بعد »التفاهم« يجيء دور »التفاهم على التفاهم«،
وإذا كان الرئيس السوري حافظ الأسد قد وصف »اتفاق أوسلو«، ذات يوم، بأن كل سطر فيه يتطلب اتفاقù جديدù، فإن »التفاهم« الذي ساهم الرئيس الأسد نفسه في صياغته كان لا بد من أن يجيء، كما هو فعلاً، شديد الالتباس، شديد الغموض، ليتيح لكل طرف أن »يقرأه« وفق ما يناسبه…
ذلك كان »اتفاقù« ينهي مرحلة كاملة من النضال الوطني للشعب الفلسطيني، ويؤسس لمرحلة جديدة تتحكّم بمجرياتها إسرائيل فارضة على القيادة الفلسطينية (وبرضاها!!) دور التابع أو الشرطي المجند لحماية الاحتلال الاسرائيلي، مستفيدة من تحكّمها في صياغة النص ومن ثم في تفسير مضمونه المبهم والمجحف..
أما »التفاهم« فهو أقل من »هدنة«. إنه توافق بالاضطرار على وقف إطلاق النار،
أي أنه ليس »اتفاقù« ولا يختزن مشروع اتفاق… بل انه، من حيث المبدأ، لا يحتمل، برغم الالتباس في مضمونه، أن يكون تمهيدù أو مدخلاً إلى التفاوض من أجل اتفاق، وهذه المرة بين الكيان الاسرائيلي و»الدولة« في لبنان، وبذاتها وليس باعتبارها حاضنة المقاومة أو راعيتها والضامنة لها.
ولقد أوقف »التفاهم« الحرب الإسرائيلية على لبنان والمقاومة فيه، بالطائرات والبوارج والمدافع، لكنه فتح في الوقت نفسه الباب للحرب الأميركية التي تولت مهمة التغطية السياسية للنار الإسرائيلية، والتي ستحاول الآن استغلال الالتباس والغموض المقصود في »التفاهم« لتحويله من »ورقة انتخابية« في يد صديقها الحميم شمعون بيريز، إلى أداة ضغط على الطرف اللبناني (والسوري) تستهلك بعض رصيد موقفهما التفاوضي من قبل أن تُستأنف المفاوضات التي علقها الإسرائيلي… ولأغراض انتخابية أيضù!
كان الهدف الإسرائيلي المباشر، من الحرب، تكتيكيù، أما الهدف الأميركي الإسرائيلي المشترك فهو استراتيجي، ولسوف تعتمد واشنطن الضغط السياسي المباشر، وقد تحشد أو تستنفر له قوى كثيرة على امتداد العالم، لتحقيق ما عجزت عنه الحرب بالسلاح، أي جر لبنان وسوريا إلى المفاوضات بالشروط الإسرائيلية (والأميركية ضمنù، إلا إذا فشلت الخطة، فيسحب الأميركي الفطن يده من دائرة النار ويعود راعيù للعملية السلمية)..
وساحة الصراع المقبل، التي انفتحت عمليù، ستكون: »التفاهم على التفاهم«.
لقد استغرق الوصول الى »التفاهم« ستة عشر يومù طوالاً من المذابح المتعمدة والتدمير المنهجي لمناطق واسعة في الجنوب خاصة ومعه بعض البقاع الغربي والضاحية، امتد ليشمل مرافق حيوية كالكهرباء.
