… وعندما صارت منظمة التحرير الوطني الفلسطيني “سلطة” طويت أعلام التحرير وشعاراته وتحول “المجاهدون” أو “المناضلون” إلى “شرطة” علنية أو سرية مماثلة لأجهزة المخابرات العربية التي “تهتم” بأمن “السلطة” واستقرار الأوضاع الداخلية مرجئة “قضية التحرير” بأمل أن تتولاها الأجيال الجديدة.
في لقاء مصادفة مع بعض من رجال “السلطة” سألته عرضاً عن “أوضاع الداخل” فنبر مغضباً: ممتازة! فاطمئن… كانوا يثورون ضد الاحتلال، أما الآن فنحن الثورة. نحن سلطة الثورة، ومن يتحرك ضدنا فهو في حكم الخائن، وسنضربه بلا رحمة!
ـ لكن هذا يعني أنكم تحلون محل سلطة الاحتلال..
قال منهياً: “الحوار”: كنا نقاتل لتحرير الأرض، وقد حررناها، ونحن الآن السلطة، فماذا يريدون بعد؟! ليتركونا نعمل بهدوء.
.. ولكن السلطة لا تستطيع أن تفعل شيئاً. صارت حماية السلطة هدفاً بذاته، وتولى “العدو” حماية هذه السلطة العاجزة، فهي تحت الإقامة الجبرية فعلياً، فضلاً عن أنها محاصرة أمنياً وإدارياً ومالياً، وحتى “رئيسها” لا يستطيع التحرك إلا بإذن سلطة الاحتلال، أما بالنسبة للأشقاء العرب فكل من يريد زيارة “أراضي الدولة التي ليست بدولة” عليه أن يحصل على إذن من سلطة الاحتلال، فإن لم تكن بلاده قد وقعت “معاهدة صلح” مع العدو الذي ما زال عدواً، فإنه سيخضع للمساءلة في دولته بتهمة التعامل مع العدو الوطني والقومي، محتل الأرض المقدسة، مشرّد الشعب الفلسطيني، المقاتل ضد الأمة جميعاً مهدداً مستقبلها ووجودها …إلخ.
ثم إن الخلافات داخل الصف الفلسطيني قد مزقت ما أعطى الاحتلال للسلطة من أرض، وهكذا “انشقت” غزة فابتعدت إلى حد الذهاب إلى الحرب وحدها مع العدو الإسرائيلي، أو أنه استدرجها إلى الحرب ليثبت “انفصالها” عن “السلطة” أو تخلي السلطة عنها. وتكررت الحرب الإسرائيلية مرة ثانية، ثم مرة ثالثة، وتم تدمير غزة بمرافقها الفقيرة، وتم تشديد الحصار عليها حتى بالمؤن وسائر أسباب الحياة، و “السلطة” العاجزة عن النجدة تتصرف وكأن الحرب الإسرائيلية تشن ضد شعب آخر في بلاد بعيدة.
باختصار، صارت السلطة سلطتين: واحدة عاجزة ومفلسة في رام الله، وثانية تعيش تحت الركام في غزة لا هي تستطيع إعادة البناء، ولا تأتيها النجدة من “دولتها” الصورية ولا من الأشقاء الذين أداروا وجوههم إلى الناحية الأخرى معتبرين أن حكم حماس في غزة يريد أن يورّط العرب، بعنوان مصر أساساً، في حرب ليسوا مهيئين لها ويرفضون أن يزج بهم فيها..
[ [ [
ليس مفاجئاً أن تحول الخلافات متعددة الموضوع والتي استعصى حسمها على مساعي المصالحة التي تصطدم بجدران التعنت الداخلي، أو بمسلسل التدخلات الخارجية (العربية) أساساً، من دون إغفال الدور الإسرائيلي تحريضاً أو نفاقاً… وطبيعي أن العدو هو المستفيد الأول من هذا الوضع المزري الذي يسيء إلى القضية التي كانت مقدسة قبل أن تستهلك قداستَها السلطةُ التي ليست سلطة بالمعنى الفعلي، لا سيما أنها رهينة العدو الإسرائيلي، فضلاً عن أنها لا تملك قرارها ولا حرية حركتها، ويتحكم عدوها القومي بوجودها وبقرارها (إلى حد بعيد).
وبسبب من الخلافات المستمرة والمتفاقمة عداء صار للفلسطينيين داخل أراضيهم التي يفترض أنها قد تحررت مع أن العدو ما زال فيها يتحكم بقرارها، “سلطتان” بدلاً من سلطة واحدة.. فغزة، عملياً، صارت تحت “حكم الإخوان المسلمين” ممثلين بحركة حماس، مع شراكة معنوية مع الجهاد الإسلامي وشراكة اضطرارية مع سائر المنظمات الفلسطينية التي لا تشارك في السلطة، وإن كانت لا تملك ترف معارضتها.
كذلك فإن غزة التي دُمّرت، من قبل ثلاث مرات، ما زالت لما ترفع ركام الحرب الإسرائيلية الأخيرة عليها.. فقد حجبت عنها المساعدات العربية، وتبخرت “نخوة” قطر، وواضح أن أميرها الجديد الشيخ تميم بن حمد آل خليفة لا يحبذ نهج أبيه في ما يتعلق بغزة… فلا هو فكّر بزيارتها منفرداً أو مع السيدة عقيلته، ولا هو منحها “هبة” بملايين الدولارات لإعادة البناء.
لكأن “النظام العربي” يشارك إسرائيل، ومعها بطبيعة الحال، السلطة الفلسطينية في معاقبة الشعب الفلسطيني في غزة بعنوان “سلطته” التي انشقت عملياً عن السلطة في رام الله… وهكذا فقد تعامى الجميع عن واقع التدمير الهائل الذي تسببت فيه الحرب الإسرائيلية، ولم يتقدم أحد للنجدة خلال الحرب (وهذا قد يجد له أهل النظام العربي العذر في ضيق ذات اليد وانشغال كل نظام بهمومه الداخلية الثقيلة).. كذلك فإن أحداً لم يتقدم للمساعدة في رفع الأنقاض والمساهمة في إعادة إعمار ما تهدم في هذا القطاع من منشآت عامة، بينها المدارس والمساجد والمستشفيات، فضلاً عن أسباب العمران من “أبراج” و “منازل” ومرافق عامة، أما الضحايا من شهداء وجرحى وأيتام ومن فقدوا بيوتهم فليس لهم إلا الله.
ولقد زاد في أسباب الضيق الحصار الشديد والدائم الذي فرضته السلطات في مصر على هذا القطاع والذي شمل في ما شمل التدمير الشامل للأنفاق، وأعدادها تتجاوز الألف والتي لم تكن المعبر الأساس للسلاح، بما في ذلك الصواريخ، والذخائر، بل كانت تشكل شرايين حياة للقطاع المحاصر براً وبحراً وجواً، فعبرها كانت تصل البضائع والمؤن، كما أنها كانت معبر المقاتلين العائدين من دورات تدريبية في أقطار عربية وربما في بعض الدول الإسلامية أيضاً.
إن فلسطين جميعاً محاصرة بالاحتلال: والفلسطينيون جميعاً يعيشون تحت حصار عدو لا يرحم، ويعتبر أن “اعترافه” بالسلطة مجرد هدنة تمكنه من التهام المزيد من الأراضي لبناء المزيد من المستوطنات لوحوش المستوطنين المستقدمين من أربع رياح الأرض.
ومن أسف فإن المجاهدين السابقين الذين دخلوا إلى بلادهم بعد اتفاق أوسلو وتطبيقاته قد باتوا في موقع “حراس أمن إسرائيل”، إذا شئنا توصيف دورهم الفعلي… هذا قبل أن نتحدث عن الفساد الذي ضرب البنية الجهادية السابقة، وفتح أبواب الرشى والتمايزات الجهوية و “الطبقية” ـ إذا صحت التسمية.. فالموظف حريص على وظيفته، ومجموع (العائدين) لا يطلبون أكثر من الوظيفة والأمن، ثم أن التجارة استيراداً وتصديراً تمر عبر الإذن الإسرائيلي، والعملة المتداولة هي الشيكل الإسرائيلي، والدخول والخروج بإذن إسرائيلي… كذلك فإن الأمن حيث تتواجد السلطة في أيدي إسرائيل، حتى رئيس السلطة لا يستطيع التحرك إلا بإذن إسرائيلي.
