الفرد منا يتعرض هذه الأيام لثلاثة أنواع من الحروب النفسية، نوع يتعلق بصحته والصحة العامة في مجتمع قدر له أن يعيش فيه، ونوع يتعلق بمستقبله ومستقبل وطنه وأهله والأمن والسلام ليس فقط في دولة أو إقليم يعيش فيهما بل في العالم بأسره. أما حروب النوع الثالث فتستبعد أغلبية السكان وتختار ضحاياها من بين أقلية استطاعت بجهودها وإنجازات العلم والطب على مر السنوات الماضية أن تمد في أعمار أفرادها حتى أنهم الآن يعيشون عمرا مديدا، عمرا يبدو أنه تجاوز، في نظر جيل الأبناء، الحد الأقصى المسموح به للإنسان المعاصر.
كبارا وصغارا، نساء ورجالا، شبابا وشيوخا، نستيقظ صباح كل يوم على أخبار تنقلات وغزوات كتائب الفيروس وقوائم تنعي لنا أعداد المصابين وأعداد من سقطوا موتى. لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن تقع حربا قرب بيتي وداخل مدينتي أو على ضواحيها ولا أحد يقرأ على مسامعي صباح كل يوم أسماء الشهداء. لم أفهم لماذا ومن قرر استثناءهم من مبدأ اعتبارهم شهداء. ألم يسقطوا، حسب معايير العصر وتوصيف الحال، في ساحة الوغى؟. رأيت على الشاشات وسمعت من شهود عيان عمن سقط في الحرب الراهنة يتلوى من الألم ومخلفا وراءه عائلة لن تجد سندا أو رفيقا بحالها، رأيناه على شاشة التلفاز محمولا في صندوق قبل أن يلقى بهما معا في خندق حفر لأمثاله في مكان بعيد عن جيران وصل إلى قلوبهم حقد أسود. هؤلاء خرجوا إلى الطريق العام يعلنون نبذهم لجار دمث الخلق كريم المعشر خدوما لعشيرته وأهل حارته عاد إليهم جثة هامدة في صندوق خمنوا أنه لن يخلو والجثة أيضا من فيروسات لم تمت.
غضبت شعوب من حكوماتها وغضبت حكومات من شعوبها والحرب لا تزال ناشبة. غضب شعوب لأن حكوماتها لم تؤد وظائفها المكلفة بها في واحد من أبسط العقود الاجتماعية المعقودة بين كل الشعوب وحكوماتها منذ القدم. لا يهم إن تنكر لها طرف أو آخر فالعقد قائم بحكم الواقع طالما وجد شعب وحكومة على أرض واحدة. تفهم الشعوب أن العقد ينص على واجب الاستعداد لمواجهة الأعداء وصد الغزو ورده على أعقابه بالسرعة الممكنة وبأقل خسائر بشرية. وتفهم الحكومات أن العقد ينص على أن تشترك الشعوب في تسهيل مهمتها فلا تشكل بجهلها ولا مبالاتها طابورا خامسا يعرقل جهود صد العدوان. عشنا أسابيع نشاهد من وراء ستائر شبابيك بيوتنا حكومات تعتقل بالفرح والسرور شعوبها في بيوتهم وشعوبا تتمرد فتخرج إلى الطريق العام مزهوة بالتغلب على إرادة قوة وصفتها بالقهر وتعويض العجز.
حرب غريبة الأطوار تلك التي تشن علينا ولم نستعد لها، وكعادة الحروب نتوقع ألا تهدأ وتتوقف إلا بعد أن تكون قد ساهمت في صنع طبقة من الشركات وأصحاب المال والعلماء والأطباء والسياسيين والإعلامين ليتولوا مع غيرهم من ذوي المصلحة إدارة مجتمعات ما بعد الحرب. نتوقع أيضا أن تقبل الوضع الجديد الشعوب التي لاشك في أنها سوف تخرج من الحرب النفسية المفروضة عليها منهكة وقد اختلت ثقتها في مسلمات ومؤسسات عديدة. من موقعي أرى النماذج في إسبانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وغيرها جاهزة وواضحة.
الحرب الثانية التي وجدت بعض الأشرار في عالم اليوم جاهزين لشنها دون الأخذ في الاعتبار الأضرار الجسيمة التي سوف تصيب البشرية بأسرها هي الحرب العنصرية التي بدأت تنطلق من واشنطون وعواصم غربية أخرى ضد آسيا وبخاصة الصين. أفهم أن مدارس فكرية وسياسية في الغرب لم تتح لها الفرصة لتنسى أطروحة صامويل هانتينجتون عن صدام الحضارات. تراجعت في الذهن العام والإعلام الشعبي الأطروحةـ الأسطورة بعد فترة تربعت فيها على عرش الأساطير العصرية. تربعت عندما كانت الحرب ضد الإرهاب، بالصدفة المحضة أو بغيرها، تلهب ظهور أغلب شعوب الشرق الأوسط، وتلهب بين الحين والحين مشاعر وبعض مصالح سكان مدن كبرى بأوروبا. فسرها مفكرون وسياسون مخضرمون بأنها أما وقد أثبتت صدق نبوءتها بصدام يقع بين الإسلام والغرب، صدام استفادت منه قوى اقتصادية مهمة في الغرب، قوى تنتج السلاح وتبيعه وتهربه وقوى تسلح ميليشيات وتدربها وتبعث بها جيوشا لتحتل بإرهاب أو باسمه دولا كانت هي نفسها متهمة بتصدير الإرهاب، آن أوان أن يبدأ أو يتحقق الصدام الثاني الذي تنبأ به الاستاذ هانتنجتون. الصدام مع حضارة “الجنس الأصفر”.
