مصدره ببعض العرب والمسلمين، أنظمة ومنظمات.
وعلى امتداد تلك الشهور الطويلة ذاتها سمعنا من قادة دول أوروبا كافة، فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا (قبل تغيير حكومتها) وإسبانيا (قبل سقوط حكومتها السابقة بضربة الكذب القاضية)، المدائح المطوّلة للبنان، بمجلس النواب والحكومة فيه، إضافة إلى شعبه المقاوم للإرهاب والمتمسّك بأهداب الديموقراطية وحقوق الإنسان إلخ…
مرّت الأيام والمدائح تتوالى، وانفتحت أبواب القصور الرئاسية والمقار الحكومية أمام المسؤولين اللبنانيين، وأغدقت الوعود بلا حدود حول الاستعداد لمساعدة لبنان توطيداً للنظام الديموقراطي فيه واستنقاذاً لاقتصاده الحر من الغرق في الديون الثقيلة التي غرق فيها أو كاد…
ثم جاءت الحرب الإسرائيلية المدمرة، بذريعة خطف جنديين إسرائيليين مقدسين … فإذا بكل أولئك الزعماء المبجِّلين للديموقراطية وحقوق الإنسان (بدليل أن معظمهم غارق حتى أذنيه في دماء العراقيين بعد جريمة احتلال العراق، كما أن عدداً كبيراً منهم يحوّل عينيه عن فلسطين حتى لا يرى القتل اليومي المفتوح الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضد أطفال الفلسطينيين ونسائهم وشيوخهم، فضلاً عن إقدام هذا الاحتلال على اختطاف رئيس المجلس التشريعي ومعظم نوابه المنتخبين إضافة إلى بعض الوزراء…).
وظلت دول العالم الحر وأقطابها المعظمون يتابعون وقائع الحرب الإسرائيلية التي فاقت في وحشيتها واستهدافاتها التدميرية كل الحدود المتوقعة لأي حرب، بل ويحرّضون إسرائيل على متابعتها بأقصى ما تقدر عليه من قسوة وقدرة على الإيلام، مع التنويه بجهدها الاستثنائي في القضاء على الإرهاب الإسلامي ، حتى وهم يشاهدون صور مذابح الأطفال في قانا وأخواتها من قرى الجنوب وبعلبك والقاع فضلاً عن ضواحي بيروت الجنوبية، أو صور التدمير المنهجي للعمران وأسباب الحياة في معظم أنحاء لبنان…
وليس إلا بعدما أغرقتهم الوحشية الإسرائيلية في حرج أمام شعوبهم، حتى وافقوا على انعقاد مجلس الأمن، وعلى طرح مشروع قرار يعطي إسرائيل سلماً ما عجزت عن كسبه حرباً، فلما تعذر تمريره بنصه العنصري و الإرهابي والذي يدين الضحية ويكافئ الجلاد الإسرائيلي، عدلوا في نصوص بعض فقرات المقدمة ولكنهم تركوا النص حمّال أوجه بحيث تستطيع إسرائيل مواصلة حربها بغير أكلاف تدفعها من حياة جنودها أو حتى من نفقات غاراتها، بالطيران، أو قصفها بالصواريخ والمدافع.
وهذا الحصار هو تمديد للحرب الإسرائيلية بغير دوي.
إنها محاولة لخنق الضحية بعدما فشلت إسرائيل، بجيشها الجبار، في إلحاق الهزيمة بالمقاومة ودفع لبنان، بشعبه وحكومته، إلى الاستسلام.
إن الحرب الإسرائيلية مستمرة كأقسى ما تكون الحروب: إنها تستهدف إذلال اللبنانيين والقضاء على شعورهم بالعزة والكرامة لأنهم قاوموا فانتصروا ولو بكلفة عالية..
إنها الحرب: إسرائيلية بغطاء أميركي، أو أميركية بأداة إسرائيلية، ولا مهرب من التعامل معها بواقعها هذا… ولن تنفع المعالجات التقليدية واللجوء إلى الصداقات التاريخية مع زعماء العالم الحر والاستنجاد بالديموقراطيات العربية في استنقاذ النظام الديموقراطي اللبناني والاقتصاد الحر، ولا خاصة في إعادة إعمار ما هدمته الحرب الإسرائيلية إلا بالخضوع للشروط المهينة التي عجز الجيش الإسرائيلي، بكامل قدراته القتالية ومعها الجسر الجوي الذي أمدته به القيادة الأميركية بالقنابل الذكية عن فرضها بالقوة.
إن الحصار هو أعلى مراتب الحرب.
فلنواجهه على أنه أعلى مراتب الحرب.
ولنعدّ أنفسنا لاحتمال أن يطول، لدفعنا إلى الركوع، وتلبية الشروط التي عجزت إسرائيل عن فرضها بقوة جيشها.
ولنطالب العرب، بداية، ثم الأصدقاء الكبار الذين طالما حرّضونا بعضنا ضد البعض الآخر، وحاولوا ضرب مقاومتنا الباسلة بأيدينا، وتسخيرنا للتشهير بها وتحميلها مسؤولية هذه الحرب المقرّرة.
فالحصار دليل آخر، لمن لم يقتنع بعد، على صحة ما قاله السيد حسن نصر الله، أكثر من مرة، وعاد فأكده في حديثه ل السفير أمس، من أن هذه الحرب أميركية بقرارها إسرائيلية بجيشها وأنها كانت مقرّرة بعد شهرين أو ثلاثة، وكل ما فعلته عملية أسر الجنديين أنها أسهمت في تقديم موعدها وإن أربكت خطط تنفيذها..
وها هي إسرائيل مع الإدارة الأميركية تحاول أن تستدرك بالحصار ما عجزت عن تحقيقه بالحرب التي استبقت موعدها ففشلت في تحقيق أهدافها.
… وكان لا بد مما هو أقسى من الحرب بالنار، فكان: الحصار.
فلنقاوم الحصار بمنطق أنه الامتداد الهادئ للحرب الوحشية، وأنه قرار أميركي أساساً وإسرائيلي بالاستثمار!