الصور من غزة ورام الله في فلسطين، لكن المشهد »لبناني« حتى ما قبل 24 أيار 2000، يوم النصر بالمقاومة على الاحتلال وإجباره على الجلاء: الحوامات الإسرائيلية الأميركية الصنع والطاقة التدميرية الهائلة تقصف مقارّ تكاد تكون بلا حراسة للسلطة الفلسطينية وشرطتها الفقيرة السلاح والذخيرة، فتندلع الحرائق وتولول سيارات المطافئ والإسعاف وهي تتقدم لإسعاف الجرحى وإنقاذ المحاصرين بالنار والموت.
الذريعة مقتل جنديين إسرائيليين في سورة غضب أخذت مشيعي واحد من الشهداء إلى الانتقام غير المدروس، والفوري، والذي لا يسأل عنه أحد..
الذريعة تكفي إيهود باراك لاستكمال نشر الجو الحربي على المنطقة، بل وعلى العالم، وخصوصا أنها تزامنت مع العملية الفدائية المجهَّلة الفاعل في مرفأ عدن اليمني ضد المدمرة الأميركية، مصوراً إسرائيل والولايات المتحدة معا في موقع المستهدف »بالإرهاب العربي«.
مرة أخرى نحن أمام عملية قتل جماعية منظمة بذريعة واهية.
والتهديد للبنان وسوريا مفتوح، بعد، ولعل باراك قد أراد بعمليته »المحدودة«، والتي اعتبرها »مجرد رسالة«، أن يُفهم اللبنانيين والسوريين أن »كلفة« الأسرى الثلاثة الذين نجح مجاهدو »حزب الله« في اصطيادهم داخل منطقة مزارع شبعا التي ما زالت تحت الاحتلال، ستكون ولا بد أعلى بكثير من كلفة الجنديين اللذين قتلهما الانتقام الأعمى في مركز الشرطة الفلسطينية في رام الله.
فالإسرائيلي مخلوق من الصنف الممتاز بل هو خارج التصنيف البشري المألوف، أما العربي، فلسطينياً كان أم لبنانياً أم سورياً أم مصرياً أم أردنياً الخ، فهو مخلوق للموت… من أجل رفاه الإسرائيلي واطمئنانه!
* * *
قبل أيام، تسمَّر العالم كله أمام شاشات التلفزيون وهي تنقل له من بلغراد مباشرة الصور التاريخية لتلك المسيرة العظيمة التي شارك فيها مئات الألوف من اليوغسلاف ضد الدكتاتور سلوبودان ميلوسيفيتش والتي انتهت بنصر باهر للديموقراطية ولحقوق الإنسان..
وكان »الرعايا« العرب بين المغتبطين بذلك الحدث »الأوروبي« العظيم، ورأوا فيه إعادة اعتبار للجماهير، للإرادة الشعبية، وانتصارا إضافيا للمواطن الأعزل إلا من إرادته على السلطة الغاشمة المدججة بالسلاح والمخابرات وأجهزة القتل المحترفة.
لكن هذا العالم نفسه تقبّل المنطق الإسرائيلي المخالف للمنطق والعقل والواقع، حين اتصل الأمر بشعب فلسطين!
صارت التظاهرة السلمية عملاً من أعمال العنف الذي يهدد الكيان الإسرائيلي، ولا بد من مواجهتها بالسلاح، ولا يبدل من طبيعة التوصيف أن يكون المتظاهرون فتيانا من عمر الورد، لا يحملون إلا دماءهم وبعض الشعارات ولا يلفهم إلا علم فلسطين ولا يمنحهم القدرة على تحدي السلاح إلا إرادتهم وإلا إيمانهم بأرضهم وطنا..
وصارت الدعوة إلى التفاوض من أجل السلام الإسرائيلي تأخذ شكل القنابل الحارقة والرصاص القاتل بالجملة!
أما الدعوة إلى قمة عربية أرجأها الخوف مرارا وفرضها الخوف المضاد، أخيرا، فهي بمثابة إعلان حرب على إسرائيل!
والقمة خيار صعب مشى إليه القادة العرب كارهين ومكرهين، إذ كان عليهم أن يفاضلوا بين أمرين أحلاهما مرّ: إما مواجهة شعوبهم بالحد الأقصى من القمع والعنف الدموي الذي قد يؤدي إلى انفجار الأوضاع المتردية وانهيار مواقعهم الممتازة برغم كونها محصنة،
.. وإما مداراة الغضب الشعبي وتنكب مواجهة بالحد الأدنى مع المحتل الإسرائيلي، وتوجيه »عتاب« إلى الراعي الأميركي لعله يمتنع عن تبني هذه الحرب الجديدة التي تهددهم بأكثر مما تهدد الفلسطينيين.
* * *
هل يستحق إنقاذ إيهود باراك وحكومته المنهارة من داخلها كل هذا الجهد الكوني؟!
هل هي محاولة لإنقاذ إسرائيل من نفسها، مرة أخرى؟!
وهل الإنقاذ يقتضي قتل الفلسطينيين وتهديد العرب بالحرب، بل والمباشرة بنشر جو الحرب فعليا على امتداد هذه المنطقة؟!
وهل هي محاولة دولية لمنع حرب من طرف واحد، هو القادر على شنها، أم أنها مشاركة في هذه الحرب ولو بالأسلحة الدبلوماسية؟!
أم أنها حرب وقائية تستبق القمة العربية لتحتجزها في وهدة العجز عن اتخاذ قرار بالمواجهة، وتمنعها من الاستجابة الاضطرارية للقيادات العربية لنداء الشارع المقموع والمفرغ من ناسه والذي أعطته الانتفاضة الفلسطينية الفرصة للتعبير عن نفسه ولتأكيد التزامه بثوابته القومية القديمة؟
برغم كل ما جرى ويجري فالمبادرة في يد الملوك والرؤساء العرب إذا هم أرادوا أن يكونوا في مستواها، وأن يكتسبوا »شرعية« من خلال الاقتراب من مطامح شعوبهم، ولو بحدها الأدنى.
إن هؤلاء القادة الآتين غداً إلى قمة طالما أرجأها الخوف يملكون أسلحة لا حدود لفعاليتها، ان تجاه إسرائيل أو حتى تجاه الولايات المتحدة الأميركية،
و»العملية السلمية« ذاتها أحد أخطر هذه الأسلحة، إذا ما أُحسن توظيفها فانفجرت في وجه الإسرائيلي والراعي الأميركي بدل أن تظل وسيلة لابتزازهم المزيد من التنازلات.
أما السفارات ومكاتب التمثيل والبعثات التجارية فتظل أقل تأثيرا من حجارة يطلقها فتيان الانتفاضة، وإن كان ضروريا التذكير بها… طالما أننا في حالة حرب مفروضة بقرارهم وليس بخيارنا!