لم تتوقف جهود إشعال الكره للصين شعبا وثقافة وسياسة منذ عهد باراك أوباما وتحديدا منذ أن دعا تحت تأثير المؤسسة العسكرية الأمريكية إلى تحويل تركيز الاهتمام الاستراتيجي للولايات المتحدة من أوروبا الحليفة المتقاعسة والشرق الأوسط الإسلامي إلى منطقة شرق وجنوب شرق آسيا. بمعنى آخر الانتقال نهائيا من عصر الحرب الباردة ومرحلة حروب الإرهاب إلى عصر جديد بعنوان مختلف. كان مفهوما في ذلك الحين أن أمريكا المنحدرة المكانة والقوة، بصفة نسبية وأيضا مطلقة، يتعين عليها أن تركز جهودها على الاستعداد لمرحلة قادمة يتقرر فيها مصير القيادة الأمريكية لنظام دولي رعت أمريكا نشأته وتطوره وهي الآن ومنذ فترة غير قصيرة كانت شاهدة على بدء انفراطه وترهل مؤسساته وانحسار منظومة أخلاقياته وقواعد عمله.
شن الفيروس اللعين حربه في وقت كان من الممكن أن يستفيد به الرئيس ترامب المستعد بكل طاقته والمعززة مؤخرا بسقوط مساعي عزله. بدا في الأسابيع الأولي واثقا من قدرته ونيته على تطويع الفيروس وجحافله لإرادة الزعيم الذي لا يقهره خصم أو عدو. شجعته الأنباء الواردة من الصين عن صعوبات اقتصادية واجتماعية نجمت عن إغلاق مقاطعة بحجم وسمعة ووهان. ضم هذه الصعوبات إلى أرصدته وانطلق مدفوعا بغرور لا أساس له في الواقع الأمريكي والدولي يحشد كل كره ممكن وغير ممكن للصين في نفوس الشعب الأمريكي. ساعده في رأيي الحملات السياسية والإعلامية التي رتبها وأمعن في تضخيمها الرئيس الأمريكي وبخاصة تلك التي نشرت فرقة يقال إنها غير مسبوقة بين طبقات وفئات وعناصر وأجناس الشعب الأمريكي في تاريخه القصير نسبيا. تكاد تقترب هذه المرحلة من نهايتها بعد أن وصلت العلاقات الأمريكية الصينية إلى أسوأ مستوياتها، وبالفعل اشتعلت بالاهتمام كافة القضايا المتصلة بالصين. وصدرت فيما يبدو التعليمات إلى مختلف الأجهزة والمؤسسات الأمريكية بالاستعداد لمواجهات متتالية مع الصين على مختلف الأصعدة وفي كافة بقاع العالم والعودة إلى وضع حلفاء أمريكا أمام خيارات محددة في علاقاتها مع الصين.
أعترف بأن لي مصلحة شخصية فيما قد يبدو تضخيما للنوع الثالث من الحروب النفسية التي يتعرض لها الفرد في المرحلة الراهنة من تطورنا. أقول أننا نشعر، أتحدث عن جيل كامل ينتمي إلى الفئة من البشر الذين نجحوا في الانتصار على متاعب العصر وأمراضه وعاشوا ليتجاوزوا في العمر ما لم يكن مسموحا لمن سبقوهم به، نشعر بأننا صرنا فئة بشرية غير مرغوب وجودها في المرحلة الراهنة من مراحل الحرب ضد الفيروسات الغامضة. قرأناها وسمعناها صريحة ومدوية تصدر من أفواه مسؤولين أمريكيين وأوروبيين. الأفراد فوق السبعين والثمانين في نظر الواقعيين الجدد في الحكومات النيوليبرالية وربما في حكومات تعتنق ما يقترب من أن يكون مزيجا من رأسمالية واشتراكية وتعاونية واجتماعية وما يحلو لتبرير سلطوية الإدارة والتخطيط، هم في نظر كل هؤلاء، عبء كبير على الدولة في الظروف العادية وعبء أثقل في ظروف الحروب وبخاصة الحروب من نوعية الحرب الدائرة حاليا مع فيروس لا يراعي رهف كبار السن وحساسياتهم.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق