ليس عند التاريخ وقت ليكون عادلاً. هو يظهر انه وحشي، كئيب، مأساوي. قلما يصدق. وفي معظم الاحيان، يميل الى المنتصرين. التاريخ منحاز جداً. المغلوبون يغيَّبون والمنتصرون يتربعون بأسمائهم فوق الأزمنة المتناسلة. إنه دعوة إلى الكآبة ونزوع إلى المأساوية.
تاريخ البشرية كئيب ومأساوي جداً. المنتصرون يتصفون بالفجور. الخاسرون في الظل والعتمة. تاريخ البشرية لا إنساني. إنه موحش وشرير. المهزوم منفي يعيش في الظلمات كميت دائم. لذا، قيل إن الحياة منصة الفائزين ولو كانوا قتلة.
لم كل هذا الكلام اليوم؟ هو يصلح للماضي البعيد. هناك ادعاء بأن الماضي كان همجياً. صح. ماذا يقال عن الحاضر وما قبله بقرن. إنه التوحش المعولم وهو تكريس لمقولة صعبة التصديق:”الإنسان مسكون بطاقات مدمرة، أبرزها التسلط” (كانط). وعليه، فإن الدولة، أي دولة، منذ بدء التاريخ حتى لحظة الحرب الروسية الأوكرانية، هي مجموعة “الارادات الشريرة”. لذا يجب الابتعاد عن المستحيل: اختراع دول عادلة، اخلاقية، انسانية. مثل هذه الدول فاشل وقوامها كرتون وضعف وهزال. تاريخ البشرية شاهد على فوز الشر على الخير. الجنس البشري يعيش في جحيم مستدام. فالشر يغلب الخير. الشر سهل ومدار فخر، لأن الانسان يفتخر بقوته وماله وارتكابه. كذلك الدول، عندما تروي تاريخها، تُعدد معاركها. وعندما تحتفل بانتصاراتها الكريهة، تستدعي من يغسل الدماء، ليُضفي على السلطة مدائح القوة.
إن ارتكاب الشر سهل وامتهان الخير ضعف والاخلاق ترف والايمان بأن الانسان موعود بالسعادة هو فصل من فصول الخرافة.
خلاصة القول: الحرب حاضرة ومستدامة وعامة وعابرة للأزمنة والقارات والمبادئ والديانات والطوباويات. انها غضب مبارك من ابالسة السياسة واصحاب الفضيلة والسماحة والقرصنة والمال.
لا مناعة ضد الحرب. لذا يمتنع السلام.
آخر الحروب الحديثة نعيشها عبر شاشات التلفزة. مشاهد عن الحرب وصور عن احزان وخوف ونساء واطفال ورعب وآلام وضياع وذهول. وكأن الأرض استحالت جحيماً. والغريب أن العالم المتفرج فقط، منحاز، وانحيازه فوري ومبصوم ومفهوم. المعسكر الروسي التم بسرعة. المعسكر الاوكراني شهر حربه الاقتصادية. في لبنان الصغير جداً، “العاجق الأرض والكون” (تفنيص وادعاء لبناني فاشل) هذا اللبنان منقسم ومنحاز. من طوائفهم تعرفهم. من تبعيتهم تدركهم. اصطفوا في الفسطاطين. لم يتغير شيء البتة. هنا من هو مع اميركا واوروبا واوكرانيا. وهناك من هو في معسكر موسكو…
الردح الاعلامي ظاهر. هناك كما في كل انحاء العالم. الحرب الاعلامية فتّاكة جداً، والحرب الاقتصادية مخربة ومنحطة كثيراً. الندرة صارت كثيرة الحضور. الغذاء في خطر. الجوع على الابواب. الموت في كل مكان. العبث مرارة النفوس. مشاهد الهاربين جارحة. الغريب، أن هناك من ينكر الحقائق الدامغة. لا يشفق على المرعوبين، نساء واطفالاً وشيوخاً. يهمهم فقط “البيغ بوس” العسكري. أن يرضي اميركا ويخضع لها. او يصف إلى جانب بوتين وروسيا، مع دعم اقواله ومواقفه على العمياني.
