تعتد حلب بأنها جمعت، تاريخياً، الى البراعة في الصناعة والريادة في التجارة، ”مجد” التذوق الفني والطرب الأصيل.
ويباهي الحلبيون بأنهم المعيار او المسطرة، فمن لم يطربهم ليس بمطرب، فحلب هي نبع الطرب، وهي ”اللجنة الفاحصة” للاصوات والمواهب وللالحان والاغاني وكل ما يدغدغ الوجدان ومكامن الحس بالجمال.
لكم هي غنية بتنوعها تلك المدينة البيضاء والعريقة بحيث كان يتعذر كتابة التاريخ وسِيَر الابطال من دون التوقف عندها وامامها،
من لم يبلغ حلب ولم يأخذها اصبح نسيا منسياً،
ومن دخل حلب دخل المشرق كله وانفتحت له ابواب سوريا بما فيها جبال لبنان والساحل السوري وكذلك ارض الرافدين،
.. فإذا كان آتياً من الشرق انفتحت له ابواب اوروبا عبر البوابة التركية.
في حلب تلاقت الحضارات وتلاقحت فأنتجت مجتمعا حيويا متفتحا ومنتجا وغنيا بتنوعه الذي يمتد من الملبس الى المأكل الى طراز البناء، ومن الصناعة الى الزراعة والتجارة فإلى الفنون عموما والغناء والتلحين على وجه الخصوص،
ألم تُعطِ حلب اسمها لبعض ألوان المغنى: القدود الحلبية؟
هذه الايام تستضيف بيروت بعض شميم حلب وبعض روحها: الشيخ حسن الحفار وفرقته.
الشيخ حسن الحفار ليس بمطرب: انه ”حالة وجد” كاملة.
إنه يغني وكأنه صوفي يتهجد ساعيا الى ”الوصول”.
السبحة القصيرة الخيط في يده، او ربما شفّه النغم فأخذ الرق ليضبط الايقاع، والتمكن من النغم يخوله حق التجول في المتقارب والمتشابه والمتكامل متدرجا على ذلك ”السلّم الموسيقي” وكأنه هو من وضعه.
من الموشح الى الشيخ زكريا احمد، ومن القدود الى سيد درويش، ومن الموال البغدادي او ما يقاربه الى رياض السنباطي، ومن نغمات تأخذك الى حلقات الذكر يستعيدك الى أفياء محمد عبد الوهاب،
كسلسبيل من الماء العذب يترقرق الصوت الجهوري النبرة، المضمخ بالنغمات القرآنية، مع روافد بيزنطية، وشجن عراقي (أليست الموصل الاخت التوأم لحلب؟)..
حلب تغني بيروت،
إنها لحظات فرح مختلسة في زمن الحزن السياسي الأبكم.