كل فلسطيني على أرضه، سواء في الضفة أو في غزة هو “رهينة”، وللشرطة الإسرائيلية، بل للجيش الإسرائيلي أن يداهم أي مكان، في قلب رام الله أو في مختلف أنحاء الضفة، وأن يعتقل من يشاء، بل وأن يقتل حتى الأطفال والأمهات كما جرى في قرية دوما للطفل الرضيع علي دوابشة ذي الـ18 شهراً الذي سرعان ما قضت والدته ريهام دوابشة كمداً بعد أيام من استشهاده.
لا الاحتلال ولا الحصار نجح في توحيد الفلسطينيين، سلطة وشعباً،
أما السلطة فتخادع نفسها وتتوهم أن أسباب “الدعم الدولي”، وهو ليس دعماً فعلياً، إنما محاولة لتبرئة الذمة من جرائم إسرائيل، بعد زمن من ارتكابها، بمنح “السلطة” حق الانتماء إلى بعض المؤسسات الدولية ذات السمة القضائية، أو حتى السماح لها برفع راية فلسطين فوق مبنى الأمم المتحدة في نيويورك.
الشكل مستوفى: رئيس السلطة يجول فيستقبله الملوك والرؤساء العرب، وبعض المسؤولين في بعض دول أوروبا، وبالذات روسيا، فضلاً عن بعض دول أفريقيا.. وقد يُعزَف له النشيد الوطني، وتنشر وسائل الإعلام صوره مع القادة، عرباً وغير عرب، لكن القضية تفقد بريقها يوماً بعد يوم، واليأس من إمكان تحقيق حلم “الدولة” يتهاوى بتأثير التدهور في الأوضاع العربية الذي بلغ ذروته بتفجر الحروب الأهلية في أكثر من دولة عربية، وبتحريض وتسليح ورعاية دولة عربية واحدة أو دول عربية عدة.
أما المضمون فيتلخص في أن “السلطة” رهينة الاحتلال الإسرائيلي وقد غاب النصير العربي (ومعظم الدول ذات التأثير مشغولة بهمومها الداخلية الثقيلة وليس عندها فائض من الوقت للاهتمام بفلسطين..).
صار للسلطة وزاراتها وسفاراتها ووسائل إعلامها الخاص، وصار لها الكثير من “شكليات الدولة”، لكن حلم الدولة يتبخر، لأسباب موضوعية أبرزها العجز الذاتي وغياب الحاضنة أو الحواضن العربية والقدرة على تحويل التعاطف الدولي مع حقوق الشعب الفلسطيني إلى قوة فعلية تساند الشعب الفلسطيني في معركته لاستعادة حقه في أرضه، بل في بعض أرضه… من دون أن ننسى المحاولات الإسرائيلية المتواصلة للسيطرة على مزيد من الأرض، بداية داخل القدس الشريف ومن ضمنها ما يتهدد المسجد الأقصى، ثم في مختلف أنحاء الضفة.
لقد انتهى زمن الثورة، وقرع جرس الانصراف للثوار الذين تحولوا إلى موظفين أو خرجوا بيأسهم إلى بلاد الله الواسعة.
على أننا كسبنا استيلاد فلسطينات جديدة من صلب فلسطين: فلدينا الآن الضفة الغربية بسلطتها (وقد سوّر الاحتلال الإسرائيلي الحدود مع الأردن لمزيد من التضييق عليها)، وغزة مهدمة ومحاصرة براً وبحراً وجواً، وهي تذهب تدريجياً إلى النسيان، لا سيما في ظل الصراع على السلطة الذي يتهدد الآن مشهد “الوحدة الفلسطينية” الذي كان لنضال هذا الشعب العظيم ذات يوم.
والأوضاع العربية الراهنة تبشر بمزيد من البؤس الذي سيتجاوز فلسطين ليعم “بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدانِ”..
في انتظار ثورة جديدة بأفق مفتوح وبقيادة من صلب هذا الشعب العظيم.. ولو طال الزمن.