على الأقل، يجب أن يعترف هؤلاء. أن الاتحاد السوفياتي مات من ثلاثة عقود، وان روسيا هي المنافس الرأسمالي للعالم الغربي. أي ثمة محاولة لإعادة التوازن بين العملاقين، بعدما خر العملاق السوفياتي على وجهه وتناثر غباراً سياسياً، وبات من الماضي السحيق.. على الأقل يجب أن نتصرف جميعاً، أن العالم يُدار بالقوة وليس بالتفاهم والاقناع. اميركا قررت أن تحكم العالم بجزمتها. أن تقود الحكومات بإشارة منها. هي متواجدة في كل حكومات العالم الضعيفة. لا يجرؤ أحد على عصيان اوامرها. لبنان من هذه الدول التي تنقسم ” شعوبها” بين اصبعين اثنين: أصبع بايدن وأصبع السيد. مع ما في ذلك من ترميز لحالة السياسة في معظم انحاء الكرة الارضية. موسكو لم تعد كما كانت عندما سقطت كآنية الفخار. اقدامها من حديد. صلبة المواقع والمواقف. لا تقبل بأن تقاد ابداً. تريد لها مقعداً في ادارة العالم. عالم بقطب واحد مستحيل. عالم متعدد الاقطاب، توزيع للصراع والنفوذ.
بالمناسبة: السياسة تكره الفراغ. اوروبا تتقلص. وداعاً للمستعمرات. وداعاً لأوروبا الموحدة. “الناتو” اختزلها وأهلمها. تذكروا صفقة بايدن مع أستراليا وبريطانيا والغواصات الاميركية التي صارت بديلاً عن الغواصات الفرنسية. هذا ليس شأناً عابراً ابداً. إذا ماذا؟
انتهت حرب العقائد الكاذبة. كل عقيدة تلجأ إلى الحرب واستعمال القوة تخسر عقيدتها وتكتفي باحتلال ونصرة السلطة والحزب المتسلط. العقائد لا تنجح وحدها. انها بحاجة إلى دينامو يضخ فيها القوة، ولا قوة ابداً تضاهي قوة الرأسمال.
انه زمن صراع الرأسماليات في العالم. الماركسية لوحت مودعة، أفلت. ماضٍ مضى مهزوماً. الشعارات المثالية كذبة. الحرية، العدالة، المساواة، الحوكمة، التنمية، التقدم.. هذه ليست لكل الناس والجماعات. الرأسمالية هي دين البشرية، والاديان والعقائد لا تغفل هذا الموقع الذي تحتله الرأسمالية المجرمة.. لا يهمها ذلك. فضيلتها انها تنجح وتسحق. الحروب تنتقل من قارة إلى قارة. في كل منعطف بؤرة مستقلة. لم تشتعل بنفسها، هناك من أشعل وقودها.
انه انقلاب تاريخي مشين. العالم يتقدم من الى، عبر اهتزازات ارضية وجغرافية. العالم اليوم على شفا أطراف ودول زلزالية. كأن العالم يتحرك بشكل غير طبيعي. مدفوع بارتجاجات زلزالية، وبراكين قذفت حممها فجأة. الحركة العالمية مصابة بنوبات عصبية وجنونية. الأزمات تتوالد. الحروب تجد من يخدمها من الاشقاء والاشقياء.
بحلقوا جيداً في هذا العالم: العرب منتشرون في الخنادق. الدم مجاني. العنف مجنون. القتلى بلا أسماء. ارقام فقط. المسيرة الكبرى اليوم، هي أفدح المسيرات في التاريخ. الفقر يقتل دولا وشعوباً. الشعوب تهج من فقرها وعوزها. افريقيا تتسلل بجرأة إلى اوروبا. اميركا الجنوبية تجتاز الحدود وتصل إلى الولايات المتحدة الاميركية. الحروب الداخلية غرباً، هي حروب ضد الفقراء والمهاجرين.
اللبنانيون عرفوا مراراً نزوحاً نهائياً. ابان الحرب الكونية نزحوا على سطوح البواخر. ماتوا على الطرقات. ابتلعتهم بحار. غيبتهم ازقة وشوارع ومنافٍ. ثم هاجروا لبنان في حرب “الخمسة عشر عاماً” اللبنانية.. الهاربون من جحيم لبنان. لن يعودوا. هذا من دون أن نحصي عدد القتلى، شهداء الطرفين.. لبنان غالٍ جداً على الغرب. ويريدونه مثله. ضد بعض اشقائه الذين خرجوا عن الصراط الاميركي – الأوروبي.