أما »التفاهم على التفاهم« فقد يستغرق وقتù أطول، وجهدù استثنائيù مفتوحù، وحرب اعصاب اقسى، خصوصù ان الغموض أو الالتباس الذي يلف النص الاصلي يسمح بهامش عريض للمناورة والمناورة المضادة بطبيعة الحال:
لجنة الرقابة هي العنوان، لكن التفاصيل تكاد لا تحصى: صلاحيات اللجنة، وهل تقتصر على الجانب العسكري البحت، ام تمتد لتشمل »القواعد الخلفية«، مطلة بالتالي على الوضع السياسي عمومù، ومن ضمنه على المعطيات الاقتصادية (والمالية بالذات)، ثم، لمن تكون الرئاسة، وما هو دور الاطراف الاخرى، والفرنسي على وجه التحديد الذي يرى الاميركي انه قد حشر نفسه حشرù في امر لا دور له فيه؟! ومستوى هؤلاء الاطراف وهل يكونون مجرد منفذين قرارهم في العاصمة ام تكون لهم صفة سياسية تمكنهم من القرار، وفي أي الحالات؟! ناهيك بوسائل عمل اللجنة، مقرها، ميزانيتها، ادواتها التنفيذية، وهل يشارك رجال المخابرات العسكريون في المهمة، وهل يكون للاقتصاديين وجود ولو كمستشارين؟!
أما الاهم فهو »المدى الحيوي« لحركة اللجنة.. أي: هل تنحصر مهمتها بالاشراف على التزام الطرفين المعنيين (اسرائيل من جهة، والمقاومة الوطنية في لبنان، أو »حزب ا”«، من الجهة الاخرى) بوقف النار الذي كرسه »التفاهم« ام يمكن مطّ »التفاهم« والمهمة لتلامس موضوعات اكثر خطورة وشمولاً،
بصيغة أخرى: هل اللجنة الخماسية صيغة بديلة من الوفود المفاوضة؟! هل ستعمل دبلوماسية التشاطر الاميركي على ان تحولها الى اطار جديد للتفاوض يلغي ما قبله (أي مؤتمر مدريد وما انبثق عنه)، او الى تمهيد او مدخل مختلف لتلك المفاوضات المجمدة بقرار اسرائيلي؟!
وهل ستحاول هذه اللجنة برئاستها الاميركية ابتزاز الطرفين اللبناني والسوري لحساب الاسرائيلي، عبر الاشتباك المنظم والمحدود؟! ام لعلها تجرب إغراءها بتوسيع قاعدة البحث خارج الإطار الشرعي المعتمد منذ مدريد وحتى اليوم؟!
من الطبيعي ان الاميركيين سيحاولون »تطوير« التفاهم و»توسيع« مداه ومدلولاته،
ومن الطبيعي ان الطرفين اللبناني والسوري (ومعهما الى حد ما الفرنسي) سيستمران في صد هذه الهجمات المتكررة، مما يبقي »التفاهم«، في حجمه، اقل من هدنة، أي وقف اطلاق نار مؤقت، في انتظار »الاتفاق« الذي قد يحتاج من وجهة نظر اسرائيلية حروبù أخرى.
وأهمية المشاركة الفرنسية انها قد تكون بين ضوابط عديدة اخرى مانعù لمثل هذه الحروب التي لا تعني غير »اقتياد« لبنان وسوريا مخفورين الى اتفاق مماثل لتلك التي عقدها عرفات والملك حسين والتي امنت اسرائيل وأضاعت مستقبل فلسطين وأهلها وهددت مستقبل الأردن والعرش فيه.
وعلى اهمية ادوار الآخرين، فإن البداية والنهاية هنا: في بيروت والصمود اللبناني المعزز بالصمود السوري… ومعهما هذه البدايات الواعدة بقدر من التحول الطيب في المواقف الرسمية العربية، ولا سيما التي »هرولت« الى اسرائيل بأسرع مما يجوز وبأرخص مما يُحتمل!
وتكفي المقارنة السريعة بين الاخفاقات المتوالية التي تُمنى بها »سلطة« عرفات وبين النجاح الباهر الذي حققه لبنان بفضل تضحيات ابنائه وتماسك مجتمعه وحسن اداء الحكم فيه، والمعزز دائمù بالرعاية السورية وإدارتها المتميزة بكفاءتها العالية لهذا الصراع الذي سيبقى مفتوحù الى أمد غير معلوم!
حرب »تفاهم تموز« انتهت،
نحن الآن عشية الحرب الأخرى، حرب »تفاهم نيسان«،
فليبق كل في موقعه وعلى سلاحه..