قليل من الذاكرة. كم حرباً عربية؟ اسرائيلية؟ كم عنفاً؟ كم قتلاً؟ كم تدميراً؟ كم بؤساً؟ فلسطين، منذ مئة عام وهي الضحية ولا تشبهها اية مأساة سابقاً، أقدم الغزاة الغربيون على غزو الهنود في القارة الجديدة. ابادوهم. قتلوهم. سمموهم. ثم اقاموا العدالة الدامية. الأحمر في خدمة الأبيض وإلا… فلسطين كذلك. شذاذ تجمعوا بعد اضطهادات سحقتهم، وانزلوهم في ارض لها شعبها… الشعب ممنوع من الوطن. الغرباء المحتلون يقيمون وطناً وترسانة وجبهة عسكرية مدعومة من الغرب، بأمه وأبيه.
هؤلاء في الغرب، يقفون مع المعتدي.
فاجأهم بوتين. لم يجرأوا على مواجهته الا بحرب اقتصادية.
انه انقلاب تاريخي.
الخريطة البشرية تنزف دماً. بلاد العرب مذبوحة بأيادٍ عربية مدعومة من الغرب الرأسمالي. الشرق الأوسط ستعطى فيه حق الإمرة إلى “اسرائيل”. من المحيط إلى الخليج، مآسٍ، أفدحها اليمن، أشدها لبنان، اسوأها سوريا، ادماها العراق وكردستان. لبنان الساجد على جبهته. مفلس بلا رجاء. الأموال والنفط مربوطة بحرب سياسية، عبر نزع سلاح المقاومة… خرافة مستحيلة. هؤلاء لم يقرأوا بعد، أن عصراً جديداً بدأ. وهو قوي. انه عصر المقاومة العاقلة، الحاسبة، المؤمنة، المتصلة بقضية وطنية وقومية وانسانية.
لنعد إلى البداية.
لماذا حدث ما حدث؟ لماذا تغيرت البوصلة؟ الدول الرأسمالية تدين بقوة رأس المال. وروسيا رأسمالية. باعت الاشتراكية بعد فشل تطبيق الماركسية. ماركسية البولشفيك زاغت عن ماركس كثيراً.
الرأسماليتان تتصارعان، للمرة الثانية في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين. النازية، قومية رأسمالية. الجمهوريات الأوروبية والممالك، كانت ممراً للاستقواء الرأسمالي. حروب الرأسماليات أشد فتكاً من حروب الطوائف والقوميات. ولا تعجُب ابداً، إذا أصبح الدين في خدمة الرأسمال اولاً. فالله عندهم، سماء، واسهمها للبيع.
بدأ التحول البنيوي في الرأسمالية، عندما استغنت الرأسمالية عن رجال الفكر والسياسة والبراغماتية، واستدعت كوادر المصارف والشركات وموظفيها لإدارة الصراع الرأسمالي على مستوى الكوكب، بعد انتصار “العولمة” المؤقت وبعدما أصبح الكوكب كله تحت وطأة وسائل التواصل، التي اصبحت رئة التجارة، الصناعة وحركة الاموال ووو.
الرأسمالية هي الدين الجديد للعالم، كل العالم. دين، له كهنته ومؤسساته وامواله وعقاراته واعلامه ومثقفوه ومنافقوه.
في هذا المناخ الالزامي، تصبح السياسة خيانة دائمة للأفكار.
انما، انما.. هذا ليس خاتمة المطاف. لا أحد قادر على طرد الحرية والقيم والحب والفكر والفن. لا أحد قادر أن يحتل الروح ردحاً مزمناً.. حتى العبيد، انهم أكثر الناس تعلقاً بالحرية؟ والجائعون والفقراء أكثر الناس تعلقاً بالعدالة.
عار على الرأسمالية: انها تؤمن بالقوة والعنف والإخضاع والسلب.
الأغنياء تاريخياً، تديَّنهم كاذب.
الفقراء، تاريخياً، تديَّنهم أحمق ولكنه حقيقي جداً.
الدين عادة، في خدمة رأس المال اولاً، والله عندهم سماء وأسهمها للبيع.
تذكروا صكوك الغفران، ثمن الحروب الصليبية.
انهم يبيعونك السماء… ويأخذون منك الارض ورغيف الخبز وعرق الجبين.
أخيراً علينا أن نتأمل جيداً، بالتاريخ الآتي. من سيصنعه. هل ستكون لنا هنا في هذا الشرق، حصة لنا نصفها.
فلسطين هي بداية العبور…الى الحرية والى رحاب الانسانية.